شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-12-
المكان: أعماق.
الزمان: أصداء.
الصوت: قهقهات كربونية.
الرؤية: قفز فوق الأشياء!
* * *
- قالت له: لماذا هذا الهروب؟!
- قال: أي هروب تعنين؟!
- قالت: هروبك من نفسك، أو من كل الذي في نفسك.. أم تراه هو الهروب المتعدد في أعماقك؟!
- قال: أحياناً تتساوى الأشياء، فتكاد تصبح كلها هي الشيء الواحد.. الابتسامة أو الدمعة.. الضحكة أو الآهة.. الحنين أو الشجن، كأنني أفتقد في أعماقي ذلك القادر الذي ينهض في داخل نفسي، ويصفع نشيجها، ولا ينحدر إلى ارتجافاته العاطفية، ولا إلى إفراغاته الصغيرة.. تلك التي تتكوّن من التعب، أو من طول الزمان، أو من العجز!
- قالت: لكننا نحتاج بالفعل إلى إفراغاتنا الصغيرة في بعض الوقت، حتى نغير طعم النفس هروباً، أو تناسياً، أو لعلّه التحدي في المواجهة للعجز!
- قال: قد ننجح في تغيير طعم النفس.. لكن طعم الحياة واحد عندما يصبح الإنسان وحده، أما عندما يكون الإنسان حياً بالحنين الذي فيه.. جياشاً بأشجان الخفق.. طالعاً مع كل دمعة كاللبلاب، ومع كل ابتسامة كالسرو، فلا بد أن يستكنه الحياة ويتذوّق إحساسه بالناس فيها، وبقدرة مشاعر الناس على التذكر!
- قالت: إنك تضطرني هنا أن أنظر إليك وكأنك علامة استفهام ((بايخه!))..
- قال: ولماذا هذه النظرة؟!
- قالت: لأن كل الذي ذكرته لا يضطرك أن تقهقه بلا حس، أو أن تبتسم بلا لون!
- قال: بدأت أنظر إلى أغلب الأجوبة، خاصة تلك التي نضعها كرؤية، وكأنها صوت محدود أو مؤقت.. يدعني أتبعثر في جوف الهدوء البارد الذي يشبه جوف سمكه!
- قالت: كأنك تريد أن تتحدث عن قدرة الإنسان؟!
- قال: إن قدرة الإنسان اليوم تتمثل في صورة واحدة، نتساءل بها: كيف لا نحتفل بمرئياتنا، وكيف ننهيها بتمهل؟!
- قالت: والممارسة في القدرة؟!
- قال: إن بعض ما نمارسه بمعنى العمر وفي دوافعه.. هو لا أكثر من إنهاء متمهل للكثير من الحب في أعماقنا، وللكثير من الخير ومن التوادد!
- قالت: فسر لي ما تقول.. ما هو مضمون ذلك الإنهاء الذي نمارسه؟!
- قال: لا داعي أن نرى، فقد تعبنا من النظر، وأجهدنا التحديق البكم!
- قالت: فماذا نحتاج إذن؟!
- قال: نحتاج إلى شحذ الشعور فينا.. أن نرى بالحس في طغيان الماديات، أما مضمون ذلك الإنهاء، فنجده في العنف الذي يسيطر على إنسان الحضارة، ونجده في اضطراب الأعصاب، ونجده في دموية الماديات والأنانية!
- قالت: ياه.. أنت تعاني من التكثف، ولكن.. هل تجتمع كل هذه الظواهر دفعة واحدة، وكيف؟!
- قال: ربما اجتمعت في الأشياء التي نصنعها ولا تصنعنا.. فنحن نصنع المصالح من حب الذات، وهذا شر.. ونحن نصنع اللهو من الرغبة في إرضاء لحظة المتعة التي لا تبقى طويلاً.. ونحن نصنع وسائل الرفاهية والتقدم من نوايا التفوق على الآخرين والسيطرة!
- قالت: هل تعني بذلك أن الشر لا يصنع أحقاد الإنسان؟!
- قال: لقد أصبح الإنسان اليوم بوسائله المتقدمة، وبإمكاناته الحضارية، وبتفوقه بالقوة أو بالسيطرة، أو بالمادة.. يصنع الكثير من الشرور ليدمر بها الآخرين، ويدمر نفسه!
- قالت: والحب.. أين يذهب؟!
- قال: الحب لا يذهب.. ولكنك تجدينه في النفوس الملتاعة والبسيطة!
- قالت: ولكن.. يبقى الحب والخير طبيعة النفس الإنسانية.. أحياناً يستمر هذا الخير في نفسية احتمت بالطيبة وبالوعي، ويستمر هذا الحب في قلوب تركض دائماً وراء الإيمان بقيمة الإنسان.. يبقى الخير والحب في ثبات، مهما تعاقبت أمواج الاغراءات بمدها وجزرها!
- قال: وبعض الأحيان.. يأتي الحب أو الخير حصيلة لتجربة مريرة عصيبة، في شكل شعور بالندم!
- قالت: ولذلك.. لا يلبث الإنسان في عمق التجربة أن يعود إلى الحب والخير، ولو بالتذكر، عبر السقوط في الندم، أو عبر المعالجة للخسارة الروحية!
- قال: إن الحب والكراهية، والألم والراحة، والأمل والندم.. أشياء نحطمها أو تحطمنا أحياناً.. والإنسان هو الحصيلة في النهاية!
- قالت: وإذن.. فإلى أي نقطة وصل هذا الإنسان.. كم من الزمان تجاوز، أو كم من السنوات تقهقر إليها؟!
- قال: لن يكون إنسان هذا العصر متخلفاً، لكنه مثقل بظلال شموسه.. إنه يتلفت حوله وخلفه محاولاً أن يقيس ظله من ورائه.. وغالباً ما يبدو الظل أطول في التمدد خلف وقفة الإنسان!
- قالت: وتأملاته.. أين تركض به؟!
- قال: إن الإنسان يتأمل ((كيف تطبع الأرض بالضحك)) كما قيل.. وهو ضحك سخيف في أصدائه، فيلمس لزوجة الشفاه وصمغ الكلمات!
- قالت: ولكننا نتحاور عن الحب والخير.. في محاولة أن لا يطغى الرمز على تعبيراتنا، فيأخذنا إلى المتاهة؟!
- قال: لكن الكلام عن الحب، وعن الخير، وعن الوعي، وعن الإنسان السوي.. يصبح محاولة لتصوير إنسان يتكئ على شجونه وأحزانه في داخله.. أو كأنه يسلب نفسه من نفسه ليتبعثر، رافضاً الأشياء التي تخترقه ولا يقدر أن يخترقها!
- قالت: في البدء.. كان الإنسان الطيب والمحب، هو ذلك الذي يغني ((للشجرة التي لا تنام أبداً))!
- قال: وفي هذا الزمان.. يكون الإنسان هو هذا الشخص الشاخص بعينين معتديتين، أو بعينين حزينتين.. يرمق بهما كل نجمة بعيدة تنسحب فوق صفحة السماء وتسقط، فلا يعرف أنها شهباً إلاّ بعد سقوطها واحتراقها!!
- قالت: تعني أن نظرات الإنسان قد نبتت فيها الأظافر؟!
- قال: نعم.. ولكن في صدره، ما زال عصفور يتوسل ويتبتل!
- قالت: لذلك أنت تهرب مني؟!
- قال: ليس هو الهروب منك، بقدر ما أحاول أن أهرب بك من نفسي المثقلة، ومن الآهة، ومن الشجون!
- قالت: ولكني أجد نفسك عالمي وعمري.. فكيف تريد أن تغريني عنها؟!
- قال: حتى لا تتساوى كل الأشياء، فتصبح كلها هي الشيء الواحد!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :504  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 83 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.