شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فلا نفرض ما لا يُساير طبائع البشر
لا نُسمى نظاميين ونحن نقرر مقدراتنا في دساتير مفصَّلة إلاّ إذا احترمنا ما قرَّرنا، وقدَّرنا قيمة ما نظَّمنا.. في نفوس عالية تفهم الواجب، وتعرف قيمته بين الفروض!!
يذكرون عن بعض البلاد المتمدنة أن صاحب السيارة قد يخطئ في غياب الجندي المكلّف بالمرور، وقد يصدم مصباحاً في الشارع، أو يُخالف أنظمة المرور بأي شكل من الأشكال، فيأبى إلاّ أن يترك عنوانه للجندي ليستوفي رجال النظام منه جزاء ما أخطأ حسب ما قرَّره النظام.
ويذكرون أن أحد كبار الدولة في أُمة من الأُمم الراقية عندما أعلمه جندي المرور أن سرعة سيارته في الشارع تخطت الرقم المقرر، وأن عليه أن يصحبه في سيارته إلى أقرب مركز للبوليس أجاب طلب الجندي في احترام، ومضى في صحبته إلى مركز البوليس، فلمّا عرفه الضابط الموكَّل بالمركز استحيى من مقامه المرموق في الأُمة، وأراد أن يستسمحه، فقال الكبير: ((إن خضوعي لأنظمة بلادي أمر لازم، ولا يجوز أن تستسمحني فيه.. فتفضل بالجلوس إلى مكتبك مشكوراً، وامضِ في تنفيذ ما أنت مأمور به للنظام)).
بمثل هذه الروح النظامية يتعامل المهذَّبون في كل أقطار الأرض الراقية، وبمثل هذا الأسلوب يتأدَّب أهل المراكز الرفيعة في بلاد المتمدِّنين.
ولكننا لا يجب أن نغفل أن أنظمتهم نفسها تُعاون على يسر تنفيذها، وتُساعد على سهولة تطبيقها.. ذلك لأنها لم تشرَّع إلاّ بعد أن درستها مئات الأفكار، وعرَّضتها لمئات التجارب، فاستصفت من قواعدها ما يثبت أمام الامتحان، واستبعدت منها ما لا يساير طبائع البشر، ولا يُطابق استعدادهم.
وكثيراً ما يُراعي المشرّعون ألاّ يتيحوا للنظام أن يستهين بكرامة المخالفين، أو يُذل عزَّتهم.. فيستثيرون عنادهم بما يشرِّعون، ويعلِّمونهم عصيانه.. بل يحاولون تيسيره ما استطاعوا، ليساعدوا على احترامه، ويُعينوا على طاعة بنوده كما فعل القرآن في عهد نزوله.
وأكثر هذه الأنظمة الراقية لا تشتط فيما تجازي، ولا تُبالغ فيما تُعاقب.. بل يكفيها ردع المخالفين في أساليب تُغريهم بمسايرتها والتحمس لتطبيقها.. فإذا استطاع الشرقيُّون أن يُهيِّئوا لهم نظماً تستوعب مناحي حياتهم في جميع ألوانها، وأن يدرسوا بنود هذه النظم دراسة راقية على أحدث ما أنتجته علوم النفس، وإذا استطاعوا أن يستوحوا فيما ينظِّمون جميع الملابسات الشخصية، والظروف الطبيعية.. لتنتهي نظمهم إلى مستوى لا يتنافى مع تجارب الأمة، ومرانها الطويل، وإذا استطاعوا أن يتوخُّوا فيما يُنظِّمون حقائق العدل الصحيحة، ومعاني الرأفة والرحمة.. فإنهم يهيئون بذلك لاحترام النظم، ويعلمون الناس في بلادهم كيف يقدِّسونها، ويبجِّلون بنودها.
ويكمل تقديس الأنظمة كل الكمال عندما نُعنى في بيوتنا ومدارسنا بصقل أرواحنا، وتهذيبها تهذيباً عالياً يُميِّز الحقائق، ويعطيها قدرها ويسمو بنا عن التدني إلى منازل الأجلاف الذين يتنكرون للواجبات، ولا يمنحونها حقوقها عندهم، ويزوغون أمام الحقائق كما تزوغ الثعالب في مواطن الجد.
ويذكرني تقديس الواجب في هذا السياق بما ينقله السائحون عن بعض البلاد الراقية.. فهم يذكرون أن منها من استطاع أن يستغني عن موزِّعي الصحف، وباعة الكتب، (وكمسارية) التذاكر.. لأنهم قنعوا بترفُّع جمهورهم الراقي عن الاختلاس، وجربوا عنايته بالأخلاق العالية، وحفاوته بالواجبات المفروضة.. فاتكلوا على ما تخلَّق، وعرضوا بضائعهم عليه دون أن يراقبها موظف.. تركوا له صندوق الحسابات يقذف بالنقود من فجوته، وأطلقوا يده في البضاعة يأخذ حقوقه منها دون أن يستغل أو يبيح لنفسه الاختلاس أو السرقة.
ويذكرون أن تجارب هؤلاء الباعة طمأنهم على حقوقهم.. فهم يحصون حصَّالتهم في كل مساء، ويقابلونها بقيمة ما عرضوا من البضائع فلا يجدون فرقاً يدل على السرقة أو الاختلاس.
لا أدري أية نقاوة بلغت بهذه الضمائر التي باتت تحسب نفسها في هذه الدِّقة التي لا تبلغ إليها دقة المراقبين مهما برعوا في مراقبتهم.
إننا في بلاد الشرق لا نستطيع أن نحلم بمثل هذه النتائج رغم يقظتنا في تجنيد المفتشين، والمراقبين، والمدقِّقين والمتجسِّسين فكيف ظفر بها أناس ألغوا الرقابة والحراسة؟
أتكون عِلَّتنا فيما نُجنِّد من حراس، ومراقبين، ومفتِّشين؟ فنكون بذلك قد تداوينا بالتي هي الداء، أم أننا بلغنا من براعة الحياة حداً لا يُدانى؟
الواقع أنهم عنوا بإحياء الضمائر في بلادهم، فنشأ ناشئهم وهو يحسُّ بأن كرامته أرفع من أن تتدنّى إلى الحيل والغش، وعنوا ببثِّ الثقة في النفوس فجبل الرجل على فضائل لا يُهاود فيها، ويسمو بأخلاقه أن يراقبه عليها غير ضميره النقي الصافي.
دعك من ضمير السياسة التي نشاهد ختلها، ونسمع من أحاديث زيفها ما لا يتفق مع سمو التربية.. دعك من هذا فإن للسياسيين في غالبية تلك الأُمم فلسفة لها لونها الخاص.. إنهم يؤمنون بمنفعة بلادهم إيماناً يجرئهم على الكفر بأكثر المبادئ الإنسانية العالية.. وهم في سبيل مصالحها لا يتورعون عن نسيان معاني الأخلاق.
وإني لا أذهب كثيراً مذهب من يلحاهم على ما يفعلون.. لأن الخطأ في رأيي في مثل هذه المواطن هو خطأ الضعيف الذي أغراهم بنفسه كما تُغرى بغاث الطير بأكلها.. ولو تنسَّرت تنسر البواشق والصقور لفرضت احترامها على الصائدين.
لا نريد أن نحفل كثيراً بأخلاق النفعيين من ساسة الأمم في أوروبا.. فقد أُعدّوا في بلادهم ليكونوا جزارين، والجزار في كل بيئة لا ينسى وظائفه الطبيعية مهما سمت به بيئته، ومعتنقو مذهب حرق الجثث لا تدمع أعينهم مهما تهذَّبت طباعهم أو رقّت أحاسيسهم!!
أقول إننا لا نريد أن نحفل كثيراً في بحثنا هذا إلاّ بالأوساط الشعبية التي تهذَّبت ضمائرها، وسمت بها أخلاقها حتى استطاعت أن تجرِّد من نفوسها رقيباً عليها، واستكبرت أن تُساق بالعصا، وتُحاسب عن طريق الأوامر والنواهي.
إننا في الشرق من أحوج الناس إلى التربية الصحيحة التي تسمو بنفوسنا إلى أرفع مستوى، وتُحيي ضمائرنا حياة نحسُّ فيها بأدق معاني المروءة والشرف.
وإننا -جماعة المسلمين في كل بلد من هذا الشرق الواسع- مسؤولون أمام مبادئ سيد المرسلين بأشد ما يُسأل المكلَّف.. فقد بُعث فينا ليتمم مكارم الأخلاق، وبُعث فينا لنكون خير أُمة أُخرجت للناس، وبُعث فينا لتكون لنا بعد الله ورسوله العزة في الأرض.
وقد ترك لنا من أخبار سيرته، وقصص شمائله ما لو استقصيناه لاستطعنا أن نُباهي به أمام أرفع الأخلاق في أرقى البلاد، وأفضل الشمائل في أسمى الأُمم.
ما بالنا نسينا تراثه الممتاز، ومبادئه التي لا يسمو إليها متمدِّن مهما بلغ شأوه في التربية، واستأنفنا النكوص على أعقابنا، حتى هوينا إلى دركات لا تليق بنسبتنا إلى ذلك المشرّع العظيم، ولا تتفق مع العزة والسمو الذي أرادنا له؟
إنها بلا ريب غلطة الأجيال التي ساد ظلامها أرجاء الشرق بعد أن فقدنا نبيَّنا صلوات الله عليه ورجال صحابته من الصفوة المختارة.
وإنه إهمال الغافلين الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فهل استيقظنا اليوم لنعرف الله كما يجب أن نعرفه، ونفهم أنفسنا كما يجب أن نفهمها؟
لا شك أن تباشير الصباح قد لمع وميضها، وأننا منذ الليلة على الطريق.. فحثّوا ركابكم أيّها القوم.
ودعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :403  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .