-15- |
المكان: بلا سقف.
|
الزمان: الغد.
|
الصوت: مسافة.
|
الرؤية: صوت.
|
* * * |
- قالت له: أراك مستغرقاً في التأمل.. أحادثك فلا ترد علي، فما هو إحساس الصمت هذا فيك الآن؟! |
- قال: أحس بهذه الأشياء التي تنبثق من صدري ولا ترينها.. كأنها الفعل الذي أحياه، وكأنها رد الفعل الذي يتبلور في تأملي رجعاً من الذكريات والمواقف والأصداء! |
- قالت: كأنك بهذا الاستغراق تضع حاجزاً بيني وبينك.. أو بيننا وبين اللحظة التي جمعتنا لتوحدنا معاً إنساناً واحداً! |
- قال: الإنسان يحتاج بين فترة وأخرى إلى هذا التفرغ مع نفسه. |
- قالت: ولكنك تقول لي دائماً إنني نفسك، وإن ليس هناك ما تخفيه عني.. فهل تريد أن تبعد فقط؟! |
- قال: أنا لا أبتعد عنك، ولا أطيق ذلك.. ولكن الإنسان يجد نفسه أحياناً تفر منه إلى البعيد.. تأخذه إلى زمن مضى بذكرياته، وعمره، وشجونه.. بينما أترك حضوري وحيداً في غرفة مغلقة.. لا أراه! |
- قالت: بما يعني أنك تفر مني إلى ماضيك وذكرياتك؟! |
- قال: بل أفر بك، وإن كنت لا أحادثك، لكنك تبقين معي، تدخلين معي إلى الذكريات، وإلى الأصداء، وإلى الشجون! |
- قالت: ولماذا لا يكون دخولك بصوت مرتفع، لأسمعك، وأشاركك؟! |
- قال: إنها لحظة صمت يبوح.. وعليك أن تحترمي هذا الصمت! |
- قالت: لن أغضب منك، ولكني أريد أن أشاركك.. فقل لي: كيف يرجع الناس أزمانهم التي ولّت إلى الزمن الجديد، فلا يخرجون من الأمس.. وفي نفس الوقت يستقبلون الغد.. فبماذا يشعرون؟! |
- قال: سؤالك يأتي في صورة متماوجة، والإجابة عليه تتحد في الرؤية الداخلية التي تطل من أعماق النفس.. كأنها فتحة من كهف قديم. |
- قالت: لا تدعني أضيع في عبارات تتدفق منك، حتى تغرق السؤال الذي من أجله أشعر وكأنك تراوغني! |
- قال: أراك تتعاطفين مع التأمل إلى درجة إقدامك على جرحه.. ولكنني لم أقل عبارة أسى، أو تخلي عنك.. ولا يمكن أن يلبس وجهك الجميل هذا لحظة قلق.. حتى ولو كان القلق حباً ولهفة على من تحبين! |
- قالت: وإذن؟! |
- قال: إنني استغرقت فقط في تجربة العمر، وطردت وراء ما كسبت وما خسرت طوال هذه السنوات.. كإنسان يتطلع إلى ما يعيشه فيجده في الكثير منه ممسوخاً من كل ما كان يحياه وضاع في المعاناة وفي التحدي، وفي الطموح! |
- قالت: ولكنك كسبت بما يفوق ما خسرت أضعافاً.. فلم هذا القلق؟! |
- قال: ليس هو القلق، ولكنه الحب الأعمق لك، ولهذه الحياة التي جمعتنا وأصبحنا فيها إنساناً واحداً.. وأنا لست الرجل الهرم، لأن ألماني لم تجف بعد، والأحلام لم تبهت، والقدرة متواصلة في حالة واحدة.. إذا استمر هذا الحب منك لي، فبدونك أبدو ضائعاً، ظمآناً. |
- قالت: وإذن مرة أخرى، فالهواجس التي أسميتها تأملاً لا تلتصق بتجربة العمر.. فربما كانت تجربة واحدة هي كل العمر، وربما كانت تجارب عديدة ضياعاً للعمر! |
- قال: فما هي المشكلة التي ترينها، وتجادلين فيها؟! |
- قالت: إنني لا أجادلك بمعنى الخلاف وشجب ما تراه وتحسه، ولكني أحاورك وأتعاطف مع تأملك، حتى ولو كان هاجساً.. والمشكلة يا حبيبي ليست محددة في الزمن الذي يمشي بأعمارنا، أو في أعمارنا التي يستهلكها الزمن، وتضعفها التجارب! |
- قال: أين المشكلة إذن.. أريحيني؟! |
- قالت: لا تغضب.. فالمشكلة تتجسد حينما يتوقف الزمن بالعمر عند مرحلة معينة -مكانك سر- عند تجربة واحدة.. عند يوم يتحول مع الأيام إلى دائرة مفرغة، تندمج بدايتها بنهايتها، ويدور الإنسان حولها باستمرار مثل ثور الساقية! |
- قال: ولكن.. هناك من يجد في هذا التوقف سعادة! |
- قالت: كيف.. نورني؟! |
- قال: أن نقدر على إيقاف الزمن عند اللحظة التي أرغدتنا وغذتنا، وأعطتنا روعة الحياة.. إننا في ذلك لا نحس إلاّ بهذه اللحظة التي تصبح هي العمر كله، والرؤية كلها، والصدق كله.. فما قبلها لم يكن، وما بعدها لا يضاهي ما سبق ولا يطويه، وأجمل ما في الحياة أن لا ننسى، وأن نبقى نحيا باستمرار اللحظة التي نحبها! |
- قالت: ولكنه العذاب.. أن لا نقدر على الخروج من الأمس لنحيا اليوم، ونفكر في الغد؟! |
- قال: ولماذا نخرج منه.. إذا كان هو الأروع والأجمل، وهو الأكثر بقاءً ورسوخاً فينا؟! |
- قالت: إنه صعب جداً.. فالإنسان بطبيعته لا يعرف إلاّ بعد أن يخوض التجربة، وفي الغالب تكون حصيلة التجربة مريرة. كلما تعرضنا لمزيد من التجارب.. كلما ازداد يقيننا واقتناعنا بتواصل الزمان لا بتوقفه! |
- قال: أكاد أنهزم أمامك.. لسبب واحد فقط، وهو أنك أصبحت في عمري الماضي والحاضر والمستقبل. |
- قالت: أعترف يا حبيبي! |
- قال: أعترف.. وأعرف أن أصعب ما في التذكر هو المقارنة بين ما تولى، وبين ما استجد.. فالذكريات حنون ورائعة، ولكن الحاضر اكتشاف وفعل! |
- قالت: أريد منك أن لا تفكر في التعاقب الزمني، ولا حتى في التعاقب الشعوري.. ولكن أقدارنا تلحّ علينا أن نطمح إلى المجهول! |
- قال: ليس همي أن أعرف مقدار ما أعطيت، ولا حجم ما أخذت.. ثم التغني بذلك كموال ينوح بالأصداء ويا لذكرى.. ولكن همي أن لا يكون للعطاء مقابل، وأن لا يكون للأخذ ثمن ندفعه في كل مرة. إن أصل الهزائم هي في بذرة القلق والضياع والجحود، ولست أرتضي الهزيمة بالتقهقر إلى الماضي.. لكن الذكرى في أعماقي هي شمعة تظل مشيئة وتحرقني. |
- قالت: ولكني أخاف عليك من لحظة تتكاثف فيها الظلال على الأصل.. فكيف تغمض عينيك حينذاك؟! |
- قال: أغمضها كما أفعل الآن، وكما رأيتني فأثرتك.. لأمتلك الكثير مما ضاع، والحقيقي مما بهت وتشوّه.. أستعيده في لحظة تأمل إلى صدري، فالنظرة بالعينين لا تكفي، إنما هي نظرة من عيوننا، ونظرة مما في قلوبنا مستكين، ونظرة من إصغائنا لكل الهمس الذي يضيء أعماقنا!! |
- قالت: لقد ضعت أنا إذن؟! |
- قال: بالعكس.. فأنت الوجود الذي يقضي على ضياعي.. فارتاحي الآن في عيني.. لتصغي إلى أصدق همسة تقولها العين!! |
* * * |
|