ثم يَشتري بأقلّ من نصف الثمن |
أجل! دعونا نمشِ، ولنكن عمليين بقدر ما يجب، أو أكثر ممّا يجب.. فقد مضت القرون تمشي وظللنا مكاننا نطوِّف الحجاج أو نزمزم لهم، ونتمتع بأفضل ما يتمتع به الكسالى من استرخاء.. أمّا اليوم قد أجمعنا على السير؛ فمن العيب أن نستخذي للذة الاسترخاء. ومن العبث ألاّ نحزم أمرنا على المضي. |
دعونا نمشِ.. ولتكن الطوائف المهاجرة التي تغص بها بلادنا اليوم أكثر محفز لنا على تفسير معنى المشي، وليكن نشاطها المشاهد في جميع حقول الحياة دافعاً لنا على العمل النافع المثمر. |
إن المهاجرين إلى بلادنا اليوم يضعون أيديهم على أكبر جزء من مرافق حياتنا اليومية، فهم النجارون اليوم، وهم الحدادون، والسماكرة، والصبّاغون، والحلاّقون، والطبّاخون، والبنّاءون، والحذّاءون، والخيّاطون، والمنجِّدون وهم المهندسون في العمار، أو في الميكانيكا، أو في الكهرباء، وهم التجّار والمستوردون إلاّ قليلاً، وهم الباعة المتجوّلون فهل حفَّزنا هذا للعمل؟ |
إننا لا نزال نعيش كما كنا نعيش بالأمس، إن لم نقل إن أمسنا قبل أن نعرف الغنى كان خيراً من يومنا في كثير من ألوانه. فقد كانت لنا أيدٍ صناعية، تغني بعض مطالبنا، في حياة كنا نعيشها محدودة.. كانت لنا صناعة في النحاس، والحديد، والفضة، والذهب، وكانت لنا أيدٍ تطرز الحرير، والقصب، وكانت أسواقنا تزدحم بمنتوجات أراضينا، وحوانيتنا مشغولة بأيدي عمالنا.. كان منا الطبّاخ، ومنا الحلواني، والفوّال، ومنا التاجر، والمستورد.. أمّا اليوم فقد أزاحنا أصحاب النشاط من المجاورين عن كل ما نمتهن، وخلف من صناعنا الخلف الذي تعلم التأنق والرفاه، وقطع أسبابه بمهن آبائه واستقذر مباشرتها، وأعدَّ نفسه للتمسح على أبواب الوظائف، أو هيأها لخدمة الحاج في أسلوب لا يشرف أناقته الموهومة.. لأن الخادم مهما سمت في نظره الخدمة لا يستطيع أن يسمو عن مركز الخادم. |
ما يمنعنا أن نسابق المجاورين إلى ما سبقونا، وأن نستعير نشاطهم الملموس في مرافق بلادنا؟ وما بال الباقين منا في حرفهم يجمدون على قديمهم.. فلا تزال محال الأكل عندنا يندى الجبين خجلاً عند رؤيتها، ولا تزال المشارب العامة والمقاهي لا تصلح لاستقبال زبون محترم.. إلاّ المحال، وإلاّ المشارب التي شرع المجاورون يؤسسونها في بعض بلادنا كنماذج تدل على مدى الفرق الشاسع بين حالنا وما يجب أن يكون؟ |
دعونا يا قوم نمشِ في خطى ثابتة، شاملة، تستغرق كل مرافقنا.. من محالنا العامة، وبيوتنا الخاصة.. إلى مؤسساتنا في جميع مجاليها.. لنثبت للحياة أنا جديرون بها، وأن أهليتنا للنهوض والتقدم لا تقل عن أهلية غيرنا من الأمم التي تعاصرنا. |
وإذا كانت حكومتنا قد بدأت تنفق الكثير في سبيل تهيئة شوارعنا، وشتى مظاهر بلادنا لما يليق أن نبدو به أمام الصديق والعدو على السواء، فما يمنعنا أن نساير هذه الحركة ونتضامن وإياها على إبراز شوارعنا وما يبدو من ظواهرنا في أوضاع لائقة، وصور مشرفة؟ |
أرأيتم بعض باعتنا، وكثيراً من أصحاب الحوانيت بيننا يبرزون ببضائعهم إلى مسافات تمتد بعيداً عن حوانيتهم فيتخذوا من مساحة الشوارع وأرصفتها حوانيت جديدة يضيفونها إلى حوانيتهم؟. إنهم بهذا يعصون قواعد الحضارة، ولا يبالون بتجميل بلادهم ومساعدتها على الظهور في المظهر اللائق المشرِّف. |
قد نعتذر لبعضهم بضيق المساحات التي أسست الحوانيت على قواعدها.. ولكنه عذر لا ينهض لجميع أصحاب الحوانيت كما أنه سوف لا ينهض للمعذورين أنفسهم. لأن الوفي المستيقظ في أي أمة يهيئ نفسه للتضحية في سبيل التجميل العام، ويعلمها كيف تضغط على مصالحها الخاصة لتمنح بلادها فرصة تليق بما نتمناه لها من سمعة طيبة. |
وما دمنا في صدد حوانيتنا، وباعتنا في الشوارع، فلا يجب أن ننسى طريقتنا في المساومة والبيع.. فهي لا تزال تأخذ أشكالها العتيقة التي بليت ببلاء الأجيال.. لا يزال الزبون الحاج يساومنا فيما نبيع، ثم يشتري منا بأقل من نصف الثمن الذي عرضناه.. وتلك أساليب أصبحت تزعزع الثقة بين التاجر والزبون، وأصبحت قواعدها تتنافى مع الاحترام والكرامة!! |
إن تحديد التاجر أسعاره في محيط دكانه أصبح اليوم ضرورة لازمة لاحترام التاجر واحترام أسعاره.. أصبح التجديد في العالم تجديداً شمل جميع أقطار الأرض الراقية، وأصبح نظاماً ساري المفعول في كل أمة تحترم شخصيتها. فما بالنا نجمد على ما عودتنا أجيال لفها البلى، ودفنها الماضي؟ |
إن الحاج المحترم لا يسيئه في بلادنا شيء كما تسيئه هذه الأساليب العتيقة التي يزاولها باعتنا وتجارنا، وإنه اليوم ينظر إلى معاملتنا من هذا القبيل نظرته إلى شيء مخيف.. فيه من الخداع والختل أكثر مما فيه من معاني الرجولة والثقة.. فما يمنعنا أن نشرف بلادنا في نظره، وأن نصطنع الأساليب التي تُعلّمه احترامنا، فنوفر بذلك ما نبذل من أوقاتنا، ونظفر من راحة البال ما يغنينا عن الجدل، وما يتطور إليه الجدل في بعض الأحيان من مهاترة؟ |
ما يمنعنا أن نتعلم الوضوح في جميع معاملاتنا التجارية والاجتماعية في ذات بيننا أو مع الوافدين من ضيوف أو حجاج، وأن نصون كرامتنا ونكبر بها على الغش إذا كان فينا مَن يعرف غش البضاعة أو يستمرئ الخداع، وأن نرتفع عن اقتناص الزبون بالأيمان المحرجة مهما كان لونها من الصدق، فالإلحاح بالأيمان واللهفة على اقتناص الزبون تسيئان إلى مركز البائع أكثر مما تفيدانه. وتصوره بأبشع ممّا يتصوّر به القناصة في مجاهل الصحراء؟ |
سيهزأ بنا الآن قوم ألفوا أساليبهم العتيقة. وسوف لا نبالي بما يهزأون. |
فهلموا بنا.. |
ودعونا.. نمشِ!! |
|