شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-28-
أعجب ما يعجبني في دنيا العقلاء، ويثير إكباري لهم.. أن مَلَكَاتهم من العقل السليم لا تخذلهم في أدق المواقف، وأشدها حرجاً.
ماتت إحدى قريباني فارتج بيتها من هول الفادح، وضج بنواح الثكالى، وبكاء اليتامى.. وصك آذاني عويل يدمي القلوب، وتتفطر له الأفئدة القاسية.. فتبادر إلى ذهني أن فداحة المصاب ستترك أثرها في عقول هؤلاء المصابين، وأنني لا آمن أن يعجزوا عن السيطرة على ملكاتهم من العقل قياساً على ما عرفته في دنيا (المهابيل) من أمثالي.. ولكن فألي ما لبث أن خاب، وتجلّى أمامي من قوة مواهبهم ما أثار إكباري.
لحظتُ أن المحزونين في أشد لأوائهم استطاعوا أن يجتمعوا لكتابة سائر الأسماء من أقارب، وذوات، وجيران، ومعارف.. ثم ينتدبوا من يكلفونهم تبليغ خبر الوفاة، وموعد تجهيز الجنازة.
إنها ملكة العقل تستأهل الحسد.. فأصحابنا المحزونون الذين ظهروا في عويلهم يشبهون المأخوذين لم يعجزهم أن ينسوا أحزانهم في سبيل تقاليدهم وما تحتمه العادة والعرف.
ومضى بعضهم في التعقل إلى أبعد من هذا.. فشرعوا يجهزون في هدوء كل ما يلزم لاستقبال المدعوين لتشييع الجنازة، ويرتبون ما يصلح لإطعامهم والحفاوة بهم كما لو كانوا يستقبلون إحدى فرص الحياة الممتعة.
إنها موهبة تتميز بهذه القدرة على الخلط بين مشاعر، وأخرى.. لا يملك المهابيل من أمثالي مثلها.. فظروف المآتم في بيت مخبول مثلي لا تتسع لهذه العناية التي يستطيع العقلاء فيها أن يضغطوا أحزانهم، ويهيئوا أنفسهم لترتيبات لا نهاية لها، يحتفون فيها بصور خليقة بأن تتفق مع المناسبات البهيجة السارة.
لحى الله تقاليدنا في الحياة فقد أقحمت العقلاء في ألوان من التكاليف لا يبررها منطق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :382  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.