شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إلاّ أن يغامروا في آفاق الأرض
لنمشِ في نشاط ومغامرة.. فقد دلّلت الأمم المغامرة على أنها حَرِية بالوقوف أمام الشمس، وأنها جديرة بالحياة الممتازة التي تحياها.
إن فتانا ولده أبواه في بيت العائلة فنشأ فيه، وألفه، وألف الزقاق والحارة، وربما ألف الحضرمي بائع الفول عند رأس الزقاق، والقهوة التي يجلس إليها أقرباؤه في الحارة.. فإذا صادفته مناسبة طلب إليه فيها أن يغادر بيته إلى مقر وظيفته في القرية النائية أو المدينة البعيدة عجز عن التلبية. لأنه ألِف بيته، وألِف أبويه، وألِف الزقاق والحارة اللَّتيْن تربّى فيهما، وربما أضاع عجزه عليه فرصة لا يستطيع أن يعوِّضها.
فيمَ كل ذلك؟
لأننا لم نألف المغامرة، ولم نتعوّدها، ولأن المربِّين في البيت والمدرسة عندنا لم يبثّوا إلى اليوم في أرواحنا حب المغامرة وروح الفداء.
أمّا الأمم المتمدنة فقد درج أبناؤها على المغامرة والجرأة، والتلذُّذ بشظف العيش في الاغتراب.
ويكمل الفتى عندنا دراسته فيتعيّن انتدابه إلى خارج القطر ليلتحق بالكلية التي تعين التحاقه بها.. فيشعر بالوطأة القاسية، ويعاني أبواه من بعده آلاماً لا يصبر عليها إلاّ جلد.
ففيم كل هذا؟؟
لا شيء إلاّ أننا تعوَّدنا الركون إلى أمهاتنا في البيت، ومغانينا في (البرحة)، ولم نتربّ على حب المخاطرة، واقتحام الصعاب.
قلت لوالدة فارقها ابنها في رحلة لإتمام التعليم.. وقد شكت إليَّ آلامها من البُعد! قلت لها: ألا تعلمين أن عبد الله بن الزبير دخل على أمه يستأذنها في أن يجول جولته الأخيرة في الحرب، وألاّ يعود إليها من غد إلاّ مقتولاً فأذنت له وشجعته؟
قالت: أشجَّعته ليُحارب حتى يُقتل؟
قلت: نعم.. إنها شجَّعتْه ليحارب حتى يُقتل!!
قالت: إنها مجنونة!!
قلت: إنها الحياة قد فرغت عندما تسمّين ذات النطاقين مجنونة.. ولكنها لم تفهم!!
فقلت: وهل تعلمين أن عبد الله بن الزبير قال لأمه وهو يودعها الوداع الأخير: إنني أخاف يا أماه أن يُمثّلوا بي بعد أن يقتلوني. فقالت له: إن الشاة لا تبالي بسلخها إذا ذبحت، فامضِ إلى طلبك لتعيش إن عشت كريماً، أو تموت إن مت كريماً.
قلت لها هذا فقالت: إنها مجنونة، وإنك مجنون عندما تصدّق هذا!!
وهكذا هزلت الحياة حتى بتنا نُسمّي الباسلات المخاطرات مجنونات!
ذلك لأن البسالة التي من هذا النوع لم نتمرَّن عليها، ولم تتعوّد قلوبنا هذا الضرب من الفدائية الهائلة.. فإلى أن تمتحننا الحياة بهذا فإننا سنظل رهائن لطراوتنا. وعندما يحلُّ اليوم الذي نُصدِق العزم فيه على الوثوب ومجاراة غيرنا من الناهضين -وهو قريب إن شاء الله- فإننا سنجد أنفسنا أمام أمور واقعة تُهيِّئنا للشجاعة، وتُرغِمنا على أخطر المغامرات.
ما رُسمت الأمريكتان على خارطة الدنيا إلاّ نتيجة لمغامرة طائفة من الناس محدودة العدد.. خاطروا بأرواحهم، وأبوا إلاّ أن يجوسوا غمار المحيطات التي لم يجرؤ عليها قبلهم بشر.. وعندما صادفتهم أهوال لا تحتملها طاقة إنسان في الحياة أبوا أن يعودوا حتى يُكلِّل الظفر هاماتهم، أو تبتلع الأمواج أجسادهم لقمة سائغة!!
ولقد كلَّل الظفر هاماتهم.. فاستطاعوا أن يُضيفوا إلى مجموعة الأمم على وجه الأرض شعباً له قيمته التي تُميّزه اليوم على جميع شعوب الأرض قاطبة ثراء وقوة ونفوذاً منقطع النظير!!
فلو تقاعس الروّاد الأولون وخافوا الاغتراب الذي نخافه، ولم يجسروا على المغامرة التي خاطروا بها.. لما عرف العالم اليوم شيئاً عن الأمريكتين العظيمتين.
وحديث المغامرين بعد هؤلاء الروّاد وقبلهم أطول من أن نستقصي أخبارهم فيه، وجميعها أخبار تدل على بطولة الفدائيين الأفذاذ، ومقدار جَلَدهم على تحمل المصاعب القاسية في سبيل آمالهم البعيدة ومراميهم!!
هذه أخبار الرحّالين العرب يكتظ بها تاريخ الإسلام المجيد.. تكلَّفوا من المشاق ما ينوء به أشد الرجال شكيمة وأوفرهم بأساً.. كانت أقطار الأرض غير مدروسة بالشكل الواضح أمامنا اليوم وكانت مواصلاتهم لا تعرف الطيارة التي تُسابق النسور، والسيارة التي تنهب المسافات، والبواخر التي تجوب المحيطات.. ومع هذا فقد أبت عليهم مغامراتهم إلاّ أن يضربوا في أبعاد الأرض، ولا يستثنون منها معلوماً، أو مجهولاً، ولا يقف دونهم عواقب مهما جلّ هولها واشتدت صعوبتها.
وتبدو فدائيتهم بارزة إذا علمنا أن أقطار الأرض لم تكن كشأنها اليوم تشيع فيها لغة عالمية أو ما يشبه العالمية، فالرحّالة اليوم يستطيع أن يستخدم لغة واحدة أو لغتين من لغات العالم المشهورة في أكثر الأقطار التي يزورها، أما رحالة الأمس فلا يملك مثل هذه اللغة ليستخدمها فيما يطوف به فقد تباعدت اللغات حتى انفرد كل مصر بما يتكلم.
ولقد أبعد الرحالون فيما طافوا. فتغيَّبوا السنوات الطوال، حتى أن بعضهم غادر موطنه في سن الفتوَّة ولم يعد إليه إلاّ هرِماً يجرُّ خلفه من أولاده فتياناً وفتيات!!
قطعوا المسافات الشاسعة إلى آخر حدود الصين، وأواسط بلاد التبت، ومخروا البحار في سفن شراعية مهلهلة الأوصال حتى انتهوا إلى أكثر جزر اليابان والفلبين بعد جاوة وسومطرة.. وقيل إن بعضهم انتهى إلى أول شاطئ تتصل به أمريكا اليوم.
وتوغَّلوا في إفريقيا.. شواطئها وصحاريها وغاباتها المخيفة وبحيراتها المهولة، ومضوا في جميع القارات حتى عرفوا كثيراً ممّا كان مجهولاً يومها من بلاد أوروبا.
ولم تكن عِدَّتهم في هذا إلاّ بغالاً أو جمالاً تحمل أثقالهم إلى حيث تستطيع فإذا بدا لهم من ضعفها ما يخشون واصلوا سيرهم على الأقدام فصعَّدوا في الجبال الشاهقة، وخوَّضوا في المهاد المخيفة.
وقد قابل أكثرهم في رحلاتهم، قبائل لم تستأنس بعد.. منهم آكلو لحوم البشر، ومنهم قطَّاع الطرق والقراصنة، فلم تمنعهم هذه الأخطار عن مواصلة سيرهم.
ولقد تعرَّض بعضهم لشكوك المستبدّين وريبتهم، كما تعرَّض بعضهم للسجون والجلد، وكما تعرَّض بعضهم للقتل والاغتيال، فلم تحل كل هذه دون بغيتهم، ولم تُقْلِلْ من نشاطهم أو عزيمتهم.
وبذلك أسدوا إلينا معارف لا تقاس بها معارف، فقد كانت نواة طيبة لكل ما نعرفه اليوم من علوم الجغرافيا، وكانت باباً دخلت منه أوروبا إلى كثير ممّا وعته مجلداتهم عن أمم الأرض وتواريخها.
فلو جُبِل هؤلاء على ما جُبِلنا عليه من الطراوة، واستسلمنا له من حب القرار، وتحاشي الصعاب، لظلوا في بيوتهم لم يغادروها، ولما أنتجوا لتاريخ البشرية ما أنتجوه من معلومات.
وانتقلت هذه البسالة الممتازة من أجدادنا الأبطال إلى أمثالهم من أُمم الغرب اليوم.. فنحن لا نزال نسمع من أخبار المغامرين ما يُثير الدهشة ويدعو إلى العجب.
لم يتركوا صحراء قاحلة، ولا بيداء شاسعة، ولا مجاهل مغمورة حتى قطعوا فيافيها وطرَقوا مسالكها لا يمنعهم جوع ولا عطش، ولا تحول دونهم صعوبات مهما جل شأنها.
ومن الغريب أن أكثرهم ينتمون إلى أُسر مترفة لم تألف قسوة الحياة، وشظف العيش، ولكنها في نظرهم هواية يتلذَّذون فيها بما يقاسون من متاعب، وما يصادفونه من نصب ولا مانع لديهم من أن يركبوا إلى غايتهم الدواب الخشنة والمطايا المتعبة، وأن يواجهوا القرّ والحر، ويتعرضوا للحيوانات الكاسرة، والغابات الموحشة، وللقبائل المتوحشة.
أوغل بعضهم في إفريقيا، واخترق صحاريها التي لم تطرقها قدم، وقابل من أهوالها ما لا يتحمله جلد، وخرجوا من ذلك بفضول مسهبة أفادت قومهم. وفتحت عيون حكوماتهم على حقائق كان يجهلها حتى سكان القارة أنفسهم!!
وأوغل بعضهم في أستراليا، والهند، والصين، فانتهوا إلى آفاق لا يتصورها خيال، واكتشفوا من طبائع الأرض والجبال والأنهار فيها ما لم تتيسَّر معرفته للسكان أنفسهم، وبذلك خدموا بلادهم خدمات جليلة القدر، عظيمة النفع، ومشى رائدوهم في بلاد العرب فلم يتركوا شبراً إلاّ ذرعوه، ولا صحراء إلاّ جابوها، ولا جبلاً إلاّ صعدوه، ولا مغارة إلاّ كشفوها، وانتهوا من تلك إلى بحوث لم يكتبها عربي من أبناء اليوم.
ومشى بعضهم إلى المناطق الثلجية التي لا يقوى على احتمال صقيعها إنسان فارتادوها، ودرسوا طبائعها وعادات أهلها، واتَّصلوا إلى ما يقرب من القطب الشمالي فمسحوا أراضيه، وكتبوا عنها ما لا يخطر على عقل بشر.. وهم لا يزالون يعقدون العزم على التوغُّل في القطب الجنوبي واكتشاف ما يهمهم اكتشافه في مناطقه السحيقة.
وتعدَّت جرأتهم إلى قياع البحار، وأعماق المحيطات، وبطون الأراضي وأجواف البراكين الباردة!!
وإذا أردت أن تعجب فاعجب لهذه المغامرات الجريئة القاسية التي لم تقتصر على الرجال وحدهم، بل شارك في كثير منها نساء دقيقات الخصور، رقيقات الأطراف، سائلات الأعطاف.
إنهنّ نسين رقّتهنّ، وضعفهنّ، وحاجتهنّ إلى حماية غيرهنّ، وخاطرن في بسالة منقطعة النظير نحو غاياتهنّ بقلوب لا تعرف الخوف.
أيليق بنا -ونحن نسمع في كل مناسبة من أخبار هؤلاء المغامرين والمغامرات ما يدعو إلى الاستهانة بالأخطار- أن نجمد في بيوتنا على ما تعوَّدنا، وأن ترتجف أفئدتنا فرقاً كلما دعانا داعٍ إلى خطوة جديدة نخطوها نائين عن مرابعنا، أو حركة جريئة نغامر فيها بعيدين عن أهلينا؟
نحن في حاجة إلى أن نقتبس من أعدائنا هؤلاء بعض أخلاقهم إذا أردنا أن نواجههم في الحياة، وأن نتعلم من مزاياهم الطيبة.. والطيبة فقط ما يؤهلنا للوقوف أمامهم موقف الند من الند. فإنهم لم يُخلقوا من طينة غير التي خُلقنا منها، ولم يتزوَّدوا في تركيبهم الجسماني بما لم نتزوّد به.
فإلى الأمام.. إلى الأمام.
ودعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :427  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج