-27- |
ما أعمقها ساعة قضيتها على كتف الهضبة المطلة على منحدر الوادي.. حيث تتجمع السيول في أخاديد لا غاية لأغوارها، وتتناغى العصافير فوق أدواح لا نهاية لآمادها. |
كنت في جلستي عميقاً كأغوار الأخاديد، بعيداً عن نفسي بعد ما بين عينيَّ من آماد، منطلقاً عنها انطلاق العصافير فوق الأدواح. |
وشاقني عصفور نشيط الحركة، خفيف الظل.. أبى إلاَّ أن يأتنس بهذا المتوحّد. ولعل في عالم العصافير من يشوقه أن يتطفل كما في عالمنا.. ليستكنه حقائق من ترامت حقائقه، وينزه فؤاده في مدخل أسرارهم، وما غمض من خفاياهم. |
قلت: يا عصفوري الجميل. هل تلذك النجوى؟ وهل يعجبك أن يناغيك المتوحِّدون؟ |
إنني أحسدك على هذا الانطلاق الذي لا تحده غاية، ولا يقف دونه مدى. |
أليس بينكم يا عصفوري الجميل عاقل يقرر لكم الأوضاع، ويضع الحدود.. فلا ترفرف إلاَّ في حين!! ولا توصوص إلاَّ في نطاق!! ولا تخفق بجناحيك إلاَّ في حدود!! ولا تلمس بمنقارك إلاَّ في مقياس؟!! |
إننا معشر بني الإنسان مصابون بعقلائنا أكثر ممّا نحن مصابون بأقوى الجوائح فتكاً في الحياة. |
إن عقلاءنا يجيدون تخطيط الحدود، ويتقنون تلوين الأرض.. فأنا وليد شعب أسمر لا يمت بصلة إلى شعوب أخرى تختلف ألوانها من الأحمر إلى الأبيض إلى الأسود. |
وأنا في عرفها وليد قرية تتبع قطراً في أواسط الشرق لا يمت بصلة إلى بقية الشرق من أدناه إلى أعلاه، ولا تربطه علاقة بأي جزء في بقية أركان الأرض. |
فهل بُليتم بأمثال عقلائنا من أساتذة التخطيط، أم أنتم سادرون في غفلتكم، منطلقون في أوسع ما تنطلق فيه أجنحتكم لا تحدكم خطوط ولا تخططكم حدود؟ |
ألا تسمعني يا عصفوري الجميل؟ |
أم أن آذانك ليس لها سبيل إلى لسانك؟؟ |
إنك سعيد يا عصفوري بعجزك عن النطق.. فإن من أدوائنا الدوية أن أجاد عقلاؤنا البيان وأتقنوا فن الإصلاح!! |
إننا كما نحن مصابون برجحان عقولهم.. مصابون كذلك ببيانهم الفصيح، وفصاحتهم البائنة. |
إن بلاغتهم تغرينا بالحياة، وتخدعنا في حقائقها.. دربونا على الذب عن حياض لم ترسمها إلاَّ خطوطهم. وعلمونا الاستبسال في قضايا لم تخترعها إلاَّ أفكارهم.. فإذا رأيت أراضينا مصبوغة بالدماء، وآفاقنا محشوة بالبارود، وأجواءنا صاخبة بالحمم.. ورأيت مناجل الموت تحصد أرواحنا، وآلات الفتك تفني حياتنا.. فثق أنها منحة العقلاء ونعمتهم. |
|