شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-29-
لا أضيق بشيء ضيقي بالبيت من الشعر السخيف الذي تأبى أذواقنا إلاَّ أن نتداوله في مناسباتنا، كما نتداول الحكمة السائرة أو مأثور الشعوب من الفن الرفيع.
لا أدري أي جمال وهمه حفاظ الشعر في قول من قال:
المجد عوفيَ إذ عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم
حتى أباحوا لأنفسهم أن يحفظوه لنا في الكثير الرائع الذي حفظوا، وأن يذيعوا غشاءه إلى جانب ما يذيعون من طريف الشعر الراقي.
المجد عوفي إذ عوفيت!! -ولعلّها عوفيت الرفعة والعزة، وعوفي السمو والفضل! وعوفيت المروءة والكرامة، كما عوفيت جميع الخلال العالية والصفات الحميدة!!
من أدرانا لعلّ كل هذه المحامد بلغها مرض مولانا فتداعت، وتهافتت، وتعرضت لعدوى المرض.. ولكنها -بعد ألف حمد الله- ما لبثت أن تماثلت للشفاء على أثر أن عوفي مولانا؟
وليت شعري أكل هذه المحامد معرضة للأمراض عند أول بادرة يمرض فيها أشباه مولانا من عظماء الحياة؟. أم أنها لا تتداعى إلاَّ لمرضه وحده، ولا تشفى إلاَّ بشفائه وحده.. دون سائر عباد الله من أمثالي وأمثالك؟.. وإذا فرحنا لشفاء المجد، أو شفاء جميع المحامد متأثرة به.. أفلا نفرح لزوال هذا المرض وانتقاله إلى أعدائه؟
إن شاعرنا يعلم أن لمولاه أعداء، ولا يرضيه أن تنتهي حكايته عند شفاء المجد والكرم لشفاء مولاه دون أن يتمنى انتقال هذا المرض إلى جماعة الأعداء.
أجل فبند الأعداء فصل كان له قيمة في حياة العظماء.. قد يكونون أعداء وهميين، ولكنه لا معدى من تخيلهم، لتستوي مكانة العظيم في مكانها اللائق بين المراكز السامية.
فإذا تملقنا العظيم أو هنأناه، أو رجونا له طول البقاء.. فلا معدى لنا من العودة إلى عدوه لنلعنه أو نجدف عليه أو نتمنى له شر الأمنيات.
وليس ضرورياً لشخص العدو أن يكون معلوماً لنا، أو معيناً أمامنا، أو معروفاً منا بسوء أو إثم.. ليس ضرورياً هذا، إنما الضروري أن ننسج هذا العدو أو نتخيله، وأن نصب عليه ألوان قذائفنا من لعنة وشتيمة.
وإذا استغنينا عن الخيال فلا يبعد أن يصادفنا عدو هذا المولى في شخصية مرموقة، ومكانة رفيعة نزجي إليها الثناء الذي كنا نزجيه إلى صاحبنا من قبل، ونتمنى لعدوه السوء والويل وما عدوه إلاَّ صاحبنا قبله.
تلك صفاقة شاعت أجيالاً بعد أجيال، نسجنا فيها لكل خليل عدواً، ولكل حبيب بغيضاً.. وعاشت بيوتنا تستجر هذه المعاني السخيفة، فالأم تزجر ابنها وهي تجدف (عمى في عين العدو) و (ضربة في قلب العدو) ويجاريها الأب، كما يجاريها القريب والصديق.. فينشأ الطفل في أوضاع يتخيل فيها الأعداء الموهومين قائمين على كثب منه، متربصين به فيتهيأ للحذر، ويتعلم من خلاله ما يقصيه عن السماحة والسجاحة، وفضائل العفو.
لا غرابة أن يغمر شاعرنا هذا اللون من الأدب الصفيق، وأن نسمعه بعد أن يروي قصة المجد الذي شفي بشفاء مولاه، لا يهنأ بشفائه فحسب، بل يتمنى أن يزايله المرض إلى أعدائه الذين لم يسيئوا إلى الشاعر، ولم يناجزوه.
إنها مأساة الكذب في آدابنا وفنوننا.. فإذا استطعنا أن نستشهر الصدق في كل مآتينا فسيظلنا اليوم الذي نستطيع أن نستغني فيه عن صفاقة مثل هذا الشعر:
المجد عوفيَ إذ عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم
عند ذاك نلهم بأن المجد والكرم لا يتأثران كثيراً بما يصاب به ممدوحنا، وأننا إذا رجونا السلامة لممدوحنا فليس في هذا ما يستلزم تمنياتنا بأن يزايله المرض إلى شخوص لا نعرفهم، أو لا يجمعنا بهم جامع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :439  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج