-38- |
أكان يعلم ربان أول باخرة تجارية ألقى (بروسيها) في جدة في مطلع هذا القرن الهجري، أنه يمهد (للتنبلة) في هذا البلد، ويساعد على إخلائها للعيش الخامل؟ |
كانت الطاقة العاملة في مراكب البحر الشراعية ضيّقة الحيّز، وكانت جهودها في نقل البضائع التجارية محدودة المدى، فكانت البلاد تتكل في حل حاجاتها ولزومياتها على ما تنتجه سواعد صنّاعها وأرباب الحرف فيها. |
كانت بيوت الحرف في آفاقها تنتج أكثر من مائتي صنف من أنواع السلع التي نستعملها في بيوتنا وأسواقنا، ونعرضها للمشترين من الحجاج يحملونها إلى بلادهم كأثر من بلادنا. |
كنا ننتج أكثر من مائتي صنف من أصناف الصناعة تأتي في أولها العطور والمسابح، ويأتي في نهايتها (المداس) الذي كنا ننتعله قشيباً. نتبارى في زخرفته وأنواع تصميمه، حتى إذا تهادت أول باخرة على رصيفنا في جدة استطاعت أن تكون فاصلاً بيننا وبين نشاطنا، وأن تحيل حركتنا إلى دعة خاملة، وأن تعلمنا الاتكال على ما ينتجه غيرنا. |
وعندما دب الخمول بيننا دب بطيئاً، ثم تنقل بين أعضائنا دبيب المرض المعدي في الجسم الصحيح.. فإذا أسواقنا تتقلّص ويختفي من معروضاتها ما كانت تنتجه أيادينا لتحل محله بالتدريج ما تحمله إلينا البواخر من منتوجات الأجانب وصناعتهم. |
واستمرأنا على مر السنوات خمولنا، فشلّت أيدينا عن العمل، وتعطلت حركاتها، وأصبحنا لا نملك في أسواقنا ما تزهو به كعمل تنتجه أيادينا، وعم الأمر حتى باتت معروضاتنا للحجاج تصنعها إيطاليا أو بلاد أوروبا الشرقية والشمالية، وترسلها إلينا لندفعها إلى الحجاج كأثر مزيف منا، ثم نجمع أرباحها ونعيدها إلى أوروبا. |
ولم يقتصر الأمر على هذا حتى تعدّاه إلى إنتاجنا الحيواني والزراعي، فقد شرعنا نستغني بالزبد واللبن وأنواع الدهن وباللحم في بعض الأحيان عمَّا ننتجه بأيدينا وبذلك بتنا عالة على ما تنقله إلينا البواخر. |
إذا عنَّ لي اليوم أن أدعو الله ليصيب البواخر بكارثة تمنعها أن تصل إلينا.. فسيُقال إنها دعوة مجنون لا يعي ما يقول، ولا يميّز ما يتمنى، ولكن ليس بيني وبين العقلاء إلاَّ أن يدققوا حقيقة الفكرة ويناقشوا نواحيها المختلفة. |
إن الحاجة أم الاختراع، فإذا أصيب البحر بما يفقده النشاط، وتعذّر وصول البواخر إلينا فإننا سنندفع تحت إلحاح الحاجة لتحريك أيدينا حتى تنشط للأعمال، وتمرين عقولنا حتى تألف التمحيص والتنقيب، وإنشاء الأفكار من مظان العدم. |
سنستطيع أن نستغني يومذاك عن جميع الكماليات التي أودت بنا إلى مهاوي الترف، ووزّعت أموالنا على البيوت العاملة في أوروبا ونكتفي بالآنية التي يصبها صانعنا، والثوب الذي ينسجه حائكنا، وعود القصب الذي يبريه عاملنا لنكتب به فيما اتفق وكيفما اتفق. |
إنها آراء سبق إليها غاندي وعاش حياته يدعو إليها، ولكنه ما كاد يفارق الحياة حتى نسي أكثر العقلاء من أنصاره حقائق الفكرة وذبل حماسهم لها. |
وأكبر ظني أنه لو تهيأ لغاندي بعض المجانين من أمثالي لورثوا حماسه للفكرة، وثبتوا بعد موته لما دعا، واستطاعوا أن يستغنوا على مر الأيام بذواتهم عن كل ما تحمله إليهم أوروبا لتستنزف به أموالهم وتعطل بسببه مَلَكَاتهم، وتقضي على روح العمل بينهم. |
لم يوفق لغاندي إلاَّ مشايعوه من العقلاء. ولو أسعفه الحظ بنفر من المجانين لكان لمبادئه اليوم شأو غير هذا الشأو الذي قضت عليه الأيام، وعفت على آثاره في الحياة. |
|