-14- |
المكان: ظل.
|
الزمان: وقفه.
|
الصوت: ظرف.
|
الرؤية: سلوك.
|
* * * |
- قالت له: توقفت عن فلسفتك الغريبة عن الإنسان والفرح! |
- قال: وما هي الغرابة فيما قلته لك؟! |
- قالت: ذكرت لي أن الإنسان لا يطيق الفرح أكثر من يوم، ولو تضاعف هذا الفرح فسيتحول إلى شيء بارد وعادي. |
- قال: أحسنت.. فأنت تذاكرين جيداً! |
- قالت: لا تسخر مني أرجوك، فأنت مجنون لأنك قلت إن الحياة لا تعطيك أكثر مما تأخذ منك! |
- قال: وما وجه الجنون هنا؟.. بل إن الحياة أحياناً تأخذ منا أكثر مما تعطينا! |
- قالت: فهل تأذن لي أن أخالفك.. بل وأحارب رأيك هذا؟! |
- قال: خالفي وحاربي.. فماذا ستقولين؟! |
- قالت: أقول إن طبيعة الإنسان تتلازم مع الخوف.. ذلك الشبح الذي يلازمنا كالظل، فالإنسان يخاف أن تضيع منه الفرحة أو تموت بين يديه، فهو يخاف عليها.. ولكن، هل تعتقد أن الإنسان لا يطيق الفرحة؟! |
- قال: إنه لا يطيق الفرحة، لأنه يجن بها، يستثمرها حتى الثمالة فتنتهي بسرعة! |
- قالت: لا أظن ذلك.. غير أن الذي امتلأت حياته بالدموع، ورافقه الحزن في أغلب مشوار العمر، ربما يخاف من الفرحة في لحظة توفرها.. يخاف من ضياعها السريع، ويخاف أن تكون ظرفاً مؤقتاً! |
- قال: أوليست هي ذلك الظرف المؤقت؟! |
- قالت: ولكنها لن تتحول كنتيجة إلى حزن، ويأس؟ |
- قال: لم أقل إن الحزن هو اليأس، ولا الآلام العظيمة التي يشعر بها الإنسان في شدة حزنه، أو في قمة معاناته ومحنه.. هي القنوط من الحياة، ولكن الحياة يا حبيبتي تبدو أكثر إغراءً إليها ونداء للدفاع عنها.. كلما تعاظم الحزن، وكلما أثبت الإنسان قدرته الفائقة على الصمود والصبر! |
- قالت: ولكن الآلام قدر، ولا مفر للإنسان منها؟! |
- قال: أحسنت.. إن الآلام قد صهرت الإنسانية كلها، وكان من مخاضها أن بعث الله جل جلاله رسله إلى الأمم التي عانت من الجهل والجاهلية، ومن التمزق والشتات، ومن تيه الروح والعقل، وقد طحنتها مسالك الغاب والأحقاد.. فكان الدين تهذيباً، ونوراً، وتشذيباً وإصلاحاً. |
- قالت: ولكن الدين لا ينفي طبيعة النفس البشرية؟! |
- قال: ذلك.. لأن الحياة كلها بما فيها من مباهج ومغريات، هي دار فناء وارتحال إلى حياة دائمة! |
- قالت: وما دخل الفرح هنا؟! |
- قال: لا تتعجلي.. فالفرح في حياة الناس، مما نشاهده على المسرح الكبير، هو إحساس في الوقت.. أما السعادة الحقيقية، فهي التي تأتي وقتاً في داخل الوقت، ليكبر، فيتحول إلى زمن! |
- قالت: ولكن قولك إن الفرحة لو تضاعفت ليومين، يصبح اليوم الآخر بارداً.. فكأنك تعني أن لا خلاص للإنسان من الحزن والآلام؟! |
- قال: هو ذلك.. لأن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة.. إنها حافلة بالمتناقضات، تفيض بالحب وبالكراهية.. باللقاء وبالفراق.. بالضحكة وبالدمعة.. بالأمل وبالإحباط.. بالنجاح وبالفشل.. بالطموح وبالعجز! |
- قالت: وقولك إن الإنسان لا يطيق الفرحة، فكأنك تعني أنه الموت، أو أنه لا توجد فرحة أبداً؟! |
- قال: لا أعني بعدم احتمال الفرحة وقوع الموت كحصيلة، أو أنه لا توجد فرحة.. فالفرحة هي واحدة من المتناقشات في حياة الإنسان أمام الترحة أو الحزن، ولكن توجد الفرحة، ولو فقدها الإنسان فإنه سيموت، لأنه بذلك يفقد المتناقضات، أو يفقد يواجه به الترحة أو الحزن، وقد خلق الله لنا الشفاه لتعبر عن الفرح، وأيضاً لتعبر عن الحزن، والعين تبكي من الفرح، وتبكي من الترح! |
- قالت: وكأنك تربط بين الموت والفرحة، أو بين الحياة والعدم، أو بين الضحكة والدمعة، أو بين القهقهة والتفاهة.. وهي موت أيضاً، ولكنه موت لا ينتهي.. موت في حالة انتظار للموت الحقيقي؟! |
- قال: لا بد من هذا الترابط بين الأضداد، حتى يستقيم ميزان الحياة، وتدور العجلة! |
- قالت: أرى أن هناك فارقاً بين أن يموت الإنسان وهو في قمة السعادة، وبين أن يموت وهو في قمة التعاسة! |
- قال: فكيف ترين ذلك؟! |
قالت: الموت بالسعادة.. هو موت لمرة واحدة وأخيرة، أما الموت بالقهر وبالتعاسة، فهو الموت ألف مرة في اليوم.. ولكن، هل يصح للمرء أن يقتل نفسه لكي يضع حداً للتعاسة وللقهر -ولماذا لا نقتل الموت بالإصرار على العودة إلى الحياة.. بالقدرة على تجاوز الآلام؟! |
- قال مبتسماً: ها أنت تتجاوزين الحوار إلى الفلسفة.. أصبحت تفلسفين الفرح بمثل ما كنت أفلسف لك الحزن، أما أنا.. فأعرف أن الحزن لا يقتل، ولا يخلّف الكآبة في نفس الإنسان! |
- قالت: فمن هو القاتل الحقيقي؟! |
- قال: القاتل الحقيقي.. هو التفاهة فيما نحس، وبما نفكر، وفي كيفية التعامل! |
- قالت: الحزن أسمى بكثير من التفاهة، لأنه إحساس صادق.. أعرف ذلك! |
- قال: فهو إذن ليس ((ظرفاً)).. بل الفرح في محدودية المناسبة هو الظرف! |
- قالت: فرحة الإنسان ليست ملكه، وليست منه.. إنما هي ملك الناس كلهم.. هي منهم إليه، تتدفق إلى صدره إذا أحسوا به، وإذا واسوه، وإذا شاركوه أفراحه، وإذا وقفوا بجانبه في الألم والحزن، وإذا أحبوه لشخصه وليس لأغراضهم.. عند ذلك يغتسل وجدان الإنسان بالراحة، وتضيء جوانب نفسه بالأمل، ويقوي صموده في المحن، وهذه هي الفرحة الحقيقية.. يرى أنه يحيا وسط أحياء، وأن الحياة تتقلّب بين دمعة وابتسامة، وأن أحضان الحب هي التأمل وهي الصدى.. وأن الفرحة الحقيقية تكمن في القدرة على الصبر، وفي العزيمة التي لا تكل.. وهذا هو المدى الفسيح الذي يضم الناس كلهم! |
- قال: ما شاء الله.. ما هذا التدفق؟! |
- قالت: أرجوك.. لقد نكأت في صدري أنبل ما اختزنته، فالحزن الدفين.. يبقى دائماً في الصدر وينتظر يقظة الشعور! |
- قال: وهل تشعرين بالحزن وأنت معي؟! |
- قالت: ألم تقل لي إن الحزن هو الصدق في بوح الوجدان؟!.. فلماذا تلومني؟! |
- قال: إنني لا ألومك.. ولكني لا أريدك حزينة، بل تبقين هذه الوردة التي تفوح عبقاً وحباً وأملاً. |
- قالت: صدقني.. أنك تمنحني هذه القدرة عندما نكون معاً، ولكن.. |
- قال: ولكن.. ماذا؟! |
- قالت: أفكر في اللحظة التي تبعدني عنك، حتى يوصلني جنوني إلى أمنية غريبة. |
- قال: وما هي؟! |
- قالت: أتمنى لو نموت معاً. فلا أحزن عليك بعد رحيلك، ولا تحزن علي بعد فقدك لي! |
- قال: بسيطة.. تعالي نطلق الرصاص على أنفسنا؟! |
- قالت: ((بعد الشر عليك)).. المشكلة تكمن بكل هذا الحب في شيء واحد فقط وهو: من يطلق الرصاصة الأولى؟! |
- قال: وإذن.. دعينا نستمتع بالفرح وبالحزن، فنحن معاً نعبر عن فرحة العمر!! |
* * * |
|