-6- |
صديقي: |
هل أنت مشتاق؟ |
إنني لا أقلُّ اشتياقاً عنك، ولكنه يُغريني بهذه الطائفة من الجن هذا الغذاء العقلي الذي أتمتع به. |
كنا مجتمعين البارحة على حافة غدير وراء الأكمة القصوى، تحيط بأستاذنا الكبير عندما هبط علينا مارد يدعونه (شقادف)، وما أن سلّم حتى ابتدر يحدثنا عن مشاهداته في بقعة قصية من الأرض كانت مخضبة بدماء المتقاتلين؛ مفروشة بجثث القتلى من الفريقين. |
واعتدل الأستاذ في جلسته وهو يقول: ما ظنكم بهذه الظاهرة التي يدعونها (الحرب)، والتي يكتوي بنارها في كل مناسبة ملايين فوق الأرض أو تحتها. كان للحرب معناها يوم كانت البربرية تعبث بهمجيتها، وتحتكم في كل مناسبة إلى غرائزها الوحشية، أما وقد تشذَّبت هذه الغرائز بمرور آلاف السنين، وحل محل البربرية عقول تغذَّت بمعارف قرون، وأخلاق هذبتها ما لا يُعد من تجارب الحياة، فلست أعرف معنىً لبقاء هذه الظاهرة على وجه الأرض أو تحتها. |
أفهم أن حب الذات غريزة متأصلة في الثّقليْن من هذا العالم، وأن الخلق جُبل أول ما جُبل على الطمع وحب الاستئثار. ولكني أفهم إلى جانب هذا أن رسل الديانات السماوية، وعلماء الأخلاق، والمهذِّبين، ظلوا مئات الأجيال يعالجون شأفة هذه الجبلات، ويحاولون تهذيبها بمختلف الوسائل وشتى أنواع العلاج. فهل كانت جميع هذه الجهود أضعف من أن تستأصل جذور الشر، وأهون من أن تترك أثراً ولو ضئيلاً فيها؟ |
أكبر ظني أن المحاولات عادت إلى الحياة برد الفعل العكسي، وأن البربرية التي عرفتها المعمورة، أول ما عرفت الحياة، لم يزل يتفاقم أمرها ويستشري خطبها، وكأن الحياة بأحداثها، والأحداث بتجاربها، فتَّقت العقول على ألوان من الإثم يتفاقم كلّما مضت السنون، وتمعن في الطغيان كلّما أمعن الزمان في دواليبه.. وإن نُذُر السماء، ودعاة الأرض، لم يفعلوا أكثر من أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام التيار الجارف. |
أجل. فقد كانت أطماع البربرية تمثلها أدوات من الحجر وآلات من الحديد تفتك بمئات الأرواح في سبيل استئثارها. |
أما اليوم، وبعد أن أدى العقل رسالته كاملة في الحياة، وترك آثاره في الأرض تمثلها أمم متمدنة بالغة من التهذيب غايته، ومن السمو الأخلاقي نهايته، تأبى العقول إلاَّ أن تتفتق بما يغذي غرائز الوحشية، وتحتال للطغيان بما يهدد الأرواح، لا بالنسبة المئوية والألفية كما كان المتوحشون فيما سلف من عهودهم، ولكن بملايين الأرواح وباستئصال المدنية من قواعدها في كرَّة طرْف. |
قد أفهم أن أطماع السادة وحبهم ذواتهم يستعصيان على قواعد التهذيب، ويأبيان أن ينتميا إلى العقول، ولكني لا أفهم أي معنى لانقياد الشعوب لهم في عصور نضج فيها التفكير الحر، وتساوى المسود والسيد في مجالس الدولة، ومقاعد الحكم، وقاعات الشورى. |
أنت تسمع أن دولة من دول الأرض تستطيع إذا ما لزمها الأمر أن تجنِّد عدداً من الملايين، وأن تفعل غيرها مثل ما تفعل، فتستقرىء الخبر استقراء المدقِّق الباحث، لتعرف ما إذا كان هذا التجنيد عن طواعية واختيار، فتتهم منطق هذه الملايين، وتتهم غايتهم من التهذيب والثقافة. أم أنهم مسوقون إليها سَوْق النعاج لا يملكون من تصريفهم شيئاً، فتتهم الدعاوى الزائفة في حرية الفرد، وتتهم الدساتير الكاذبة فيما أعطته للشعوب من حقوق جعلتها في حصانة من عصا الراعي واستبداده بشأنها. |
إنني، على أي الاحتمالين، أتمثل الجندي مدججاً بالسلاح، يحمل غدارته وبندقيته، وما لا أعرف من أدوات فتكه، فأتمثل قناصاً من فدائيي العصور المظلمة في إحدى رحلاته الفدائية في مجاهل الأرض. وإنه ليحتمل في صدري عشرات الأسئلة، أود لو أملك مواجهته بها. |
أيُّها الجندي العاتي!! |
فيم كل أدوات الفتك هذه؟ |
وإلى أي وجهة تنوي المضي؟ |
أتدري وأنت تحزم أمرك، في نشوة العربيد، أنك على خطوات من وادي الحصيد، حيث تفرغ رصاصك في أفئدة رطبة، وتضع قذائفك في بيوت عامرة بأطفالها، آهلة بالبريئين من أهلها؟ |
إن كنت لا تدري فما أهونك في الحياة، وما أشبهك بالسوائم تعيش مسخرة. |
وإن كنت تدري فما أغلظك وأقساك. وأشبه عتوك بأول متوحش عاث في الأرض.. لا يردعه رادع من مروءة، ولا تزعه أخلاق هذبها العقل وصقلتها الأيام. |
أشنآن خاص دفعك إلى هذا العتو، أم عداء مستحكم استفزتك إليه أعصابك الحادة؟ |
إنك يا صاحبي تتبجج بعهود النور التي تعيش فيها، وإنك تنتمي إلى عصر نضج فيه العقل البشري واستكمل استواءه، فهل كنت تلغي عقلك في الساعات التي يدعو فيها داعي الحرب، وتسمح لروح العتاة من المتوحشين أن تتقمصك؟؟ |
لا تلوِ.. وكن جريئاً، كما كنت وحشاً. وإذا كنت مدفوعاً بما زيَّنه لك قادتك وأصحاب أمرك، فأخوف ما أخافه عليك أن يمتطوك إلى غاياتهم، كما يمتطون الدواب إلى شؤونهم، وليسوا بمقاسميك شيئاً من مجدهم. أو مغانمهم إلاَّ الفتات الذي تناله الهرة من موائد أسيادها. |
أيُّها الجبار.. إن كنت (بيادة) فاحص نصيبك من حبات الرصاص لتحدس عدد الأرواح التي تُيتم أطفالها، وتؤيم نساءها، وتورثهم الفاقة والويل. |
وإن كنت ((مدفعياً)) فوفر على نفسك عناء الإحصاء، لأن قذائفك أكبر هولاً من أن تحصى، وآثار تخريبك وتدميرك أعظم من أن يناله الحدس والتخمين. وأرجو بعد أن ينالك الظفر ألاَّ تطمع في غير ألقاب الوحوش!! |
كن أعقل من أن تستثيرك العداوات المفروضة، واحتكم إلى تهذيبك أكثر من أن تحتكم لشهوتك وأعصابك. |
وإذا كنت تزهو بنفسك كإنسان فتترفّع عن ظواهر خليقة بالوحوش في آبادها. |
كن مهذباً ما استطعت، وألغِ فكرة الحرب من حياتك تُدلِل على سموك الإنساني، وأخلاقك الرفيعة. |
|