شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فلا نرتجل أفكارنا كما يتفق
دعونا نمشِ في نظام مقدَّر.. بُحثت مقدماته، ودُرست أبوابه، وعُرفت نتائجه في حدود مُحكَمة، وتفصيل دقيق.
إن صانع السيارة لم يكتفِ بما أدرك في حركة دواليبها.. فاندفع يدلج بها في الأرض دون أن يدرس ما يترتب على اندفاعها من أخطار. بل ألزم نفسه البحث في كل التفاصيل المحتملة ليضمن لها الأمان، ويحدِّد خطاها في ترتيب دقيق وصمامات مُحكَمة.
وعندما اتّسعت فكرتها لديه.. اتَّسع في دراستها.. فجعل لها حركة تضغطها في تؤدة، وأخرى تدفعها في خِفّة، وغيرها لغير ذلك ممّا تستدعيه المفاجآت، وتستلزمه المناسبات.
هذا النظام المقدَّر وليد الدراسات الدقيقة، استطاع أن يمنح أداتنا هذه الخطيرة -التي نُسمّيها السيارة- ميزة لا تُقاس بها ميزة، وأعطاها من الأهمية في حياتنا ما لا تُعادل به أهمية أخرى.. ولم يتيسر له كل ذلك لو لم يُعنَ بدراسة الفكرة في نظام ودقة، ويبحث في تفاصيلها كل احتمال مفاجئ.
هذا مثل بسيط اخترناه لما نحن بصدده، لاحتكاكه بحياتنا اليومية، ويمكنك إذا شئت أن تقيس عليه كل أداة لها قيمتها.. من الطائرة في الجو، والباخرة في البحر، إلى مصباح الكهرباء في البيت، وآلة الصناعة في المعمل!!
كل هذه الأدوات نُظِّم ترتيبها، ودُقِّقت تفاصيلها، وأُحكِمت صماماتها ليستفيد الإنسان بمنافعها دون أن يتعرض لما تنطوي عليه من أخطار هائلة.
كذلك شأن الحياة في الأرض. جميع مآتينا مُعرَّضة لألوان من الكوارث لا آخر لنهايتها إذا لم تنظم في نسق دقيق. تُدرس حقائقه في إمعان وتُرتَّب نتائجه في إحكام.
حتى إشباع جوعتك ممّا يغذي جسمك لا يمكن أن تُسمّيه غذاء إلاّ إذا نسَّقته في أداء منظَّم.. وإلاّ فهو الخطر المحقَّق؛ وحتى ممارسة أهوائك مهما كانت بريئة لا يمكن أن تتمتع ببراءتها إلاّ إذا نُظِّمت في ترتيب محكم وإلاّ فهي الوبال كل الوبال.
وإذا انتقلت من هذه الآماد المحدودة في حياتك إلى آفاقٍ أوسع وجدت أن الحياة في مختلف أطوارها ومتعدّد أجوائها لا تعدو هذه القاعدة بحال.. فيقدر ما تُعنى بتنظيم أمورك فيها وتنسيق أطرافها في ترتيب مُحكَم تظفر بأحلى أمانيك، وبقدر ما تُسلِّمها إلى الفوضى وتترك نفسك تمضي في خطاها سبهللا لا يحدُّها ترتيب ولا يسدِّدها إحكام، بقدر ما تتعرّض لأوخم النتائج.
كدت أن أضرب مثلاً في هذا بشخصية كبيرة معروفة بين رجالاتنا بالتزام الدقة في جميع مقدراتها، وهي شخصية لا أُريد أن أُسمّيها لأنني لا أخدم الأشخاص فيما أبحث بقدر ما أخدم البحث للبحث نفسه، وأكبر ظني بعد هذا أو قبله أنه ليس في بلادنا مَن يجهل هذه الشخصية الفذّة، فقد ألزم صاحبها نفسه قاعدة التنظيم المنسَّق.. فهو لا يضع قدمه في خطوة حتى يتدبَّر شأنها، ويدرس تفصيلاتها، ويُرتَّب لكل تفصيل فيها باباً ولكل باب فيها درساً.
امتحنته الأيام بأقسى ما يُمتحن به عظيم.. ولكن كان يأبى إلاّ أن يكون الظافر في كل امتحان.. ذلك لأنه ما استعجل الأشياء قط، ولا أباحها الفرصة لتمضي في جداولها سبهللا كما اتفق.. بل كان يُحسن تقدير ما يُواجه ويعرف كيف يدرس تفصيلاته، ويرتب أبوابه، ويُنظم لكل باب فكرة.. في تنسيق محكم دقيق.
اصطنع هذا في خصوصيات بيته، وعموميات مركزه الاجتماعي والرسمي.. فعاش حياته ظافراً بأرقى ما يُواتي الظفر، ناجحاً بأسعد ما يهب النجاح.
دعونا نقارن هذا بآلاف غيره من الفوضويين الذين لا يدينون بنظام، ولا يخضعون لترتيب ولا يعنون في حياتهم إلاّ بما يتفق دون أن يدرسوا ما يخطون، أو يتدبَّروا ما يفعلون في رويَّة وإحكام.
إن مثل هذه المقارنة ترسم لنا الفرق الواضح بين حياة هانئة سعيدة، وأخرى مرتبكة تتقاذفها الأنواء وتعصف بها الأعاصير.
وحياة الأُمم في جميع أدوار التاريخ لا تختلف عن حياة الأفراد في هذا الصدد فهي ظافرة سعيدة هانئة ما تدبَّرت شؤونها، ودرست مقدراتها، خطوة فخطوة، ونسَّقت أعمالها في أنظمة مُحكمة، وترتيبات عُنيت ببحثها ودققت دراستها، وصاغتها في أساليب محبوكة لا ينالها النشاز، ولا يعبث بها الارتباك.
وهي إلى جانب هذا مضطربة ما استعصت على النظام، وتركت أموره فوضى لا تُقيِّدها خطط مدروسة، ولا ترتيبات مرسومة.
لا نريد أن نقول إن الأمم المنظَّمة لا يشوبها زلل قط.. لكن مثل هذا الزلل قد لا يُسيئها ما تُسيئها الفوضى، وعصيان النظام.. وأكبر ظني أن مثل هذا الزلل قد لا يصادفها إلاّ مُنظَّماً قابلاً للدراسة والعلاج.
فدعونا نُنظم أمورنا ككل أُمة لا تجهل واجبها، وتعرف ما عليها من تبعات لتحيا محترمة بين أمثالها.
دعونا نُنظم شؤوننا في التجارة فلا يضطرب استيرادنا أو تصديرنا.. نستوحي أسواقنا، ونعرف حاجتها إلى كل لون وصنف.. فلا نغمرها بالفائض المتزاحم، ولا نعجز دون كفايتها فنحرمها ضرورياتها اللازمة.
دعونا ننظم صناعتنا فلا نبيح لها أن تُهاجم في عقر دارها، وأن تُزاحمها واردات الأجنبي بدون قيد فتشل حركتها، وتُعطل نموها.. لا بد لها من تنظيم يحميها، ويشجع خطاها في حدود مرسومة، وكادر مبوب!!
دعونا نُنظِّم شركاتنا فنُوزِّع خطواتها في ترتيب مُحكَم، ونضبط قيودها وسجلاتها على أصول دقيقة لا يشوبها تشويش.. ليأمن المساهمون عواقب الفشل، ويطمئنوا إلى حقوقهم فيها.
دعونا نُنظِّم أمورنا في البيت، والمدرسة، والشارع، والدكان.. لنألَف النظام في جميع ما نتناول من أعمال، ونعرف كيف نُرتب أوقاتنا في دقة وإحكام في أفكارنا فلا نرتجلها كما يتفق، ولا نرسم تصميماً حتى نشبعه فحصاً، ونوسعه بحثاً ودراسة.
يظن بعض الجاحدين أنه ليس في طبيعة الشرقيين ما يساعد على تقدُّمهم في مجالات الحياة، وليس في مثل هذا الهراء ما يستحق التفنيد والرد؛ فللشرق مزاياه المكتسبة من بيئته وطبيعة أرضه، وللغربي مثلها.. وعند كل من الفريقين الاستعداد لما يؤهله للحياة الصحيحة إذا عقد العزم عليها.
إذا كان الغربيون قد عُنوا قبلنا بتنظيم مقدراتهم في أوضاع محكمة فلا يكلفنا أن نحذو حذوهم إلاّ أن نُعنى بتنشئة أجيالنا الجديدة على نسق يحبب إليهم النظام في مختلف أنواعه، ويعلّمهم كيف يبحثون أوضاعهم، ويدرسون تفاصيلها، ويحكمون ترتيبها في روية ودقة لا يشوبها ارتجال.
إننا بذلك نستطيع أن نثبت أن أهليَّتنا للنجاح في الحياة لا تقل بحال عن أهليَّة كل متمدن في الأرض.
فدعونا.. نمشِ..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :453  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.