شجاعة هيّأها التقدير السخي |
علينا كمجتمع بدأ يشعر بكيانه في الحياة أن نعرف واجباتنا نحو نشئنا الجديد، فإذا تمنينا عليه أن يُجاري لداته من شباب الأمم الناهضة. فعلينا أن نعرف نوع الالتزامات التي تفرضها تلك الأمم على مجتمعاتها لتدعم بها شبابها، وألوان التشجيع الذي تُشحِذ به عزائمه. |
هناك بيوت تجارية ترصد في موازناتها أرقاماً عالية لتشجيع العاملين في حقول تُعينها، وشركات قوية تأخذ على عاتقها مساعدة مَن خاض ميادينها، وتكلف صندوقها بما يتطلبه ذلك من نفقات.. وهناك من كبار الأغنياء مَن يُعلن وقف جزء من أمواله على فكرة يدعو إلى المسابقة فيها. فلا عجب إذا تدافع الشباب في الميادين النافعة وتسابقوا!! |
فكَّر عامل في أحد مصانع الأقفال بفرنسا في طريقة تحبس المفتاح في قفله فلا يخرج إلاّ بعد أن يقفله.. فعرض الأمر على وكيل الشركة، ومنحه إجازة لمدة أسبوع كامل يبحث فيه الفكرة في داره أو في ورشة الشركة، ووعده إذا نجح بمكافأة تُقدَّر بنصف أرباح الصنف لعام كامل!! وقد نجح العامل، وقرَّر مجلس إدارة الشركة منحه المكافأة التي وعده بها وكيل الشركة.. فلما تسلَّمها استطاع أن يؤسس بها محلاً صغيراً للأقفال وهو اليوم يربح من بضاعته أضعاف مرتبه الذي كان يتقاضاه من الشركة. |
وتقدَّم شاب إلى بعض المؤسسات الزراعية باقتراح يطلب فيه انتدابه إلى أمريكا الجنوبية لدراسة بعض أعمال التلقيح. فأصدرت المؤسسة موافقتها على انتدابه وظلَّت تُنفق عليه عن سِعة نحو سنتين، وتكفَّلت بمن يعوله من أهله. ولما عاد ممّا انتُدِب له كان قد أعدَّ مذكرات مطوّلة عن مشاهداته في الجهة النائية التي سافر إليها.. واشترت الشركة منه مذكراته بثمن غالٍ!! أغراه على استئناف رحلته، وبيع ما يُسجله عنها للمؤسسات الزراعية التي تهتم بأبحاثه بأثمان مرتفعة جعلته في عداد الأغنياء!! بعد أن كان لا يملك ثمن تذكرة الطائرة التي نقلته في رحلته الأولى. |
وتكفَّلت كثير من المؤسسات الغنية بكثير من الروّاد الذين غامروا في أعماق إفريقيا وعلى شواطئها البعيدة وفي صقيع سيبريا، ورمال بلاد العرب الملتهبة، ومجاهل أستراليا، فقضوا السنوات يُجالدون الأهوال، ويُعانون من قسوة الحياة، وقلة الماء، ومهاجمة الوحوش ما يعانون في سبيل اكتشافاتهم! أو دراساتهم ما عنوا بدراسته من طبائع الأرض، والحيوان، والجبال، ومواطن المعادن والزيوت والثروة المائية التي تخفيها الأعماق. |
ساعد المتموّلون على كل هذه المعاناة ببذلهم السخي، وأموالهم التي كانوا ينثرونها من غير حساب تشجيعاً للأيدي العاملة، والشباب المغامر، وأصحاب الأفكار الجريئة. |
وما كان السخاء للسخاء وحده بقدر ما كان وسيلة إلى العمل المنتج الذي يعوّض أضعاف الأموال المبذولة ويعود على المشجِّعين بالأرباح الجزيلة الوافرة. |
وإذا أردنا أن نُنصف المشجِّعين.. فعلينا ألاّ ننسى أن أعمالهم في التشجيع لا تقتصر على ما يُدُّر عليهم من الأرباح فقط. بل إن كثيراً منها كان يخدم العلم للعلم نفسه.. فهنالك حفريات أثرية، وجهود أدبية بحتة، وأعمال إنسانية صرفة، تجد مَن يشجع على خدمتها بلا مقابل يعوِّض خسارتها.. ومن هذا القبيل جائزة نوبل التي أوصى بها نوبل قبل وفاته لتقدَّم إلى أقدر رجل أنتج في عامه إنتاجاً مُبرِزاً له شروطه الخاصة.. وهو لون من التشجيع له نظائر كثيرة في العالم. ولا غرض له إلاّ خدمة تهيأت للعمل المجدي النافع. |
حدثني رجل من السودان قال: ((كنت أعمل سنين طويلة كرئيس للخدم في بيت أحد الإنجليز في أسمرة، وكنت أُلاحظ أنه يُنفق عن سِعة، ولا يعرف قيمة للمال الذي يُنفقه.. فكان يتبادر إلى ذهني أنه من ورثة أحد اللوردات الأغنياء، وأن ميراثه الضخم يُغدق عليه هذا النعيم، حتى علمت من طريق الصدفة أنه نشأ أول ما نشأ فقيراً لا يملك ما يقيم أوده، وقد أُغرم بالتنقلات في الصحارى، فشد رِحاله إلى الشرق، وساح في بعض أطرافه. ثم كتب إلى بعض الجرائد في بلاده يصف مشاهداته فرحبت بما كتب، وأرسلت إليه بعض المال الذي يساعده في مشاهداته. |
ثم تسامعت به بعض المؤسسات العلمية فكلّفته بالسفر إلى الصحراء الغربية الكبرى ليدرس في آفاقها ما عنَّ له دراسته فلم يتقاعس لحظة، وشدَّ رِحاله إلى حيث كُلِّف.. وخاطر باجتيازها منفرداً لا يصحبه إلاّ سلاحه الخفيف، وصندوق جمع إليه ما استطاع من الزاد. وراحلة اشتراها واستأجر بائعها ليساعده على الرحلة المحفوفة بالأخطار. |
وما إن انتهت تقاريره الأولى إلى المؤسسة التي انتدبته حتى وافاه تفويض إلى أحد البنوك يُخوِّله سحب المبالغ التي تلزم لنفقاته دون تحديد. فنشطت عزيمته، وواصل خطواته، وأنفق عن سِعة على حركاته. ومع هذا فقد أبى أن يكلّف التفويض المفتوح له إلاّ ما اقتضته ضرورة العمل؟ ممّا جعل المؤسسة ترضى عن تصرفاته، وتبذل له المكافآت السخية!! |
وتسامعت مؤسسات غيرها بخبرته في أمريكا، وبعض بلاد أوروبا فانهالت عليه التكاليف في شروط سخية، وبذْل فائض شجَّعه على مواصلة الحركة.. فهو اليوم لا يُقيم في أسمرة إلاّ ليُعِدَّ نفسه لرحلة جديدة في بلاد العرب. أو في إفريقيا، أو يعبر المحيط الهندي إلى أقاصي الشرق.. ليجوس خلال الآفاق المترامية!! في رحلة تطول أكثر من عام، ولا تقل بحال عن ثلاثة أشهر. |
وأقسم أني ما رأيت في حياتي جلداً يُكابد الأهوال التي يُكابدها هذا الأبيض. فهو يشارك البدو طعامهم الجاف، ويصبر على مثل ما يصبرون عليه من مواصلة المشي في مفاوز مُعطِشة، ثم هو لا يُبالي بالقيظ مهما قسا لهيبه، ولا بالبرد مهما اشتد أواره.. وتراه عندما تضجُّ إحدى المفازات بأصوات الحيوان المفترس يخفُّ في نشاط إلى مسدسه، ثم يتعقَّب الأصوات حتى يسقط على مصادرها. ولا يعود إلى خيمته إلاّ بعد أن يصيح برفاقه من البدو المختبئين أن يساعدوه على نقل ما صاده من الحيوان. |
قلت إنها شجاعة هيَّأها التقدير السخي الذي يبذله مواطنوه. |
فقال ولهذا فقد أثرى ثراءً فاحشاً منقطع النظير. وهو اليوم يملك في بلاده مصانع للفضة تُدُّر عليه أرباحاً طائلة.. ولكنه يأبى أن يستخذي لهذا الغنى!! ولا تزال إلى اليوم تراه بعد أن اكتهل يواصل أسفاره في عزم الشباب إلى آفاق متفرِّقة من الشرق لا ندري حقيقة أغراضه منها!!! |
قلت إنهم رجال فهموا من حقائق الحياة ما لم نعرف من أبجدياتها إلى اليوم. |
والواقع أننا في حاجة إلى مَن يفتح عيوننا على هذه الأسرار، ويدفع شبابنا إلى العمل الدائم، ويُعلِّم أغنياءنا وأصحاب الأعمال الكبيرة فينا كيف يستغلّون نشاط الأقوياء منا، ويغرونهم بالتشجيع الذي يحملهم على مزاولة الصعاب، ويدفعهم إلى اقتحامها. |
دعونا نُنظِّم في خطوتنا الأولى فرقاً للكشافة من فتياننا ترود جبالنا، ومسالك ودياننا، وتتعرض فيها للحر والقر، ومجالدة الصعاب لتألف الحياة الخشنة، وتنشأ على حب المخاطرة. |
إن في هذا ما يعدهم في المستقبل للمغامرة في جميع ميادين الحياة، ويؤهلهم للعمل الدائب في مختلف شؤونها.. وإذا استطعنا أن نُغري بعضهم بالتنقل بين أمصار العالم المتمدِّن ليتصلوا هناك بألوان الحياة المختلفة ويختلطوا بالعاملين في شتّى حقولهم، واستطعنا أن نزوِّدهم بما يشجعهم على طول الاغتراب فإننا سنربح -غير الجامعيين من رجال العلم- شباباً له لونه الخاص، وملِكاته الخاصة في حقول عملية جديدة.. فاحزموا أمركم أيّها الأغنياء.. |
ودعونا.. نمشِ!! |
|