شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-9-
المكان: قلب معتزل!
الزمان: تواصل.
الصوت: عطر يرتحل.
الرؤية: أفق في اللامدى!
* * *
- قالت له: ترى.. ما الذي جعلك تتذكرني الآن بعد هذا الوقت الطويل؟!
- قال: لأن قلبي كان أقوى.. فلم يسمح لعقلي أن يسقطك في النسيان، ولأن هناك السبب الأكثر تأثيراً في معايشتي!
- قالت: أي سبب تقصد؟!
- قال: كانت هناك ((غرسة)) زرع، رأيت فروعها وأغصانها تموت قبل يومين، وتذوي بلا رجاء.
- قالت: تلك التي عاشت أكثر من عامين.. فلما أهملتها ونسيتها كصاحبتها، كان لا بد لها أن تموت وتذوي!
- قال: لم أهملها يوماً واحداً.. حتى عندما قررت السفر ذات يوم، حملتها إلى محل يبيع الزهور والزرع، وأودعتها لديه أمانة، ودفعت لصاحب المحل مبلغاً ليرعاها حتى أعود إليها.
- قالت: وعندما افتقدت نفسك، ماتت تلك الغرسة.. لأنك تركتها وحدها في الغربة، وذهبت تركض بحثاً عن زهور جديدة، وعن غرسات تمدك بالعبق.
- قال: أبداً، لا تظلميني.. لقد كنت وفياً لتلك الغرسة، وعدت إليها في وقت قصير، وكأنها الحبيبة التي بقيت تنتظر من تحب.. وجدتها زاهية، لامعة الأوراق، منتشية.. قد فرغت العديد من الأوراق حولها، واحتضنتها كأنني أحتضنك، وسقيتها كأنني أقبلك، ووضعتها عند رأسي ونمت كأنني وضعت رأسي على صدرك.
- قالت: كيف ماتت إذن؟!
- قال: هل تسمحين أن أعود بك إلى الوراء قليلاً؟!
- قالت: عد.. لا سلطة لي عليك!
- قال: حينما جاء وقت.. وجدتك فيه تخترعين كذبة الالتزام بحياة جديدة، كانت هي الفقدان المكثف لقلقك، وكانت هي البعثرة الأليمة لكل رياحك التي أصبحت تشعل حرائق النفس من الداخل، ولا تقدر أن تخفف جمرتها.. حينذاك أصبحت أشعر أنني صرت بعينين يتيمتين، وصار قلبي يعيش بلا زمن!
- قالت: لقد بعدت أنت.. في الوقت الذي كنت أحتاجك فيه بشدة.. كنت أنت مثل ذلك البستاني الذي أبدل ثيابه، وأوصد أبواب الحديقة، وهاجر.. تاركاً الزرع للعطش للنوى وللشمس وللرياح.
- قال: فعلت ذلك.. بعد أن أشعرني الزرع أنه لم يعد في حاجة إلي، وأن الأمطار الموسمية تكفي لإروائه وإنعاشه دون كل ما تهطل به جوانحي وتنسكب.. حتى خيّل إلي بعد قطيعة المسافات أنك أنت هذه التي تكبر في العمر، وشعورها يتضاءل، أو أن إحساسها يشيخ بها فتنظر إلى المعاني كالأرقام، وتفهم بوح الشعور كأنه مراهقة في الفكرة والحس!
- قالت: وإلى أين استقر شعورك بعد هذه النتيجة التي ظلمك بها حسك؟!
- قال: إن الإنسان يحاول دائماً أن يحتفظ بالذكرى في النسيان، ويتشبث بالأنواء في الإبحار غريباً عن نفسه ووجدانه، فما يلبث الإنسان فيه أن يسقط، وتبقى منه بشريته فقط!
- قالت: وبذلك كله انعكست في تعاملك مع الغرسة، حتى قتلتها، وظننت أنني السبب المباشر في ذبولها وعطشها؟!
- قال: كأنك تضعين الأسئلة بعد الأجوبة!
- قالت: بل لأنني كنت أعتبر تلك الغرسة بمثابة الوليد الذي أنجبناه معاً.. وعندما يحدث الانفصال بين الأب والأم، لا بد أن يضيع الأبناء!
- قال: لا أعتقد أننا الآن في مجال المناظرة لإثبات من هو المخطئ.. أو من هو المجرم الذي أحدث ذلك الضياع للغرسة، أو للوليد!
- قالت: ففي أي مجال نحن إذن.. ألم تكن الغرسة هي أهم ما جعلناه رمزاً بيننا.. يدل على تمازجنا، ووحدة مشاعرنا، وتكاملنا في الزمان؟!
- قال: بلى.. لكن فلسفة الزرع التي قرأنا عنها معاً، كانت تدلل على أن هذه الأعواد أو السيقان الخضراء المتوجة بأوراق تنتشي وتطرح وتتفتق.. هي كائن حي كالإنسان.. يحب ويعشق ويحزن ويكتئب، ويخاصم ويفرح، ويموت إذا أسأنا معاملته ورعايته!!
- قالت: وإذن.. فأنت الذي قتلت الغرسة، لأنك أهملتها، وأسأت معاملتها؟!
- قال: لعلّني كنت السبب المباشر، لكن الخلفيات التي دفعتني إلى ذلك، كانت تتشكل منك أنت.. من فعلك المضاد معي.. من قسوتك ومن استعلائك، ومن هروبك، فعندما أفقد الحب، لا بد أن ينعكس هذا الفقدان على الغرسة التي أرعاها.. أو كأنني ذلك المغني الذي فقد صوته، فغاب النغم عن إصغاء الزرع، وهو الذي تعود عليه من معاً!
- قالت: إنك تحملني نتائج كل شيء الآن.. وكأنك لم ترتكب الفعل المباشر؟!
- قال: كان يمتلكني شوق إلى استفزازك، لتستقر كلماتك في معانيها، وتطلع النبرة المخبأة عبر صوتك الذي كان يخاطب صدقي لك!
- قالت: لقد كنت أنت الجنون في بذوري المدفونة في أعماق نفسي العطشى!
- قال: واستحوذ عليك الخوف من ذلك الجنون، فاستعليت على مشاعرك وطمرتها في العزلة!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :533  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 80 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[صفحة في تاريخ الوطن: 2006]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج