تضج الحيَاة اليومَ بالحديد والنار |
لا يكفي الأمم أن يمتاز قوادها أو أصحاب زعامتها، أو فريق من المتقدمين فيها بالروح الواعية التي تحس بحقيقتها، بل لا بد لهذه الروح أن تنبعث في كيان الأمة، ويشيع أثرها في جميع الأوساط لتتضافر الجهود، ويجد المصلحون استجابة عامة أينما اتجهوا، وكيفما توجهوا. أما الأمة المتأخرة في مجموعها.. فإن محاولة إصلاحها إرهاق يبدد جهود العاملين، وربما بعث اليأس إلى نشاط الداعين. |
وانتشار التعليم في صفوف الأمة بصورة شاملة عامة هو الكفيل الوحيد بشيوع الروح التقدمية في مختلف أوساطها لأن طبقة الأميين لا تستجيب دائماً لإصلاحات المفكرين، ولا تهضم الآراء الحرة التي يدعو إليها التقدميون.. وهي إلى هذا أشد ما تكون حرصاً على ما ألفت من عادات مهما كان نوعها أو نصيبها من التأخر. |
أدركت هذا دول أوروبا.. فأشاعت التعليم في صورة كانت لا تحلم بها القرون الماضية.. بنت في كل قرية أكثر من مدرسة، وأنشأت في كل قسم من أقسام المدن، وفي كل عطفة من عطفاتها، دوراً للتعليم، ولم تقصر عنايتها على التعليم الأولي أو الثانوي بل شملت بجهودها جميع درجاته المتفاوتة ابتداءً من الروضة إلى آخر ذروة في أنواع التخصص العالي. |
ولم تحرم المسجونين في أي درجات السجن، والمتشردين، ونزلاء الملاجئ، وأصحاب العاهات، والعميان، والمشوَّهين من فضل العلم.. أباحت لكل فريق حصته الوافية من مناهل المعرفة، ولم تعجز حتى عن تنوير العميان والبكم، فابتكرت لهم ما يعينهم على تذوق العلم، وساعدتهم على اللحاق بصفوف أترابهم في الحياة.. فشاعت المعرفة بين طبقات الأمم واستطاع مجموعها أن يتقارب ثقافياً وذهنياً. واستطاعت المعرفة أن توحِّد بين طبقات الأمة الواحدة في أسلوب الفكر، وأن تعدها إعداداً جماعياً لتلقّي الآراء الحرة، والأفكار الجديدة، وأن تشعر شعوراً جماعياً بحاجتها إلى التضامن في سبيل ما يرفع شأنها ويعزز مكانتها. |
ونحن على أبواب نهضتنا اليوم نلمس هذه المعاني في كل حركة نخطوها.. لا زلنا نعاني عصيان الطبقات غير المتعلمة على كل ما يجد لدينا من أفكار، ولا زلنا نقاسي عنْتهم، وشدة محافظتهم على ما ألِفوا.. وليس هذا غريباً على أذهان لم تفتِّقها المعرفة، ولم ينوِّرها العلم. |
لا يزال يعيش بيننا اليوم من يرى أن الأوروبيين خدم هيأهم الله لنمتطيهم إلى حاجتنا.. فهو لا يستغرب أن نعجز عن صنع ملبوسنا، ومفروشنا، وجميع الأدوات والآلات التي نحتاجها في شتى مرافقنا.. لا يستغرب هذا لأن الله كما سخر الحيوانات لقضاء مآربنا خلق الأوروبي -فيما يرى- ليخدم أغراضنا في الحياة. لا يستغرب هذا لأن عقليته المحدودة لا تتَّسع لتصوير الأشياء على حقائقها. ولو اتَّسعت للتصوير والفهم لبكى أسفاً على ما فرَّطت أمته، ولاستطاع أن يدرك أننا في عوزنا إلى ما يصنع الأوروبي، وفي حاجتنا إلى ما يتفضل به علينا ممّا يقيم أودنا نمتهن أنفسنا ونضع بين يديه عموم مقدراتنا ليتصرف في شأنها كما يحلو له. |
لدينا من يفاخر بأنه ورث الطوافة أو الزمزمية مثلاً من جد عريق في النسب شامخ في المجد، ولو علم أن مأساة بلادنا اليوم في الاقتصار على مثل هذا الاحتراف، وأن أمثال هذه المهن هي على تأخرنا من قرون -لبكى حزناً على ما أضعنا، وتمنى إلى الله أن ينسى أحفاده هذا التراث، ويواجهوا الحياة الصاخبة في الأسلوب التي تواجهها به أمم البلاد الراقية. |
الحياة اليوم تضج بالحجارة التي يطحنونها، وأغوار الأرض التي يحفرونها، وغياهب البحار التي يغوصون إلى أعماقها، وآفاق الجو الذي يركبون متنه.. تضج بالحديد، والنار، والفحم، والبنزين، والكهرباء والآلات الجبارة. تضج بالسواعد المفتولة، والعزائم القوية، وألوان ممتازة من الثبات والشجاعة، كما تضج بالنظريات المبتكرة والتجارب المستمرة، والدراسات التي لا تنقطع. |
هذه حياتهم الصاخبة التي استطاعوا أن يروضوا بها الحياة واستطاعوا أن يملكوا في فدافدها ما لا يقف عند حد. |
هذه حياتهم التي أباحت لهم التملُّك في رقابنا.. مادياً، أو أدبياً، أو علمياً، أو اجتماعياً. فهل نسميهم بعد هذا خدماً مسخَّرين أم نعترف بمكانتهم العالية التي سوَّدتهم على وجه الأرض؟ |
إن في البلاد الحية اليوم أمماً يقظة تدرك كنه حياتها، وتفهم أن وسيلتها إلى الحياة المعززة المكرمة هي العمل الجدي النافع.. تفهم هذا فهماً جماعياً لا يُستثنى منه حمّال الأخشاب في الغابات، ولا حفّار الأرض في المناجم، ولا وقّاد النار في المصانع.. فإذا قامت بينهم فكرة، أو صاح بينهم صاحب رأي لا يعجزون عن تفهُّم ما يدعو إليه، ولا يتباطؤون عن الاستجابة إذا تبيَّنت لهم وجوه الصواب فيما يرى. |
ذلك لأن الذهنيات قابلة للفهم في شتى طبقات الأمة. لا فرق فيها بين عامل أو حمّال أو مدير يرأس أهم الأعمال. فقد استوفى الجميع من كل الطبقات نصيبه من العرفان الذي يكفي لتفتيق الذهن، واستيعاب المعاني العامة لحقائق الحياة!! |
إذا تهيأ لنا في المستقبل من طبقات الأمة على اختلاف درجاتها مثل هذا الوعي العام الذي يفهم الحياة على حقائقها، ويستطيع أن يستوعب الفكرة النافعة. ويعرف كيف يستجيب لها، ويجنِّد نفسه لخدمتها.. فثق أننا سنضمن النجاح لبلادنا ونستأنف حياتنا على الأرض في عزم وثبات. فامضوا بنا.. |
ودعونا.. نمشِ! |
|