الواد عزّوز في شغل عن أرقامك |
أجدني خصصت الأطفال بالكثير، فأطلت فيما يخصهم، وليس غريباً أن أخصهم فأطيل؛ لأن هذه الأرواح الصغيرة قمينة بعنايتنا، لتتهيأ في سنها المبكرة للاضطلاع بأعبائنا غداً.. تتهيأ في أسلوب خاص يغنينا في شبابها عن الصقل والتحوير، فالغصن اللدن هو الغصن القابل للتكييف في غير عناء أو مشقة. |
ولقد عنى الرومان قبلنا بهذه النظرية، فكانوا يحرصون على أسر أكبر عدد من أطفال أعدائهم في الحروب ليحلوهم إلى منظمة خاصة تتولى تنشئتهم في أسلوب مقرر، يفصلهم عن ماضيهم فصلاً باتاً، ويُعِدهم لخدمة الدولة بروح الابن البار الذي أنتجته أيدٍ ماهرة، وتعهدت تقويمه في شكل خاص. |
وقلّد العثمانيون الرومان في الانتفاع بهذه النظرية فكان لهم جيش من صغار الأسرى، ينظمون تربيته على أسلوبهم الخاص ليعتمدوه في مهامهم الخطيرة، ومواقفهم الحاسمة.. ولقد أثبت هذا الجيش في أحلك الأوقات الصعبة أن بنيانه كان محكم الأساس، وأن نظم التربية التي اعتُمدت لإعداده هيأت منه رجالاً متفانين في شكل منقطع النظير.. ذلك هو جيش الانكشارية المعروف في تاريخ العثمانيين ببأسه النادر وإخلاصه الفذ. |
وانتقلت النظرية إلى بعض دول أوروبا وأمريكا مع تحوير يؤهلها لاتساع الفائدة، فكان ولا يزال بعضها يرصد في موازنته أضخم المبالغ لبناء المدارس والكليات في مناطق بعيدة عن حدود بلادها باسم العلوم مرة وخدمة الإنسانية أخرى. |
ونحن لا نناقش مبلغ هذه الدعاوى من الصدق بقدر ما نناقش المقاصد البعيدة التي تخدمها هذه المدارس، فقد هيأت في طُلبتها أرواحاً تُعِدهم إعداداً خاصاً لا تُعِده آلاف الوسائل المستعملة في السياسة. |
ولقد كنا نرى آثار ذلك واضحة في كثير من المناسبات التي رأينا فيها خريجي تلك المدارس أو المعاهد يتفانون في خدمة الدول المربية ويفكرون بأفكارها، ويتحمسون لمصالحها حماساً يضاهي حماس أبناء الدول المربية في صميم بلادها. |
نريد أن نخلص من هذا إلى أن الدول الراقية أدركت قبلنا مبلغ أثر المدارس في تنشئة الصغار، فأعدت نظمها إعداداً يكفل غاية خاصة تتوخاها. |
فهل أعددنا مدارسنا هذا الإعداد؟ وهل هيأنا مناهجها لتبث في جيلنا فكرة محدودة نتوخاها في الحياة؟ وهل انتهى إلى علم أساتذتنا في المدارس أن وظائفهم في فصولنا إعداد وتهيئة قبل أن تكون شيئاً آخر؟ |
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى مدارس تُعنى بالكيفية أكثر مما تُعنى بالكم. فلا المقرر السنوي، ولا المواد المفيدة، ولا الكتب المحدودة هي غاية التعليم في المدارس، إنما الغاية الأولى هي شيء أبعد من هذا وأغزر. |
إننا نريد مران صغارنا على الفهم والاستنتاج أكثر مما نريدهم لنلقي ما نلقنهم كقواعد ثابتة وعلوم مقررة. |
هذا الشيخ محمد يبدأ حصته في الدرس بقراءة أكثر مما أورده الكتاب المقرر في شأن قيام دولة العباسيين بالصورة التي قامت بها ويذكر تاريخ خطواتها باليوم والسنة. |
ثم يتلو ما ترتب على هذا القيام في ألفاظ ميتة رصفت حروفها المطبعة كما كتبها المؤلف لتكون أرقاماً وعلامات لرائدي الموضوع.. لا لتكون حروفاً يمل الطالب استظهارها ويتعب من قيودها. |
ما أحرى الشيخ محمد أن ينسى الكتاب إلى حين، وأن يناقشهم في الأسباب التي قضت على الأمويين.. ثم يتركهم يستنتجون ما يجب أن يترتب على سقوط الأمويين بعد أن يشعرهم بمكان الجماعة التي أسمت نفسها بالعبّاسيين ليصور الخطوط الأولى التي يجب في رأيهم أن تتجمع لتكون نهضة جديدة على أنقاض ما سبقها. |
إذا تركهم يجمعون هذه الخطوط ويستعملون خيالهم في ترتيبها كيفما اتفق ويعدون العدة حسبما تراءى لهم لقيام الحكومة الجديدة.. فإن آراءهم ستتضارب في هذا الإعداد، وستتسع خيالاتهم في تصوير الموقف. وسوف لا يجيدون حبك القصة التي لم يطلعوا على نتائجها. ولكنهم سيتمرنون في هذا على النقاش، ويتدربون على الاستنتاج وستتَّسِع أذهانهم لتصوير الحقائق، وتتفتق أفهامهم على بحث المقدمات في الحياة وترتيب النتائج عليها. |
سنتركهم يخطئون ما اتسع الخيال لأخطائهم، لأننا سنظفر لهم من خلال هذه الأخطاء بما لا تساويه جميع دروس التاريخ، وسنشوقهم إلى نتائج ينتظرون سماعها منا، أو من الكتاب بفارغ الصبر. |
وعندئذ فقط نستطيع أن نقرأ عليهم ما قال الكتاب لنحدد الفكرة في نطاق ما حدَّث به التاريخ، ونتركهم يعجبون للمفارقات العجيبة بين ما تخيلوه في شأن العباسيين، وما وقع عملياً في التاريخ.. وسنسمعهم يضحكون أشد الضحك من إغراق بعضهم فيما تخيل أو تصوره فيما تصور.. وسنفرح لهذا الضحك ما وسعنا الفرح لأن تفتق الأذهان وتمرينها وقْف على مثل هذه الأجواء المرحة، المشبعة بفكاهة المفارقات اللذيذة ما دام المرح محدوداً بيقظة الأستاذ وكفاءته الشخصية. |
وننتقل بعد هذا إلى حصة الشيخ داود لتراه إلى جانب سبورته ينظم الأرقام الحسابية في سطور مرتبة يعلمهم فيها كيفية الجمع والطرح. |
إنها يا سيدي الشيخ أرقام صامتة لا تنطق وإن الواد عزوز ومسعد وسعيد في شغل شاغل عن أرقامك بعبثهم الشيطاني الذي اصطنعوه ليبددوا سأم الحصة، وإن عجزك -وأرجو أن تسامحني فيما أقول- عن (فرفشتهم) واستغلال انتباههم هو المسؤول الأول عن انصراف الأولاد عن السبورة، وهو المسؤول الأخير عن إغلاق ذهنهم عن الحساب لا في عامهم الدراسي فقط بل إلى عهد طويل من عهود تلمذتهم، لأن أذهانهم التي أغلقت اليوم دون دروسك البدائية ستظل مغلقة في مآتي أيامهم كما تتركها اليوم. |
أيسمح لي سيدي الشيخ لأنوب عنه لحصة واحدة. |
((قم يا عزوز: أنت اشتريت سكر بمبلغ 13 قرشاً، واشتريت بمبلغ 9 قروش شاي واشتريت كاكولة بمبلغ 7 قروش تقدر تفهمني كم ضيعت؟)). |
هذه عملية حية ليس فيها أرقام صامتة يجب أن نبدأها قبل أن نبدأ الأرقام الصامتة.. إنها عملية من صميم واقع الطفل اليومي يستطيع أن يجاريك فيها، وأن يمشي وراء خطواتك إليها في صدر مشروح ويقظة كاملة. |
وإذا استطعت أن تضيف إليها بعض الفكاهة كأن تقول: ثم رأيت البدوي يلاعب القرد في صور مضحكة تمثلها ولو بيديك. ثم تقول: وقد أعطيت هذا البدوي قرشين فكم مجموع ما صرفت؟.. عند ذاك ستجد الولد قد تفرغ لفكاهتك الظريفة وحدد انتباهه لما تقول.. وعندئذ ستجد أنك استطعت أن تملك انتباه التلاميذ في عموم الفصل، واستطعت أن تحبب إليهم دروسك وتشوقهم إلى متابعتك فيها. |
كما ستجد نفسك وقد استطعت أن تفتِّق أذهانهم لفهم ما تقرره عليهم، وتستطيع إذا غالطتهم في مرح أن تسر أفئدتهم، وأن تمرنهم على مناقشة الحقائق، ومراجعتها وتدريبها على الاستنتاج الفكري المستقل.. وبذلك سوف لا تضمن نجاح دروسك فقط بل تستطيع أن تضمن تعشقهم للحساب كفن مدى حياتهم، وأن تفاخر بعد هذا أنك لم تعن بمقرراتك في علم الأرقام بقدر ما عنيت بتمرينهم على الاستقلال الفكري.. وتلك ضالة المدارس الأولى في حياة شعب يريد أن يواجه الحياة في قوة وعزم.. |
فدعونا.. نمشِ. |
|