فهارس الكتب عناوين الكتب محتويات الكتب أسماء المؤلفين الكل          البحث   

مكتبة الاثنينية
-41- حدثتني جدتي أنها كانت تواظب على حضور إحدى حلقات العلم في المسجد الحرام.. لا لأنها تستفيد شيئاً ممّا يُقال! بل لأنها تعلم ثواب المستمعين في حلقات العلماء.. وكانت تجاورها في الحلقة سيدة عُرفت بالجنون، ولكنها كانت تقضي أوقات الدرس هادئة لا تنبس ببنت شفة، وليس في ملامحها ما يدل على فهمها لما يُقال!! وكان المدرس يتابع يومياً قراءته في قواعد اللغة العربية، ويشرح أصولها فأنّى لجدتي أو جارتها أن تفهما حرفاً ممّا يُقال؟؟ وخرجت المجنونة في أحد الأيام عن صمتها ورفعت صوتها مهللة في فرح واضح.. فأحدثت ضجة في صفوف الطلبة، فلما التفتوا ليسألوها عن شأنها أبانت أنها جد مسرورة فقد كانت تسمع كل يوم (ضرب زيد عمراً) أمّا اليوم فقد سمعت جديداً (ضرب عمرو زيداً) فما بالها لا تفرح لنصرة عمرو المظلوم وقد كانت لا تسمع اسمه إلاَّ مضروباً؟! إنها واقعة لها قيمتها في رأيي، وإن صدورها من مجنون تدل دلالة واضحة على استعداد المجانين في كثير من الأحيان لنقد العقلاء في صميم الحياة. إن الشيخ العلامة العاقل أستاذ مجنونتنا لم يرث قواعد النحو إلاَّ في صيغ لها أمثالها المحفوظة جيلاً بعد جيل، وهو يلقنها كلامه كما حفظها (ضرب زيد عمراً) دون أن يجرؤ على التحوير، أو التنويع، أو إدخال جديد يشوق الطالب أو يسليه. هذه ظاهرتنا التي يعاني العقلاء مأساتها لا في أمثالنا التي نضربها لقواعد النحو، أو الصرف، أو البلاغة ولا في أساليب تعليمنا التي ورثنا صيغها.. بل في سائر مآتينا دون استثناء. إننا لا نزاول أفكارنا وما تنتج أعمالنا بروح المبتكر الذي يستخرج من الألوان القديمة لوناً جديداً لا يعرفه عالم الألوان، ولا نضيف إلى ما ورثنا من مادة أو فن شيئاً جديداً يدل على مشاركة عقولنا فيما تنتج. ولا تنهض أمة درجت على تقليد ما ترث دون أن تدخل عليه ما يطبعه بها، ويدلل على مبلغ عنايتها بالتجديد والابتكار.. لسنا نقصد بالتجديد أن نقطع صلتنا بما ورثنا سيما إذا كان الموروث له قداسته الخاصة، ولكننا نريد أن نتصرف فيما يقبل الصرف، وألاَّ نجمد على ما يقبل التجديد، وأن نستعمل عقولنا في كل ما ترث من أفكار وأعمال.
طباعة تعليق  القراءات :414  التعليقات :0
صفحة 74 من 114

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان

هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع
	تسجيلات كاملة
	مقتطفات لتسجيلات مختارة
	لا أؤيد
النتائج