هذا التفكك.. مصدر مآسينا |
في تاريخ الإسلام السياسي مواقف دقيقة كانت لها خطورتها بالنسبة لكيانه العام.. ونحن اليوم في موقف جديد من مثل هذا اللون له دقته وخطورته، التي لا تقل بحال عن خطورة أمثاله في تاريخ الإسلام. |
نواجه من تكالب الأمم علينا، وتعاونهم على استرقاقنا، واستنزاف دمائنا ما لا يجوز إغفاله بين ما أُغفل من أحداث التاريخ العظيمة، وأهوالها الفادحة. |
فهل تدبَّرنا -معشر المسلمين- هذه الحقيقة؟ وهل أعددنا لها ما يجب أن نعدَّه لأمثالها؟ |
إن الأُمم المتكالبة وجدت ميادين العمل أمامها واسعة، فلم تتلكأ في اختيار السبيل!! ووجدت الفرص لاسترقاقنا مادياً أو معنوياً سانحة بين يديها فلم تتوانَ في انتهازها، وتلك سُنَّة المجدودين، العاملين لنجاحهم فيها!! |
لعلّ هؤلاء المتكالبين والظالمين لا يستحقّون اللوم أكثر ممّا نستحقّه!! إنهم لم يكونوا أكثر من أنانيين يمشون إلى أهدافهم على أشلاء غيرهم، وليس في هذا جديد؛ فالإنسان -مع كل أسف- أناني بطبعه، انتهازي بجبلته، لا يُستثنى من ذلك إلاّ نبيٌ مُصطفى، أو تقيٌ مُجتبى.. وقد قضى عهد النبوة، وأصبحنا في زمن لا نجد الأتقياء إلاّ فيما ترويه أقاصيص الكتب. |
إذن فلا لوم في الأمر إلاّ أن نكون نحن الملومين! إننا استمرأنا حياة التأخر من أجيال طال عهدها، فترك هذا أثره في دمائنا وأفكارنا، وهيّأنا لأسوأ ما تتهيّأ له الأُمم من معاني الصَغار والهوان. |
إنه لا يزال يعيش بين ظهرانينا من بقايا عصور التأخّر مَن يظن الفرنجة خدماً يُعدون وسائل العيش في الحياة من مأكل، وملبس، ومركب.. ثم يُقدمونه إلينا لننعم بما قدّموا دون أن نتكلّف في سبيله نصباً!! |
أليس في هذا ما يشهد على مقدار ما تركه التأخر من رواسب في أفكارنا؟ |
إنه لا يزال يعيش بيننا من يقول: ((اللي يطيح من السما تستلقاه الأرض)) ومن يقول: ((إذا طاحت السما.. ما يلحقني منها إلاّ قد رأسي)). |
أليس في هذا أوضح معاني الانفرادية! وأبلغ شواهد التفكُّك؟.. لماذا يخشى وقوع السماء ما دام لا يعنيه إلاّ مقاس رأسه منها.. ولا علاقة له بالمجموع؟ ولماذا يخشى وقوعها ما دامت الأرض ستتلقاه ولا علاقة له بالأرض؟ إنها ليست في رأيه أرضاً تابعة له، وليس فيها ما يهمه من شؤونها!! |
هذه الانفرادية، وهذا التفكُّك مصدر مآسينا في الحياة.. وقد ترك رواسبه في دمائنا، وسوف لا يعوزك الدليل عليه، لأنك تستطيع أن تلمسه واضحاً في بقايا عصورنا السابقة ممن لا يزالون أحياء بين ظهرانينا! |
فأي لوم بعد هذا يستحقه الأجنبي الذي وجد سبيله مُمهَّداً على أشلاء أُمم تفكَّكت عناصرها، وذاب كيانها، وخمدت مشاعرها، وأصبح الفرد فيها لا يحسُّ بالحياة إلاّ في حدوده الضيقة، ولا يُعنى من أرضه إلاّ بقدر ما يسعه من مساحتها، ولا يمدُّ رجله إلى أكثر من فراشه، ولا تتطلَّع عيناه إلى أبعد ممّا يمتد بصره، ولا تبعد أهدافه إلى أبعد من نعيمه الذي ييسره له الفرنجي الخادم؟ |
تركنا من نسمّيهم فرنجة يخدموننا في طعامنا، فأصبحت أكثر بلادنا في الشرق الأوسط عالة على ما يطعمون، ويخدموننا في ملبسنا فأصبحت أغلبية بلادنا في الشرق الأوسط لا تملك الإبرة إلاّ إذا قدمها إليها هذا الفرنجي. |
تركنا مَن نسمّيهم فرنجة يخدموننا في كل قطعة من أثاث بيوتنا، وأوانيها وآلات دكاكيننا، ومصانعنا -إذا كانت لدينا مصانع ذات قيمة- فلا نملك لأنفسنا قطرة الحبر، أو ريشة القلم، أو قطعة الورق، أو عود الكبريت، إلاّ ما تصدَّق به علينا هؤلاء الذين سمّيناهم خدماً!!.. حتى بيوت الصناعة التي قد نجرؤ على المباهاة بها لا نملك من أدواتها ما يساعدنا على العمل فيها.. إلاّ إذا تفضل أولئك الخدم فأتحفونا به، وقبضوا أثمانه فاحشة من دمائنا. |
ما أروع هؤلاء الخدم، وما أعجب أفضالهم علينا، وما أشقانا نحن جماعة الأسياد بسيادتنا التي تتمتَّع بهذا الضعف المهين، والحاجة المريرة!! |
دعونا يا قوم نفهم الحقائق على وجوهها الصحيحة، وكفانا ما فرَّطنا في جنب الله، وحقوق بلادنا. دعونا نفهم أن موقفنا اليوم أشد حاجة إلى ما يكون من التعاون المشترك، والتعاضد المُحكَم، وجمع الصفوف على العمل المنتج الذي يُثبت وجودنا، ويُشعرنا بحقيقة موقفنا من الأُمم الطالعة، المتكالبة على تمزيقنا، وامتصاص دمائنا. |
إن ساستنا يشعرون اليوم بالأرض التي تتزلزل تحت أقدامنا، والعاديات التي تأخذ منافذ الأرض علينا.. فيتيقظون من هول الفواجع، ويُبادرون إلى أجراس الخطر.. فيهزونها في قوة المستميت. |
دعونا نستجب إلى ما يُنادون.. دعونا نطرد النوم من أجفاننا والعناكب عن عقولنا.. دعونا ندبّ على أقدامنا بأقوى ما تدبُّ الكواسر بعد طول احتباس.. دعونا نزأرْ بأصواتنا كأقوى ما تزأر الليوث: لبَّيكم قادتنا.. لبَّيكم!! |
دعونا ندرس كل مقومات التعاون بيننا لنتبادل منافعها في إخلاص وعدل.. |
في أقطارنا ما ينتج الحديد، وفيها ما ينتج المعادن النفيسة، وفيها ما ينتج الذهب الأسود والأحمر.. كما أن فيها ما ينتج الأخشاب، والمطاط والأقطان، والحرائر، والأصواف، وأكثر المواد المستقطرة، والأنواع المستحضرة، كما أن فيها من اتَّسعت ثقافته، وطالت تجاربه، وفيها مَن كثر عدده.. فإذا تبادلت شعوبنا كل هذه المقوِّمات في تدبير محكم، وإخلاص صحيح.. استطعنا أن نمهد ليقظة جديدة موحَّدة الأهداف واضحة المقاصد. |
إن جامعتنا لا يجمعها الدِّين فقط، ولا الدِّين واللُّغة.. إنما يجمعها بعد هذين ما لا يقلُّ شأناً عنهما، وهو اشتراكنا في الآلام. |
إن المظلوم يا قومي أخو المظلوم، وخدينه، وحبيبه، وليس في نظام الحياة آصرة تجمع بين الناس أشد من آصرة الألم.. فإذا أُضيف إلى هذا الألم المشترك جامع الدِّين، وجامع اللُّغة، فقد استوت لأقطارنا على تعدُّد مآربها رابطة.. فما بالنا ننسى حقائق هذه المعاني، ونسدر في غفلتنا مع الجاهلين؟ |
إن فرصتنا اليوم بعد أن تيقَّظ ساستنا لواجبهم نحونا لا تعادلها فرصة، وإن ما قاسينا من لأواء تنازعنا طوال أجيالنا المظلمة لا تُضاهيه تجربة، فدعونا ننتفع بما جرَّبنا.. ودعونا نقدر هذا الصراخ الذائب فنلمُّ شعثنا، ونمضي على صوت الصارخين. |
إن أخشى ما يخشاه خصومنا في أطراف الأرض أن نتجمع؛ لأنهم يعلمون أن ظفرهم بنا رهين شتاتنا، وأن آخر عهدنا بالهوان أمامهم يوم نقوى على الشعث وتوحيد الصفوف في نيات صادقة وضمائر نقية، واحترام متبادل!! لا يستغل فيه بعضنا البعض. |
وما أروع الحكيم الذي روى أسطورة الأثوار الثلاثة وقال فيها: إن الأسد عندما صادفهم حاول أن يفتك بهم أو ببعضهم فلم يسعفه النجاح حتى استطاع أن يُفرِّق بينهم. |
يقول الحكيم في قصتهم: إن الأسد بدأ اتصاله بالثور الأسود والأحمر وقال إن لونكما لا يبعد كثيراً عن لوني، ولهذا فإني لا أخشى أن يعرف الصياد جنتنا لولا زميلكما الأبيض الذي يفضحنا بلونه، فلو سمحتم لي بالقضاء عليه لأمنت وإياكم غائلة العدوان!! |
فلما اقتنع الثوران برأي الأسد سمحا له أن يفتك بزميلهما.. فكانت الضربة الأولى نحو كيان الأثوار في الأجمة، وجاءت الضربة الثانية عندما مال الأسد على الثور الأسود وحده، وأقنعه بأنه لا يزال يخشى الصيادين لأن لون زميله الأحمر فاضح، يلفت أنظارهم. فقنع الثور بما ذكر الأسد، وأباح له أن يفتك بزميله ليعيش بعد ذلك مع الأسد آمناً. |
وما قضى الأسد على الثور الثاني حتى أيقن أن الثور الثالث قد بات رهين رحمته، وأنه لا يقوى بعد زملائه على مقاومته، فالتفت إليه يستأذنه في قتله فقال الثور: أجل. وثق أنني لم أُقتل اليوم فقط، بل قُتلت يوم قُتِل الثور الأبيض!! |
إنها أسطورة تحمل كل معاني الجد الصائبة، وإنها قصة تمثل أدق ما يمثِّله الواقع. فهل نتنازع بعد اليوم يا قومنا؟ وهل نبيح للمغتالين أن يغتالوا ضحاياهم منا على مرأى ومسمع من أبصارنا؟ |
أم نحن منذ اليوم جادون؟ لا نبيح للعبث أن يتخلَّل صفوفنا، وللانقسام أن يتطرَّق إلى جماعتنا؟ |
دعونا نؤكِّد هذا بشواهده الواضحة.. |
وأخيراً.. |
دعونا.. نمشِ!! |
|