-6- |
المكان: ضبابي.
|
الزمان: جنون صامت
|
الصوت: أصداء
|
الرؤية: حيرة
|
* * * |
- قال لها: هذا الليل ضبابي، يذكرني بذلك الرجل الذي كان أكثر شباب مدينة ((فيرونا)) ثراءً وجاهاً، وكان اسمه: الكونت باريس.. الذي يتصف بالهدوء إلى حد التأمل البعيد، والصمت المجنون! |
- قالت: كيف هو ذلك الصمت المجنون؟! |
- قال: إنه التفكير المائر في أعماق النفس.. باحثاً عن تجسيد وفعل، وقدرة على امتلاك القرار.. فهو صمت مجنون يركض بصاحبه نحو العثور على نقطة غيث في النفس، تهمي بعد ذلك كمطر، وترقرق عطش تربة النفس المقحلة! |
- قالت: وأين تجد نقطة الغيث تلك أيها ((الكونت باريس))؟! |
- قال: لا شك عندك أنك أنت نقطة الغيث تلك.. وصمتي المجنون أحاول به أن أجسد القدرة على امتلاك القرار، لنكون معاً كل العمر. |
- قالت: لكنك فيما يلوّح لي من وراء صمتك المجنون أنك لم تكتشف بعد أن نقطة الغيث تنتمي -مثلاً- إلى العصر الذي كانت فيه أسرة ((مونتاجو)) الإيطالية.. رغم ضبابية الليل، أو ضبابية القرار.. وانتشار النجوم مزهرة في نفس الوقت، وشيوع ابتسامتي لك وحدك وفيك! |
- قال: لا تتوقفين عن السخرية أبداً.. إنك بذلك تغرقينني أكثر. إن الحيرة تتقاذفني من حالة إلى حالة، ومن إحساس إلى إحساس، ومن تصور نتيجة إلى تحسب حصيلة لا فرار منها.. فكأنك تساعدين الحيرة في داخلي لتمعن في إغراقي! |
- قالت: أردت فقط أن أجعلك تطفو.. فمن المؤلم يا حبيبي أن تتحول نقطة الغيث في عمرك إلى غرق، بينما عطاؤها الإرواء والانتشاء والإنبات من جديد! |
- قال: كفى.. لا أريد هذا الاستطراد في التخيل. |
- قالت: إنني لست خيالاتك طالما أنك تفكر في القرار الذي يحولني إلى حقيقة عمرك. |
- قال: أريد أن أكذب على نفسي قليلاً، فأنسى أن فصل الربيع الدائم في عمري. |
- قالت: ولكن.. أليس مؤلماً ومعذباً، أن تعيش الفصلين معاً: الربيع والصيف القائظ؟! |
- قال: أنت ربيعي الدائم.. وحيرتي وعجزي هما صيفي القائظ الذي يكوي حياتي. |
- قالت: وما هو الموقف الأخير إذن.. فإنني لا أريدك أن تتعذب بي؟! |
- قال: أنت الموقف الأحسن، وأنت الموقف الأصعب.. وأنا أفتش فيكما عن الموقف الأقوى الذي يصيغ قراري وفعلي. |
- قالت: ولكنك تعرف أنه لا حيرة في الحب.. إنه نداء القلب والنفس، وأنت تموت لو لم تكن لك نقطة الغيث، وأنا نقطة الغيث هذه سأتبخر لو لم أستقر في داخل الأرض التي تشربني وترتوي بي.. داخلك أنت! |
- قال: أعرف هذا وأعاني منه الألم، ولكني حائر.. حائر، بل وأشعر بالعجز خوفاً عليك فقط من حصيلة يكون حصادها مؤلماً لك أكثر! |
- قالت: أنت لا تحب نقطة الغيث! |
- قال: لا أحبك؟!.. مجنونة إن صدقت في هذا القول، فأنت عبقي وزرعي، وأنت نمَاء كل غرسة في داخلي وفي عمري.. لكنها فكرة الحصاد التي قد تقلب المستقبل بعد ذلك إلى أمواج مجنونة لا تهدأ. |
- قالت: أنت مضطرب ولست هذا الحائر.. فلا حيرة في الحب، وإنما الحيرة في التصرف، وفي كيفية الإبقاء على حبك لنقطة الغيث رواء فيك، والإبقاء على متابعتها لك.. تشبثاً بأرضك، لأنها إرادتك أنت وحدك! |
- قال: الآن.. عندما يختلط صوتك بدموعك، أرى ملامح وجهك النقية فسفورية.. غسلتها دموع صابرة. |
- قالت: إنني لا أكره دموعي لأنها من أجلك فقط. |
- قال: دعيها.. لا تجففي دمعة صادقة وعفوية.. فهي تعلمنا حقيقة جديدة! |
- قال: ما هي تلك الحقيقة؟! |
- قال: إن الدموع التي نحاول تجفيفها سريعاً، دموع ضعيفة ومؤقتة، ومتى كنا أكثر تسلطاً أو تحكماً في دموعنا، تحولنا إلى تماسيح! |
- قالت: إني أصغي إليك، فماذا تريد أن تقول؟! |
- قال: حفظت من كلمات ((غاندي)) عبارة كان يجسد فيها حبه الكبير لبلده، فقال: ((إن قضية من القضايا لا يضيعها شيء قدر ما تضيعها المبالغة))! |
- قالت: ماذا تقصد؟.. أنا لا أبالغ، وقبل لحظة كنت تصف دموعي بالصدق! |
- قال: مهلاً لا تتسرعي.. إن المبالغة ليست في دموعك، ولا في تصورك، ولا في توقعاتك.. إنني لا أريدها أن تلمس أعماقنا، ولا أن تموه على القحط الذي يشقق نفسينا من الداخل. ألم أطلق عليك صفة ((نقطة الغيث))؟.. بما يعني أنني بلغت التشبع بك، ذلك الذي ينقلني من التصور إلى التجسيد، ومن الحلم إلى الإحساس بك. |
- قالت: أنت بارع.. ولكني أصر أنها ليست هي الحيرة.. بقدر ما هي مبالغة في الحفاظ على أسباب الرواء في أعماقك، فأنت الذي تبالغ بشعور العجز، ولست أنا التي أبالغ بذرف دمعة صادقة.. ولو كان القرار بيدي لكفيتك عذاب الحيرة أو العجز! |
- قال: كأنك بهذا الرأي تصفينني بالجبن، أو بالكذب عليك؟! |
- قالت: لم أشك يوماً في صدقك معي.. ولكنك تخاف على نفسك أيضاً من خلال الخوف علي! |
- قال: يذكرني تصورك هذا برأي مماثل سمعه الروائي الفرنسي ((روجيه فايان)) ذات ليلة من الأنثى التي تفانى في حبها، فقد كان يحاورها وصوته يتشقق بالجفاف، في بعدها عنه، ورمته بمثل تصورك، فأجابها يقول: ((عندي إحساس أنني أسير في درب بلا نهاية، ولقد كان ينبغي أن يكون في استطاعتي أن أجدك معي دوماً، أو حتى أجدك ولو للحظة قصيرة في نهاية كل يوم.. وفي كل مرة أكاد أصل فيها إلى القرار، كان الموقف يتغير، وكان عليّ أن أعيد التفكير فيه))! |
- قالت: إن الفكرة عندك تتفاقم حتى تنفجر، فتحس بالاضطراب، بمعنى أنك تفقد القدرة على التصرف، وتكون مثل ((روجيه فايان)) تماماً.. عندما تبلغ حد إصدار القرار: ((كان عليك أن تعيد التفكير فيه))! |
- قال: ولماذا لا تقولين إن حرارة الابتعاد عنك هي التي تبلور شقائي وتعاستي، وفي نفس الوقت: إن نعيم الاقتراب منك هو سعادتي التي آخذها منك برضاك، بينما أترك لك في بقية العمر: الوحدة، والحزن وافتقادي؟! |
- قالت: هل علمت بأنك ستموت بعد توحدنا مباشرة؟! |
- قال: لا أدري.. ولكني متأكد أن الإقناع بيننا ليس غاية، وإنما قد يكون وسيلة على بث اليقين والطمأنينة، وأحياناً لا أمتلك إقناع نفسي! |
- قالت: وإذن.. بلا بد من الجنون في الحب، فهو الأروع دائماً!! |
* * * |
|