شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسم الله الرحمن الرحيم
نۤ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (القلم:1-2)
صدق الله العظيم
رأيته أول ما رأيته في سهرة خاصة في بيت أحد أصدقائي، فأنكرت منه نظرة شزراء حدجني بها وأنا أحييه.
إنه لم يحفل بالتحية فآلمني.. أمّا هذه النظرة المريبة الشزراء فقد بلغت من نفسي أقصى ما يبلغه الألم!!
إني لا أعرف شخصه قبل اليوم، فهل عرفني من حيث لا أدري؟ وهل أسأته في أي مناسبة تركت أثرها في مثل هذه النظرة القاسية؟
شغلت هذه الوساوس جزءاً كبيراً من مقامي بين إخوان السهرة، وصرفتني عنهم إلى آفاق اضطربت فيها كما يضطرب الملتاث لذعة قارص!
استرعى اضطرابي انتباه صديق لامع كان يجلس إلى جواري، فمال على أذني يستطلعني في صوت خافت سر هذا الالتياع، فعجبتُ لنفسي أكثر مما عجب، ورحتُ أعلّق على الموقف بصوت مسموع، كنت آمل أن يبلغ مسامع صاحب النظرة الشزراء قبل أن يبلغ الآخرين!
قلت إننا جماعة (العصبيين) في الحياة، نبيح للمتطفِّلين أن ينالوا من أعصابنا ما لا يستأهل النَّيل؛ وقد يصادفنا المتطفِّل من أهون الناس شأناً فننسى هوانه. وتأبى أعصابنا إلا أن تتوتر لنظرة طائشة، أو حركة تدل على هوان صاحبها، أو صَغاره.
قلت هذا وأنا ألهث كما يلهث المطارَد في ميدان واسع الحلبة، وكنت أظنني بلغت من صاحبي ما يبلغه الموتور.. ولكن صاحبي كان أثقل من كتلة الحديد وقد بلغ وزنها أطناناً!!
وكان في عينيه من الجمود ما أحالها إلى لون الزجاج الصافي.
أكبرت تعاليه بقدر ما استصغرت هواني، وزاد حردي عندما رأيته يتناول جريدة كانت في متناول يده على رف قريب ويقلّب صفحاتها في برود مَن لا علاقة له بما أقول.
وعاد جاري في المجلس يميل على أذني ويسر إليها: ((إن صاحبك مجنون فلا تكلّف أعصابك ما يرهقها)).
أمجنون هو؟؟
إن هذا آخر ما يمكن أن يُقال.
ولِمَ لا أكون أنا المجنون، وقد اهتممت له أكثر ممّا يحتمل من الاهتمام، وعنيت بنظرته الشزراء أكثر ممّا تستحق من العناية؟
أمجنون هو؟؟
ما أكبر هذا المجنون الذي يعرف كيف يمتحن الأعصاب الضعيفة، ويعلن بين الناس خورها وعدم تماسكها!!
وهل يكون مجنوناً هذا السمت الرزين، والشخصية الوقور والهيئة الناطقة بأروع ما تنطق به هيئة جذابة؟
* * *
ولمْ تمضِ إلاَّ دقائق حتى رأيت صاحبي ينتصب في قامة فارعة، ثم يمر بيده على أثوابه مراً رفيقاً كمن يصلح مواضع الصقل من طياتها، ثم يومىء إلى الحضور كمن يستأذن في إيماءة لها من معاني العجرفة ما لا يقل عن معاني الأدب.
وانطلقت الألسن بعد خروجه على عادة الحياة بين أبنائها فقال أحد الجلوس:
إن الشذوذ سينتهي بهذا الرجل إلى ما يعجز عنه العلاج.
وقال آخر: إن الوساوس تملّكت رأسه فهو منها في شر مستديم.
وقال ثالث: إن مَلَكَةَ التفكير أرهقها العمل المستمر فانتهت به إلى رد الفعل الذي ينتهي إليه الإرهاق.
أمّا مضيفنا صاحب البيت فكان لا يرى ما يرون؛ فقد جادل المختلفين في شأن صاحبه وأطال الجدل ليثبت لهم أن صاحبهم سليم التفكير، غزير الفهم، وأنه لا ينكر عليه إلاَّ بعض التطرّف الذي ينكره الناس على أصحاب الآراء الحرة في الحياة.
قلتُ: وهل تظنني كنت هدفاً لتطرّفه الذي تقول به رغم عدم معرفتنا قبل اليوم، أم تظنها الآراء الحرة تهيئه لكراهية الناس وبغضهم دون مبرر سابق؟!.
فقهقه جاري في المجلس، وقال: ما بالك تستبعد أن يعرفك صاحبنا كأديب ومؤلِّف، وربما أنكر عليك عيوباً علمها ممّا تكتب؟ أتريد أن تزكّي نفسك أمامنا حتى من عيوبك كأديب؟؟ إنك لو استطلعت رأيه فيما يبرر النظر والشزر فليس ببعيد أن تتكشف لك حقائق من الخير أن لا تتكشف.
* * *
وشعر مضيفنا أن الحديث سيتحوّل إلى غير لونه الصافي فشرع يفسر ما فهمه من النظر الشزر فقال:
ألست معدوداً من أدباء هذا البلد؟
قلت: لعلّهم كذلك يقولون.
قال: فإذا صح ما قاله الناس فأنت من المكروهين عند صاحبنا.
قلت: أهو عدو للأدب؟
قال: بل هو عدو للأدباء، ولديه عنهم آراء. لا أدري مبلغ الحق فيها من الباطل. ومن رأيي أن تمهد لمناسبة تجتمع به فيها عساك تستطيع أن تستطلع رأيه فيك وفي أمثالك من معاشر الأدباء.
قلت: وهل تراه رأياً عالياً يستحق هذه العناية والتمهيد؟
قال: أمّا عن الرجل كمفكر مثقف فأنا أول مَن يشهد بغزارة اطلاعه وقوة ملكته في دراسة الأفكار وفهمها.
وأمّا إذا كان في بعض استنتاجه ما يصح أن يتسم بميسم التطرّف أو الشذوذ الذي أشاع عنه بعض ألوان الجنون، فهذا بحث لم أنتهِ فيه إلى اليوم برأي خاص، وعساك أن تصل في شأنه إلى ما لم أصل.
* * *
ومضى عام أو ما يقارب العام نسيت في أثنائه الفكرة كما نسيت صاحبها. إلى أن مررت في أحد الأيام بدكان خياط من أصدقائي لمحت فيه صاحبنا وقد أخذ يحاضر إحدى المتسوّلات بلغة لم تفهم المسكينة منها غير معاني الزجر والطرد. فاستوقفني صوته، واستهواني لدخول الدكان.. وأنا أؤمل أن أستمع إلى شيء ممّا يقول، وأن أظفر بلون يدلني على حقيقة أمره.
ونشط صاحب الدكان لتحية القادم، وتبعه شخصان كانا بجواره، أما الأستاذ -وهكذا كانوا يلقبونه كما علمت فيما بعد- فلم يتحرك لقدومي، ولم يتفضَّل بإعارتي لفتة تدل على شعوره بوجودي!!
تغافلت عن جموده، ورحت أمد يدي لمصافحته بعد أن صافحت الحاضرين، فلم يزد على أن مد يده في فتور، ثم انطلق يتابع محاضرته في شأن المتسوّلة رغم أنها ولّت الأدبار بعيداً عن الدكان.
وسمعت أحد الشخصين يحاوره: ((إنك يا أستاذ تعلم أن الله ينهى عن نهر السائلين، فما بالك تسيء إلى المسكينة بمثل هذه الفظاظة القاسية؟. إن مثل هذه لا تكلّفك إلاَّ أن ترد عليها رداً حسناً يصرفها إلى غيرك، ولا يحمّلك هذه الأوزار التي تقترفها)).
فلم يزد على أن نظر إليه النظرة الشزراء التي ساءتني في أحد الأيام، ثم انتقل بها حتى واجهني بمثل قسوتها، ثم اعتدل واقفاً في قامته الفارعة. وأومأ إلى صاحب الدكان إيماءة متكبرة تشير إلى الخروج، ثم ولّى ويده لا تفارق ثيابه الناصعة، كأنها تعيد صقلها.
لم يستثر دهشتي كثيراً بما فعل، فرأيه في شأن المتسوّلة رأي كل مثقف يعرف حقيقة السائل الذي يأمر الدِّين بمواساته.. إن مثل هذا النوع من محترفي التسوّل لا يستحق العطف بقدر ما يستحق التقريع والتأديب.
إن مثل هذه الفتاة التي شهدت الأستاذ يحاضرها باللغة القاسية التي فسَّروها بالإهانة والطرد لا ينبغي أن ننحاز إليها ضد الأستاذ.. إنها في مثل هذه السن اليافعة تعرّض نفسها لأخطار الطريق، وتربي نفسها، أو يربيها ذووها على خِلال لا تستطيع التخلص منها في مقتبل العمر، وتحكم على أنوثتها بأفظع ممّا يحكم عليها الجبابرة الظالمون.
إننا إذا افترضنا حاجتها إلى ما يقيم أودها، أو يسد حاجة أم لها، أو أخوة عاجزين عن الكسب، ففي استطاعتها -إذا أرادت الاستقامة- أن تبحث عن مخدوم يقبلها لأهله ويكفيها ذلّ السؤال، ويمنحها مرتباً شهرياً يعين العاجزين في بيتها.
وفي استطاعتها إذا أبت قيود الخدمة أن تعرض نفسها في البيوتات الكبيرة على أعمال الغسل أو غيرها من الخدمات المؤقتة التي تدر عليها ما يكفل لها أسباب العيش. فالبيوت في أعوامنا الأخيرة أصبحت شديدة الحاجة إلى الغاسلات والخادمات.
وجميع المتسوّلين والمتسولات من هذا الصنف لا يجهلون حاجة الناس إلى الأيدي العاملة، ولكنهم استمرأوا الكسل ووجدوا في احتراف التسوّل مهنة مربحة تدر عليهم أخلاف الرزق. وقد تقاعدنا عن تهذيبهم والضرب على أيديهم فاستفحل داؤهم وتفاقم!!
هذا رأي أناصر به ((الأستاذ)) من غير شك، وأستطيع أن أبدأ به كسطر جديد في صفحة ((له)) كما يسمّيها رجال الحسابات!! فقد كان رأياً له قيمته، وفيه أدلة على نضج عقلية الأستاذ وحصافتها.
ولكن ما شأن هذه الكبرياء التي تحجزه عن مناقشة إنسان عارض فكرته وهو يحاضر الفتاة المتسوّلة؟؟
أتراه يترفع عن منافسة معارضيه فيزدريهم بهذا التمثيل الذي شهدنا لونه في مغادرته دكان الخياط؟ أم هو نوع من نوبات الشذوذ الذي يعتري بعض المرضى بعقولهم؟
على أنني لا أتعجل البتّ فيما أرى، ولا أسوّد الصفحة المقابلة بمثل هذه النقاط حتى أتبيّنها وفي حوادث الأيام ما يكفل ذلك.
وبينما أنا أجلس في أمسية أحد الأيام في ردهة المطبعة المطلة على الساحة أمامها.. وكانت أعمال الهدم في توسعة المسجد الحرام على أمتار مني تعقد غباراً يستحيل معه مرور المارة، وأصوات آلات التفجير في الجبال تضج بها أجياد والأحياء المجاورة، وقِطع الأحجار تتناثر من شدة التفجير إلى آفاق مترامية بعيدة، والناس تجري في ذعر مبعدة في الشوارع النائية.. إذا بصاحبي (الأستاذ) على خطوات مني يلتمس الفرار بثيابه المصقولة. ويده لا تفتر عن نفض الغبار بكفه مرة، ومنديله أخرى، وأنامله لا تفتأ بين هذا وذاك توالي مرورها الرفيق على طوايا الثوب، تمدد ما انكمش، وتصلح ما انطوى.
كانت فرصة لا بد من اهتبالها لدعوة (الأستاذ) إلى مجلسي من الردهة تمهيداً للتعارف بيننا، ولكن صوتي -إذا أردت أن أحسن الظن- أبى إلاَّ أن يضيع بين دوي آلات التفجير القاصف، فأسرعت أستبق الخطو حتى انتهيت إليه. ووجدتني أقلد عجرفته، فلم أبدأه بتحية قبل أن أتأبط ذراعه، وأمضي به إلى مجلسي بخطى عنيفة عصاني فيها أولاً، ثم أسلسها لي وهو يضحك في تبرم وغيظ.
قلت وأنا أقدم له كرسي الجلوس: أي حرج يثنيك عن هذا المقعد الذي يعصمك من الغبار، ويقيك شر الأحجار المتطايرة؟
فافتر ثغره عن ضحكة أزاح عنها أثر التبرّم، وامتدت يده إلى كفي يشد عليها في حركة تدل على الامتنان، ولاح على وجهه مشروع كلمات كاد أن يقولها.. ولكنه ما لبث أن كظمها في عزم أكيد.. ثم عاد إلى الضحك وفي وجهه من المعاني ما يختلط على أمهر قرّاء الأفكار.
وعنَّ لي أن أستثيره، فورد إلى خاطري بيت من الشعر القديم تراءى لي أنه ربما فسّر رأيه في مثل هذا الظرف فقلت: أترى الشاعر القديم كان جاداً فيما ادّعى وهو يقول:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بد!!
فافتر ثغره عن ابتسامة امتزج فيها الرضا بالسخط، ولم يزد عن أن تشاغل بثوبه يصلح طياته من أثر الكرسي وبدأ يتحرك كمن يتهيأ للقيام.
وأشفقت أن تفوتني الفرصة التي لا أعوضها مع أمثال هؤلاء الشواذ. فقلت -وأنا أحاول إيلامه ليخرج من صمته- لعلك من هذا النفر الذي يصطنع الكبرياء ليشيد لنفسه مقاماً وهمياً.. إنها شعوذة يا صاحبي لا تصدر عن رجال ندبوا أنفسهم لتعليم الناس معاني الفضائل، إننى لا أنسى يوماً رأيتك فيه تبذل من الجهد الشاق ما تحاول به أن تصلح فكرة المتسولين في شخص تلك الفتاة البائسة التي أبيت إلاَّ أن تلقنها معاني الكرامة، وتعلّمها كيف تربأ بنفسها عن ذل السؤال، فكيف توفق بين الحساسية العالية التي تندبك لوعظ الفتاة وبين الفتور العاطفي الذي تجازي به إنساناً مثلي يحاول أن يتعرف إليك ويخطب ودك؟
وقلت: إن أفضل مميزات الرجل الراقي أن يتمتع بحساسية عالية تحبب إليه مصافاة الناس، وتربأ به عن مجانبتهم، وإشعارهم بمعاني الكراهة التي يتجلّى بها محياك، كلما جمعتك بهم صدفة، أو ساقتهم إليك مناسبة.
إنك يا صاحبي تُعنى بأثوابك عناية أصحاب الذوق الرفيع، وتنسى أن أصحاب هذا اللون من الذوق يحاولون أن يرضوا بتجمّلهم مَواطن الجَمال في أعماق الناس تودداً إليهم، واصطفاء لهم فأين أنت من هؤلاء وأنت فاتر العاطفة مغرم بمجانبة الناس وكراهيتهم؟.
قلت هذا وأنا أنظر في عينيه وقد تعلقت أهدابهما بمخارج الحروف من فمي.. يتابع بها كل حرف أنطقه في بلاهة المشدوه، وحفاوة المُعجب، حتى إذا انتهيت إلى نهاية ما قلت، أطرق برأسه يتعقب مواضع الصقل من ثوبه، ويمر بيده في رفق على مَواطن الانكماش منه.
ثم عاد فرفع رأسه وهو يهم بالكلام.. ولكنه ما كاد ينطق حتى بدأت المعاني تتقشع عن محيّاه، وبدا كمن يبذل جهد المستميت ليفتح على نفسه بحرف يلفظه أو كلمة يقولها.
تركته لصمته وأنا أقدّر في نفسي شعور بعض أصحاب المزاج الحاد ممّن ينقادون لأعصابهم.. فينشطون للحركة أو الكلام إذا توترت أعصابهم، ويهدأون إذا خمدت جذوتها.
ولا آمن أن يكون صاحبي مريضاً بأعصابه إن لم يكن شيئاً آخر ممّا لم تتكشف لي حقيقته بعد.
وواتاني صوته وأنا في غمرة من اضطرام أفكاري، فلامس أذني في خفوت الأصوات الحالمة، ثم انطلقت نبرته في جرس يئز أزيز الأثقال المشدودة إلى جِمال وئيدة الخطو قوية الإسار.
- إنك يا صاحبي قرين قوم أحاول ألاَّ أكرههم! ولكني -وأنا أصدقك القول- لا أشتهي أن أحبهم.. لهذا كنتُ أتمنى ألاَّ تجمعني بك أو بمثلك مناسبة، أو ينفسح أمامنا باب للجدل.
لم أدهش كثيراً لما قال، لأن فكرة إضافتي إلى جماعة الأدباء الذين يمقتهم لا تزال عالقة بذهني من أول يوم رأيته فيه يحدجني بالنظر الشزر، وسمعتُ مضيفنا يومها يفسر ذلك بمعاني الكراهة التي يشمل بها أدباءنا وقد تمنى عليَّ أن أحاول حل هذه العقدة، أو أن أتوصل إلى معرفة بواعثها من نفسه.
قلت وأنا أحاول أن أبدو طبيعياً لا يستثيرني جفاؤه أو جفاف صراحته:
- إنك -ولا ريب- لم ترتجل كراهتك ارتجالاً شأن إنسان بادي الرأي يتأثر بالفكرة الطارئة والهوى الجامح، ولكنك مهما بلغت في تزكية نفسك لا أعتقد أنك تستطيع أن تدَّعي لها العصمة من خطأ يندس إليها، أو غلطة تلتبس عليها، ولهذا يجمع المفكرون على أن الحقيقة لا تكمل عناصرها قط إلاَّ بعد عرضها للمناقشة والبحث، وأنت فيما يبدو لي إنسان تتكبر على البحث وفي هذا -كما لا تجهل- لون من الأنانية لا آمن أن يغريك بالخطل أو يلبس عليك بعض الأغلاط.
قال وقد تفتحت أساريره للكلام، وغاض من محياه ذلك الاشمئزاز المغيظ، واستنير مزاجه للبحث القوي الذي شهدت غراره يوم سمعته يحاضر الفتاة المتسوّلة..
إنه قد نسي الآن ثوبه كما نسي مواضع الصقل فيه، والتفت يواجهني في جد صارم، وكلمات قوية نفاذة.. كانت تتدفق في تزاحم خِلتُ معه أن صاحبي سيستحيل إلى شيء جديد لا يمت بِصِلةٍ إلى ما عرفت. قال فيما يحدثني به:
أرأيت في حياتك أديباً لا يؤجر؟ ستقول إنه ينقصني أن أفرق بين أديب مرتزق، وأديب أصيل.. إنني لا أُحاجّك في المرتزق ما دمت تعلمه. ولكني أناقشك في الأصيل لأني عشت شبابي أبحث عن مكانه بين الأدباء، فأعياني البحث دون أن أصل إلى جدوى.. إني أفهم الأصيل كفنان يرضي حاجته إلى الذوق الرفيع دون أن يأبه لتفاعلات الحياة التي كونت وجدانه، وهيأته لسائر القيم التي توارثتها بيئته.
إن جماعة المرتزقة من أدبائكم يستأهلون العطف أكثر ممّا يستأهله غيرهم.. فقد كانوا أكثر صراحة في تنزّلهم إلى أدنى ما يبلغ إليه التنزُّل، أمّا روّاد الفن من غيرهم ونحن نسمّيهم أصلاء فقد خادعونا بما يزيفون.. إنهم لا يرتزقون بأقلامهم ولكنهم مجندون لخدمة ما تواضع الناس على تقليده أو تقديسه.. إن أجرأهم قلماً لم يقوَ إلى اليوم أن يستنَّ للناس نهجاً يخالف ما ألفوا من مناهج، أو يطعن تقليداً طال اطمئنان الجماهير إليه، واحتل من نفوسهم مكان القداسة والتحبيذ.
بالأمس رأيت قطباً من كبار علماء الباكستان يمشي إلى حقل درسه في المسجد، وليس عليه من الثياب إلا سروال طويل وقميص رقيق، وقد أناط برجله جلدة من أبسط ما يمكن انتعاله، وترك رأسه الأصلع يواجه الشمس والهواء.
إنني أتمنى أن أكون إنساناً مطبوعاً، أطلق جميع العنعنات التي ورثتها أثوابي وأواجه الحياة إنساناً جديداً لا علاقة له بجميع ما ورث من قيم.. ولكنني عبد مجنَّد، مأجور لخدمة جميع القيم التي تفاعلت مع عواطفي في هذه البيئة، وتغلغلت إلى وجداني فهيأته لما ترى.
إنني لا أستاء لشيء استيائي لهذه العبودية التي تنغص حياتي، والتي عجزت إلى اليوم عن كسر أغلالها.. وقد ترك هذا أثره واضحاً في أخلاقي، وشهده الناس ظاهراً في اضطراب تصرفاتي، لهذا ظنني بعضهم أوسوس، وأضافني غيرهم إلى أصحاب الشذوذ، ولم يتورع كثير منهم عن اتهامي بالجنون.
لك أن تسمّيني معهم مجنوناً إذا شئت، فإن ذلك لا يهمني مناقشته كثيراً. ولكن يهمني ألاَّ تنسى أنني عبد مجنَّد لخدمة جميع التفاعلات التي كونت ذاتيتي.. إنني مؤجر -من حيث لا أدري- للمشي في ركاب المناهج التي اطمأن الناس إليها، واحتلت من نفوسهم مكان التمجيد.
وهذه هي المأساة التي أشكوها من كل أديب أصيل، لا في بلادنا وحدها، بل في أكثر بلاد الشرق العربي.. إنهم مجندون مثلي لخدمة جميع الأفكار التي تفاعلت مع عواطفهم وكونت ذواتهم، فليس منهم إلى اليوم مَن يجرؤ على طعن تقليد احتل مكان القداسة من الناس وليس فيهم مَن يستطيع أن يتصدى لأي معادلة ورثها الجمهور من جيل كان يستضيء بنور ((لمبات الغاز)).
إنهم مثلي مؤجَّرون من حيث لا يعلمون لمشايعة جميع القيم التي تغلغلت في وجدانهم بمرور الأجيال، ولكنني أختلف عنهم لأنني أشعر بعبوديتي فينتابني الغيظ والحرد، ويظهر أثره على جميع تصرفاتي فينعتني الناس بالشذوذ مرة وبالجنون أخرى، أما حضراتهم فقد اطمأنوا إلى ما سخروا، وباتوا راضين بمشايعة القيم التي انطبع الناس عليها، وتوارثوا قداستها فكانوا في رأي أنفسهم عقلاء.
دُلّني على مكان الذوق الرفيع بينهم.. ذلك الذي يستعصي على جميع العواطف التي كونته، ويكبر عن تقديس القيم التي أستنَّتها الأجيال المظلمة.
ضع يدي على القلم الجريء الذي استطاع أن ينتهج خطة جديدة يتصدّى بها لهدم المعايير التي استنَّها وزَّانون عاشوا مغمورين وماتوا مجهولين، ثم طالبني بتقديره وافرض عليَّ حبه إذا شئت.
إنني لا أكرههم.. ولكني لا أشتهي أن أحبَّهم حتى يشعروا بمقدار عجزهم عن رضا الذوق الرفيع.
قال هذا ولم يترك لي فرصة التعليق على ما يقول، فقد غادر الكرسي دون أن يكلّف نفسه إيماءة يستأذن بها، أو حركة يشعرني فيها برغبته في الانصراف.
ورأيته يتابع خطاه في بطء المثقل بهموم الحياة، ويداه تنفضان ما انكمش في ثيابه مرة، وتلوحان في الهواء أخرى كأنهما تتابعان حديثه في قصة الأدباء.
وكان -في رأيي- أن الحديث لم يستوف جوانبه البارزة، فحاولته ليعود، ولاحقته بصوتي فأبى إلاَّ أن يتصامم.. وأخفته عني عطفة الطريق.
كنتُ أتمنى أن أقول له: إن المبدع لا يبني في الهواء، وإنه إذا لم يتفاعل مع الأوضاع التي ورثها، فإنه لا يقوى على الإنشاء المستقل.. ولكن مذهبه فيما يبدو لا يصيغ إلاَّ لنداء نفسه، وتلك مأساته وحده قبل أن تكون للأدباء مأساة.. فهل جاز لي أن أتهمه بالجنون أو الشذوذ؟ أم أن أمره أعمق من أن أتعجل فيه البت؟؟.
هذا ما تركته يومها للظروف المقبلة، وأخشى أن تكون عناصر هذه الظروف لم تكتمل إلى اليوم حتى أجرؤ على الحكم فيه.
* * *
تتابعت الأيام وأنا لا ألتقي بالأستاذ!! إلاَّ لماماً، وعلّمتني أحواله ألاَّ أحتفى ببوادره مهما تكن ألوانها، وأن أتقبل مآتيه دون أن أتكلّف لها تفسيراً أو أناقش فيها معنى.
كنتُ أعتقد أنه صاحب مذهب، وأن مذهبه لم يقسُ على عامة الناس وخاصتهم ليستثني نفسه من هذه القسوة، إنه يقسو على ذات نفسه بالقدر الذي يقسو به على الناس، ولهذا بات ساخطاً على جميع الأوضاع في الحياة بعد أن تراءت له مقلوبة لا تتسق وما تخيله من نظام.
لستُ أدّعي أنه متشائم لأن المتشائمين قلّما يهدفون إلى إصلاح بين، ولستُ أرى أنه مجنون لأن المجانين لا يرمون إلى غايات واضحة لهم.. كما أن القول بأنه عاقل شيء لا أرى في تصرفاته الشاذة ما يشجعني على الأخذ به.
كنتُ أناقش أمثال هذه الأفكار في نفسي كلّما جمعتني به صدفة. ولكني لم ألزم نفسي قط بنتيجة يتعيّن عليّ اعتمادها في شأنه.. كنت أكتفي بالاستماع إلى الرأي الذي يبديه في الأوقات القليلة التي يواتيه فيها مزاج البحث دون أن أطلب إليه شيئاً أو أعارضه في بحث. وأستطيع اليوم أن أؤكد أنني بالرغم من تكرار الصدف التي سمعته فيها يناقش الآراء التي ناقشها، لم أجرؤ على الجزم بشيء في رجحان عقله فهو يسمو في نظري أحياناً إلى مرتبة الفلاسفة من الصف الممتاز، ويدنو أحياناً من الدرك الذي لا أملك له تفسيراً.
أمّا تصرفاته في معاملة معارفه فلم يُرضَ شيء منها على الإطلاق.
ويبدو لي أن مواقفي السلبية الفاترة من شذوذه أرضت عواطفه بعض الرضا.. فتعلّم زيارتي في إدارة المطبعة، ولذ لي أن أغريه بهذه الزيارة فكنتُ لا أثقل عليه في جلوس أو مغادرة، ولا أحرجه في بحث لا يشتهيه أو أعارضه فيما يشتهي.
كان حسبي منه أن أستمع إلى ما يعنّ له من الآراء في الأوقات التي يحالفه فيها طالع طيب، كما أسكت عنه عندما يخالفه الطالع أو يشرد به ذهنه في آفاق تستبيه.. كما تستبي المجانين بعض التخيّلات الشاردة!
وكان يسمعني في بعض الأحايين أناقش بعض الأفكار فلا تلذ له طريقتي في الاستنتاج إلاَّ في القليل النادر، وكان في بعض الأحايين يستنكر آرائي فيصوِّب إليَّ نظره الشزر.. دون أن ينبس بكلمة، وربما ترك مكانه في حدة غاضبة وأولاني ظهره في طريق الباب لأن إحدى بوادري لم تعجبه، فلا أتكلف له أكثر من كلمة (شويه يا أخ) التي لا جواب لها عنده غير ترك المكان بعد أن يكون قد سوى مواضع الصقل من ثيابه، وأصلح ما تكسر من طياتها.
وفي آخر مرة رأيته كان قد غاب عني أكثر من بضعة أشهر لا أراه ولا أسمع خبره، فلما حياني أبى أن يجلس، وراح يحدثني في اقتضاب عن عزمه على الارتحال إلى جهة أبى أن يسمّيها، ثم قال: وإني أستودعك أوراقاً أرجو أن تحافظ عليها ما أمكنك الحفظ على أموالك ونفسك، لتعيدها إليَّ سالمة كما تسلّمتها إذا كتب لي أن ألقاك، ولا حرج عندي إذا طال العهد إلى أكثر من خمس سنوات أن تفرض عليها ملكيتك فتنشرها إذا رأيت فيها ما يستحق النشر، أو تدفعها إلى العجوز (لمّام الورق) الذي ألِف المرور بالمطبعة، وسخّر حياته لجمع ما تناثر حولها من ورق مكتوب ليضمها إلى أكياسه المنفوخة، ويلهب فيها النار التي تعود أن يلهبها فيما يجمع من مهملات.
قلت: ولكني سأستبيح لنفسي حق قراءتها مدة غيابك إذا أذنت، فلم يُبدِ اعتراضاً.. ومد إليّ يده برزمة ما كدت أتسلّمها حتى كان قد غادر المكان دون أن يحييني أو يهتم لتوديعي.
ودهش للأمر صديق كان يجلس إلى جواري، وانطلق يسألني عن سر هذا الشذوذ؟ فقلت: لعلّه يبطن علة لم أتبين حقيقتها، وإذا صح فإن وديعته هذه لا تخرج عن فصول كان يكتبها لنفسه فإذا كنت تسخو بشيء من وقتك فإني على استعداد لأن أتلاقى وإياك على قراءتها، لعلّ فيها ما يحل غامضاً من ألوان هذه الحياة، أو يفسّر جانباً من جوانب الشذوذ فيها.
وقد صح حدسي فتكشفت الرزمة عن فصول دبجها صاحبنا لنفسه دون أن يعنون فيها فصلاً إلاَّ ما كان من أرقام تسلسلت تحتها الفصول، وكان أروع ما في هذه الفصول خطه الواضح الجميل الذي كان يتألق في صفحاتها تألق الصقل في أثوابه النظيفة.
أما مادة البحث فيها فقد كانت مجالاً لمناقشات لم أتفق وزميلي فيها بقدر ما اختلفنا.
وعنَّ لي وقد أصبحت اليوم أملك التصرف في حقوقها أن أصدرها كتاباً وأنا أؤمل أن أجد صداه في أوساطنا المثقفة الجديدة.
وأعتقد بعد أن طالت غيبته إلى أطول من المدة التي عيّنها، وفقدت أثره فقداناً كاملاً، أنني في حل من إذاعتها على النحو الذي يراه القارىء فيما يأتي من فصول.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :880  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 33 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.