شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-13-
المكان: خطوات تتكرر.
الزمان: تعوّد.
الصوت: إنساني.
الرؤية: قرار.
* * *
- قالت له: يخيل إليّ أنك منشغل عني هذه الأيام بمعالجة قرار، تريد أن تتخذه من جوهر نفسك.. من أعماقك التي تفيض كل يوم حيرة، دون أن تجعل تأثيراً عليه من اضطرار معاشك، أو من تعودك على صيغة حياة عشتها، ثم ترسبت في أغوارها.. فهل صدق حدسي؟
- قال: أشعر أن خطواتي لم تعد تمشي بي، بل هي خطوات ((تسهر)) فوق درب طويل، ما زلت ألهث وأنا أقطعه جيئة وذهاباً.. ولكن قدر الإنسان هو في أن يصنع كل يوم خطوة أخرى، ليكبر عمره وتنقص أيامه.. وإذا لم يفعل ذلك، فلا بد أنه سيموت!
- قالت: لكنك لم تجب على سؤالي، بل درت حوله؟!
- قال: لأنني لو تركت أعماقي تفيض.. فقد أحبط حماس القرار في داخلي!
- قالت: كأنك تبحث عن الراحة بتكثيف الألم والضنا؟!
- قال: لقد دخلت إلى عظمة الألم لكي أبقى إنساناً، وغاندي قال من قديم: لن ترتفع الإنسانية إلاّ بالألم.. فأنا أمشي داخل ساحة تعوّدت عليها، اسمها: حياتي، وأقفل الباب خلفي.. حتى إذا فكرت أن أسلخ هذه الحياة من عمري، أو أن أمتح عمري من هذه الحياة فشلت!
- قالت له: ولماذا تتوقع الفشل، وأنت تثق في إرادتك؟!
- قال: إن شدة التعوّد، وتعدد الالتزام.. يصبحان أقوى في بعض الأحيان من جاذبية العشق ودفئه ونداءاته.. ولأن ((القيم)) عندما تتحول إلى فلسفة، فإن الحياة لا تطيق الفلسفة.. ولكن الإنسان هو الذي يلوذ إلى تلك الفلسفة، ليتخلى عن أشياء أكبر منه، أو لا يقدر عليها، وليتدجن في أشياء أقل منه ويهبط إليها!
- قالت له: ولكن ((القيم)) قاعدة في الحياة السوية والخيرة؟!
- قال: نعم.. القيم قاعدة ومناجاة أيضاً، ولكن الإنسان بعلاقاته المتعددة، وبعواطفه، وبمصالحه.. يضطر أن يجعل القيم أحياناً تذكرة دخول إلى مسرح الحياة!
- قالت له: كيف تحرك هذه النظرة في أمثلة تطرحها؟!
- قال: أنت كإنسانة.. رهن ما ربيت عليه ونشأت فيه، ومهما حاولت التغيير أو حتى التمرد على التقاليد والتربية، فإن تلك المحاولة تبقى محددة حتى حد معين لا يمكن تجاوزه.. بمعنى أن يكون المرء رهن ما عوده عليه أهله، ثم مجتمعه.. وهذا التعوّد من الإنسان قد يستغرقه، فيتحول فيه إلى طبيعة، وإلى سلوك، وإلى قيم أيضاً. أو إلى سفاهة، فإذا تعوّدت على الخير فلن تستطيع أعتى قوة للشر أن تجذبك إليها، ولن تقدر عواطفك أن تتسلخ إلاّ في حالة واحدة، هي: أن تيأس.. أما لو نشأ شخص في بيئة قاسية، مشرداً، مهاناً، جاهلاً.. فمن الصعب على الحب أن يكسبه، مهما كانت نضارة الحب!
- قالت: بمعنى أننا نبني الحياة بالعاطفة.. أما العقل فنجعله دروساً ومحاضرات في المدارس والجامعات فقط.. لا نحاول أن نمزج العاطفة بالعقل، أو لا نفكر كيف نمد العقل بصبابة من الوجدان.. ولكن، ماذا تكون النتيجة؟!
- قال: تكون النتيجة.. أن كثيراً من الناس يعجز عن الصمود أمام تجربة، ويعجز عن رؤية خلفيات الموقف الصعب، والسبب يكمن في أننا جعلنا العاطفة تعوداً، لا شعوراً وتعاملاً وسلوكاً!
- قالت بعد صمت: فإلى أي حد يمكننا أن نلوذ بالعاطفة، أو إليها؟!
- قال: أريد أن لا يستغل الإنسان عاطفته ضد عقله، وأن يحول عقله إلى حاكم مستبد طاغية.. أريد أن ننظف العاطفة من التأثير الذاتي الذي يضخم الانفعال، أو يستغرق في الضعف، فيصبح قسوة حيناً، ويصبح أنانية وحباً أعمى للذات حيناً آخر، وأن نرتفع بالعقل إلى مستوى الوعي، بمستوى لحظات ضعف الإنسان!
- قالت له: وحياتك.. أليست ملكاً لزاوية في أضلعك؟!
- قال: حياتي ليست ملك زاوية في مساحة عمري، ولكن عمري كله هو الساحة التي لا تتجزأ.. فأصغر نقطة حب، ربما تتحول إلى أكبر مساحة للكراهية، وأصغر مساحة حب تستطيع أن تغسل كل الأحقاد والكراهية في عمري.. وذلك يعني أن عمق الإنسان وجذوره وجوهره: ركائز أساسية لصياغة عاطفة وعقل هذا الإنسان!
- قالت: إن الحياة مقبولة بالحب.. فبماذا نقبل الحب؟!
- قال: نقبل الحب بمعانيه وبصدقه، وليس بالتعود عليه.. نقبله بتفوقه، وليس بهزائمه.. نقبله بعطائه الذي لا يطلب مقابلاً، وليس بأخذه الذي لا يعيد شيئاً.. فنحن لا نرتكب أسباب ندم وتجاوزات الآخرين!
- قالت: ولكننا نرتكب أشياء أخرى، حتى في الحب.. فماذا نرتكب؟!
- قال: نحن نرتكب الأنانية، فنجعلها الجانب الظاهر من القيم.. كأن نتصور أن الذي لا يعطينا المكسب هو ضد القيم.. والقيم بهذا التصور تدفعنا للخسارة!
- قالت: والذي حصدناه بدون القيم؟!
- قال: هو لا أكثر من إفرازات عاطفية محددة.. أما العاطفة الحقيقية، فهي باقية في الوعي، وفي الانتماء للأرض، وفي ارتباط الروحي بين عاشقين.. يلزمهما حتى الموت.. وهي باقية أيضاً في الوفاء والحنين الدائم.. فالذين يفقدون الحنين يسقطون بلا شك في قسوة ادعاء الحياة، وادعاء القيم!
- قالت: أسألك إذن.. هل يمكن تجزئة أو ((تقسيط)) الحب، كأن نقول: حب الماضي، وحب الحاضر؟!
- قال: الحب لم يكن في يوم ما ((كمبيالة)).. لأن أقوى إنسان سيعجز بلا شك عن تسديد قيمة هذه ((الكمبيالة))، لو جعل الحب تقسيطاً، والذي استطاع أن يحمي حبه من تفسخ الوقت، لا يقبل أن يجزئ عاطفة العمر، فيجعلها ماضياً، وحاضراً.. فالماضي هو الحقيقة، والحقيقة لا تضيع أبداً.. ترتبط بالحاضر، ولعلّها تنهد إلى الغد!
- قالت: تعني أن حبك الماضي ما زال يعيش في أعماقك.. فأين ذهبت أنا؟!
- قال: أنت الحاضر الذي جعل للحب في عمري قيمة.. أما الماضي فإنه يبقى في شكل الحقيقة التي لا تشوّه العمر وإنما تضفي عليه المزيد من العمق والتشبث!
- قالت: ولكن.. ألا يمكن أن تموت تلك الحقيقة؟!
- قال: عندما نجعل الكراهية حقيقة أيضاً.. فالبغضاء لا تتواصل، والقيم تلفظ البغضاء، وترسخ المحبة!
- قالت: فما هو ذلك الذي تجرنا إليه البغضاء؟!
- قال: ليس هو الحاضر المتمتع بالقيم وبالعمق.. فالحقيقة عقل يكبر، وعاطفة تسمو بالألم.. وما نعاني منه في البغضاء هو عاطفة تنحط بالألم، ثم تدوسه بالتفسخ!
- قالت: ومن أنا في عمرك إذن؟!
- قال: أراك بدأت تقلقين!
قالت: كلامك يخيف!
- قال: أنت هذا الحاضر الذي احتوى كل الماضي وذويه.. حتى بلغت حدود ((القرار)) الأكيد، المستقر في جوهر النفس، وفي خفقة القلب!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :474  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 84 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.