يتسابقون بين أرجُل الحجاج |
حدثني صديق لي فقال: كنت أزور اليابان. فمررت مصادفة بحي من الأحياء الفقيرة في إحدى مدنها. فرأيت سائحاً أجنبياً يحمل آلة للتصوير، وقد وقف إلى زاوية في الشارع الذي ارتاده يصوِّب آلته إلى بعض النساء الفقيرات الجالسات إلى بعض الأرصفة يعرضن بضائعهن الرخيصة، فما كاد يفعل حتى هجم عليه أحد المارة واختطف آلته في عنف، ولم يلبث أن شاركه أكثر من واحد من عابري السبيل.. كانوا يصخبون في غضب، ويحتدون في حماس؛ لأن السائح أراد أن يغافلهم ويسجل بآلته منظراً لا يشرف بلادهم.. فأبى عليهم وعيهم الوطني إلاّ أن يحولوا بينه وبين ما أراد.. فكانت الضجة الصاخبة، وكان المنع بالإكراه. |
قال صاحبي: هذا دليل من آلاف الأدلة على مقدار الحب الذي تغلغل في أعماق اليابانيين لبلادهم. |
قلت: إن هذا ليس حباً فقط؛ لأن الحب في صورته هذه لا يقتصر على الجنس الياباني دون الأمم، فالمعروف أن جميع الأجناس من غير استثناء تحب بلادها حب اليابانيين لأوطانهم.. يستوي في هذا البدوي في بيته من الشعر، والزنجي في عشته من الخوص، والأسكيمو في جحره من الثلج.. ولكنك تجد إلى جانب حب الياباني لبلاده شيئاً تسميه الوعي العام المتيقظ. |
والوعي العام المتيقظ ليس مصدره العواطف الطيبة التي يشترك فيها جميع الأمم من جميع الطبقات فقط، وإنما مصدره -إلى جانب ذلك- المعرفة العامة التي تناولت روح الياباني فهيأتها لما ترى. |
هذه المعرفة أعدت الياباني لفهم مركزه الدقيق بين الأمم، وعلمته كيف يصون سمعته، ويحرص على الدعوة لها بأحسن الوسائل التي تعزز مركزه. |
هذه المعرفة العامة لا تجد آثارها ناطقة في غضب الياباني لآلة تسجل بعض المناظر المسيئة لوطنه، بل تجدها عامة شاملة في جميع حركاته التي يتفانى في أدائها خدمة لبلاده وأمته. |
تجدها عامة شاملة في المصانع التي بناها، والمدارس التي شيدها، ومرافق الحياة التي أقامها ليخدم بها مجد أمته. |
وقد خدمها، ولا عبرة بالظروف الخاصة التي هيأته للفشل في الحرب الأخيرة، فتلك نتائج كان لا بد منها بالنسبة لأوضاع يعرفها فقهاء الأمم. |
وإن أعداء اليابان المتنصرين لا يزالون بالرغم مما حدث يقدِّرون في الياباني رجولته، ونضجه، وقدرته على مسايرة الأمم الحية. |
نريد أن نخلص من هذا إلى البحث في حقائقنا الراهنة. |
ترى ما هي النسبة المئوية التي تغضب في بلادنا لسمعتها وتتألم لكرامتها؟ |
لدينا طبقات لا تزال تنظر إلى سيئاتنا العامة نظرة الرجل الذي لا يبالي بشيء. |
فقد يمر بنا الغريب الحاج ونحن نخلط الهزل بالجد، ونمزح بألفاظ قد لا تليق بشرف بلادنا.. فهل يتورع الهازل عن مثل هذه المهازل ضناً بكرامة بلاده وصوناً لها عن نقد الغريب؟ |
ويزاول بعضنا أصنافاً من التجارة الصغيرة مع الحجاج.. فهل يخشى هؤلاء وهم في سبيل معاملتهم مع الحجاج سوء سمعتهم، ويحرصون على نقائها حرصهم على نقاء بيوتهم وصون سمعتها؟ |
إن هذا الحرص يقتضينا أن نكون مؤدبين في معاملاتنا، مهذبين في وسائل عرض ما نتاجر فيه.. نترفع عن الحلف الجزاف، ونلتزم الصدق فيما نقول، ونأبى الغش مهما درت أرباحه، لنعوِّد الحجاج على صدقنا وأمانتنا، ونظافة معاملاتنا، وإذا التزمنا لأسعارنا قيماً محددة رفعنا من شأننا في نظر الحجاج، وأعطيناهم عنا صورة تليق بنا كمسلمين كما تليق بنا كجيران لبيت الله الحرام. |
ولا تشيع بيننا هذه المعاملات الفاضلة بناء على توصيات، أو أوامر يصدرها المسؤولون بقدر ما تشيع كنتيجة للتهذيب الجماعي، والتعليم العام الشامل الذي يتناول الأرواح فيشذبها، والطبائع فيمرنها على مباشرة أعمالها في الحياة في أسلوب يشرِّف بلادها ويصون عليها سمعتها. |
نحن نرى صغار المرتزقة من المطوفين غير الرسميين يتسابقون بين أرجل الحجاج في أبواب المسجد وخلف السيارات التي تقلهم بين الشوارع والأزقة في صور لا تليق بمهنة التطويف التي انتدبوا أنفسهم لمزاولتها حول الكعبة، فيحز الألم في صدورنا، ونتمنى على الله أن يلهم الرشد هؤلاء المرتزقة الذين يسيئون إلى معنوياتنا في بلادنا، أو تضرب الحكومة بيد من حديد على أعمالهم.. فترهق ضعفهم، وتسيء إليهم في معيشتهم الضئيلة، وتتفق مع قسوة الزمن على كواهلهم الرقيقة.. نريد هذا أو غيره لتغيير الأوضاع.. ولكننا نجهل أنه ليس ثمَّة علاج صحيح غير إشاعة التعليم إشاعة عامة تتناول الطباع والأرواح أكثر مما تتناول شيئاً آخر. |
لو تهذب مستوى هؤلاء فيما يتهذب من مستوى الطبقات لرأينا من يغضب لكرامة البلاد، فيأبى أن تبقى السليقة غير المؤدبة عنواناً لأعمالهم، ولرأينا بعضهم يقود البعض إلى اتفاقات تجمع شتاتهم وتوحدهم صفوفاً ينظمونها في المسجد. بل يصونون أنفسهم في ترتيب كامل يهيئهم لخدمة الحجاج واحداً بعد الآخر في نظام مشرِّف وأسعار لا تقبل المساومة. |
إنني هنا في سبيل ضرب المثل لا أكثر.. فلست أريد أن أخص طائفة بعينها في البلاد. ولكنه السياق تتداعى معه الأمثال الحاضرة. |
إني أعرف أنها ليست الطبقة الوحيدة التي تسيء بأعمالها المضطربة إلى سمعة بلادنا، وإنما هناك طبقات أخرى على مثالها، لم تفكر بعد في واجباتها نحو سمعتها وكرامة بلادها.. وهي في رأيي معذورة لجهلها كل العذر، ولا نستطيع مؤاخذتها إلاّ إذا استطعنا إشاعة التعليم بين جميع الأوساط، وتوجيهه توجيهاً خاصاً يُعنى بالأرواح والطبائع والأخلاق، أكثر مما يُعنى بحشو المعلومات واستظهارها. |
وإن آلاف القصص والمواعظ وآلاف النصائح لا يمكن أن تترك أثرها في تهذيب المجتمع ما دمنا نُعنى بإيراد حروفها ميتة الألفاظ. |
|