شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به الأستاذ الدكتور أحمد خالد البدلي ))
- بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته:
كم كان بودي أن أعقب على كل الكلمات الجميلة، التي أحاطني بها الأصدقاء والزملاء، وطبعاً نشكر الشيخ عبد المقصود، وهذا لا يستغرب عن الأشياء التي استمرت أربعة عشر عاماً، وهو يكرم طلبة العلم والعلماء، فهذه إحدى وراثاته من أبيه رحمة الله عليه.
وما أريد قوله - والأخ عريف الحفل يقول لنا اختصروا الكلام - أن هؤلاء الزملاء أتوا لتكريمنا - نسأل الله أن يكرمهم - وفي نفس الوقت قالوا في كلماتهم كل ما أريد أن أقوله، ولم يتركوا لي أي كلام، إنما أرجو أن لا أطيل عليكم، وأن تحتملوا مني لأنني لا أحسن الإرتجال، لذلك كتبت كلمة أرجو أن تكون مناسبة.
بسم الله الرحمن الرحيم.
 
رعى الله دهراً مرَّ حلواً بمكة
لياليَ عنا النائبات نزوح
 
حي (الطندباوي) بمكة المكرمة، من الأحياء العشوائية، التي تنبت في ضواحي المدن الكبيرة نباتاً شيطانياً، والطندباوي، اسم عربي فصيح، وقديم بمكة حرفته العامة عن أصله العربي وهو (التنضب) أو (التناضب) وقد جاء في القاموس المحيط للفيروز آبادي: "أن التنضب نبات شوكي تأكله الإبل، وقرية قرب مكة". وأرجح أن تكون هذه القرية الواقعة في غرب مكة هي حينا (حارة الفلاته).
وهذا الحي لم يكن كما يراه الناس اليوم، عامراً زاخراً بالحياة، فهذا الشارع الذي يمتد اليوم من كوبري شارع المنصور صُعداً إلى المغاير، لم يكن قد عُبِّد وسُفلت وأُضيء، بل لم يكن أحد قد فكرَّ في شيء من ذلك، بل كان الحي كله، حياً فقيراً بائساً كئيباً لا ترى فيه أثراً للبناء الحجري، بل كانت مجموعةٌ من العُشش والأكواخ الحقيرة، تشب فيها الحرائق كل يوم، حتى صار الحريق جزءاً من تاريخ عشيرتي (الفلاته)، يؤرخون بها أفراحهم وأتراحهم، فيقال ولد فلان يوم احترق الجانب الفلاني، ومات فلان يوم الحريق العلاَّني. وكان يتوسط الحي مسجد، لا أعرف تاريخ بنائه، وكل ما أذكره، أن جدي لأمي الشيخ أبو بكر سمبودودو هو إمامه الراتب، وقد اكسبته هذه الإمامة وجاهة ومهابةً واحتراماً بين عشيرتي.
كان ملعبنا ونحن أطفال صغار برحة العم (يسلم بافرج) رحمه الله. وهي برحة تقع في أعلى الحي قرب المسيل، وقد ابتلع الإسفلت الأسوَد تلك البرحة وأصبحت اليوم جزءاً من الشارع العام المؤدي إلى المسجد الحرام.
كانت تلك البرحة هي كل حياتنا فيها يلعب الشباب "الكبت" (1) "الاستغماية" كما يلعب الصبيان "الكبوش" والطبيان، وفي الجبل المحاذي للبرحة كان الأطفال يطيرون الطيارات الورقية، فقد كانت لنا في صبانا ألعابٌ موسمية كثيرة لا كحال الصبية اليوم الذين لا يكادون يلعبون.
في حارة الفلاته هذه نشأت، وأمّا مسقط رأسي فقد كان كما علمت من كبار العائلة هو (مِنىً) وقد كنت في طفولتي المبكرة أستفيد من لقب أُطلق عليَّ بسبب ميلادي في (مِنى) وهو أني كنت أُلّقب "كبش منى" فكان الأشقياء من شباب عشيرتي يتسلون بالتلاعب معي بسبب هذا اللقب، فكانوا يجتمعون ويطلبون مني القيام ببعض حركات التيوس باعتباري تيساً بشرياً، وكنت أتقاضى منهم حلوى وبعض الهللات وكانوا يبادلونني الضحك والسرور.
 
وأذكر جيداً كيف تخلّصت من هذا اللقب المزري، فقد كنت في حلقة من تلك الحلقات أقوم بالعرض اليومي، وحولي الصبية يتضاحكون، وإذا بجدي لأمي الشيخ أبو بكر سمبودودو يراني وهو قادم من السوق، فزجرني وعنَّف الصبية، وحلف لئن سمعهم ينعتونني بهذا اللقب، فسوف يفعل ويفعل، وختم حديثه إليهم قائلاً: ألا تعلمون أنَّ اسمه أحمد؟. ومنذ ذلك اليوم تخلّصت من لقب التيس ولله الحمد.
صباي البعيد.
أحنُّ إليه لألعابه
لأوقاته الحلوة السامرة.
حنين غريب..
إلى صحبتي
إلى إخوتي..
إلى حفنة الأشقياء ينامون ظهراً على المصطبة
وقد يحلمون بقصر مشيد..
وباب حديد..
ومائدة فوقها ألف صحن
دجاج وبط وخبز كثير..
 
ونحن أسرة فقيرة بائسة، حملها طغيان المستعمر الأوروبي على ترك وطنها الأصلي في أفريقيا، والهجرة إلى مكة، فراراً بدينها والتجاءاً إلى حرم الله الآمن.
لا أعلم على وجه التحديد، أي أقاليم أفريقيا هو موطني الأول، فقد كانت أسرتي كلها أمية، أو شبه أمية، إلا بعضاً من أي القرآن الكريم التي تمكن المسلم من أداء واجباته الدينية، وإن كنت أظن ظناً يقرب من اليقين، أننا من مالي أو النيجر، حيث يكثر الفولان (الفلانة) وهم قبيلتي. فقد كان مبلغ علم كبار أسرتي، عندما أسألهم عن وطننا الأول، أن يقولوا: إنهم جاءوا من الغرب من وراء البحار، وقصة هجرة عشيرتي من القصص التي تستحق التسجيل، لما اكتنفها من مصاعب وأهوال وشدائد ومفاجآت، استغرقت سنين طوالاً، مات خلالها الكثير وولد الكثير، وتخلّف من لم يستطع مواصلة الرحلة المقدسة، لذلك لا زال بعض عشيرتي في السودان، منهم أبناء عمي، ويدعى سنوس بن حامد، تصلنا نتفاً من أخبارهم من آن لآخر، مع الحجاج القادمين من السودان، وما أكثر ما أضاع الجهل من حوادث في تاريخ الإنسانية، جديرة بالتسجيل، ورحلة عشيرتي إلى مكة، واحدة من تلك الحوادث التي تبحث عن مؤرخ.
وقد علمت أن عشيرتي قدمت إلى مكة في حوالي سنة 1882م، وانخرط بعض أفرادها في جيش الأشراف النظامي، وعمل الأكثرون أجراء في بيوت الأعيان بمكة المكرمة، وكان أول مكان أُنزلوا به عند دخولهم مكة، هو محلة المسفلة، في أسفل مكة وإلى كُدي ثم نقلتهم الجهات المسؤولة إلى حيث هم الآن في حي الطندباوي (حارة الفلاته).
استطاع والدي خالد بن حامد بن موسى فلاته رحمة الله عليه، أن يلتحق بإحدى بيوتات مكة، وهو بيت المرحومي الواقع في حارة سوق الليل أمام قهوة المريعاني، كصبي أولاً، حيث استطاع أن يتقن عمل السباكة، مما يتصل بصبِّ الأمهار ومقابض الأبواب والهوندات، وما إلى ذلك من فن السباكة.
وقد ولدت ورأيت الوالد رحمه الله يعمل في ورشة تقع بسوق المعلا مع رجل يدعى العم يحيى أبو شال، وكان أن أتقن الصنعة وبرع فيها، واستغل غريفة في منزلنا وحوَّلها إلى ورشة يعمل فيها لحسابه الخاص، وكان أكثر ما يسبكه في تلك الورشة هي الأمهار بأحجامها المختلفة، وكان يبيعها لرجل يدعى لقمان كانت له دكانة صغيرة على يسار الداخل إلى الحرم من باب الزيادة، وأذكر أن هذه الأمهار كانت تدر علينا ربحاً مادياً طيباً، وكنا موضع حسد أترابنا الفقراء في حارة الفلاته. وكان والدي رحمة الله عليه يصطحبني معه دائماً إلى الورشة العامة في سوق المعلا، كما كان يكلفني ببعض الأعمال الصغيرة في ورشته في المنزل، كبرد الأمهار أو نفخ الكير مثلاً، وكان حريصاً على أن يعلمني الصنعة (صنعة أبوك لا يغلبوك) بينما كان أخي الأكبر محمد رعاه الله، شموساً جموحاً، يفضل أن يلعب وأن يعمل مستقلاً عن الوالد، وقد عشق مهنة البناء منذ صباه الباكر وبرع فيها وهو اليوم بناء ماهر.
لم أكد أصل إلى السن التي يألف فيها الأطفال ذويهم، ويتعلقون بهم، ويتخذونهم المثل الأعلى لهم في الحياة، حتى مرض والدي مرضاً لا أدري كم لزمه، ولم أعرف كنه ذلك المرض، ولكن الذي أدريه وأذكره، هو أنه طُلب إلينا ذات يوم نحن الأطفال أن ننتقل إلى رعاية جدي لأمي، وأن نقيم عنده، بينما تقوم أمي بدور الممرضة لأبي الذي اشتد عليه المرض.
وذات يوم ساقني فضول طفولي إلى منزلنا حيث وجدت عمتي (فاطمة) وهي تسجي أبي وتنشج بالبكاء، ولم أكن أعرف معنى الموت يومذاك، وأنَّى لوجدان طفل في الثامنة أن يدرك معنى الموت؟. ولقد كانت وفاة والدي سنة 1362هـ.
 
موت وخراب ديار:
صادف موت أبي نشوب الحرب العالمية الثانية سنة 1939م وتأزم الموقف العالمي، فقفلت البحار، وذلك يعني لسكان الحجاز انقطاع مورد هامٍ من موارد رزقهم، فالحجاز منذ القدم بلد غير ذي زرع ولا ضرع. وانقطاع السفن عن حمل الأرزاق إلى موانئه، يعني مجاعة أكيدة وارتفاعاً في الأسعار، ولكن حكومة جلالة المغفور له، الملك عبد العزيز طيَّب الله ثراه، تولت تأمين الغذاء للناس، فقامت الدولة بتوزيع الطحين والسكر والخبز على جميع الأسر المحتاجة عن طريق بطاقات تموين رسمية، فكنت أذهب إلى "المبسط" ومعي البطاقة التموينية لأخذ الدقيق والسكرَ الأحمر، ثم أذهب صباحاً إلى فرن العم أحمد الجداوي رحمه الله لأخذ المقرر من الخبز لأفراد أسرتي.
ولم يمض على وفاة الوالد غير بعض العام، حتى مرضت الوالدة رحمة الله عليها، وكنت أثناء مرضها أعمل صبياً في زقاق الوزير بمكة مع أحد النحاسين، تحت بيت الباروم، وكان يكلفني للتبييض النحاس، وقد جاءته ذات يوم جفان كبيرة فطلب مني إعدادها للتبييض، وكان عملي الدخول إلى الجفنة والدوران بداخلها دورات بهلوانية، والحصى تحت قدمي، حتى ينظف القاع قبل تبيضه، وقد أرعبتني تلك الجفان، فهربت من عند المعلم ولم أعد إليه ثانية.
وأذكر أني عدت إلى المنزل، منزل جدي ذات مساء وقد حملت معي شيئاً من الحلوى والشريك لأمي، ولكن اكتشفت - ويا لهول ما اكتشفت - لقد ماتت أمي منذ أيام، ولم يخبرني أحد بذلك، ولقد أسلمتني الصدمة إلى الضياع في تلك السن المبكرة، أحقاً صرت يتيم الأبوين؟. وصمَّمت على الإنتقام من أهلي الذين أهملوني ولم يخبروني بموت أمي العزيزة. وقد استعملت ضدهم سلاحاً بتاراً - سامحني الله على ذلك التصرف الصبياني - فقد سرقت بطاقة التموين من جيب جدي العجوز وهربت من المنزل، هائماً على وجهي، أبيت في الحرم الشريف وأقضي سحابة نهاري متجولاً في حواري مكة وأزقتها وتكاياها، فإذا جاء الصباح ذهبت مبكراً إلى فرن العم (أحمد جداوي) واستلمت الأرغفة المسجلة على البطاقة وبعتها جميعاً في سوق العياشين: وأبقيت رغيفاً واحداً لإفطاري، أمّا غدائي فكان متروكاً للصدف.
كانت الطفولة والحنين إلى إخوتي الصغار الأيتام (سعاد وخديجة وأمينة) يدفعانني للعودة إلى بيت جدي، لرؤية إخوتي اليتامى إختلاساً. وكثيراً ما كنت أقع في قبضة جدي خلال هذه الزيارت، فكان يربطني إلى أصل شجرة نيم عتيقة في دارنا، ويوسعني ضرباً بجريد النخل. وبين الضرب والنصح مرت بي سنتان مريرتان توازعهما اليتم والتشرد والضياع.
 
في دار الأيتام:
كان جدي لأمي الشيخ أبو بكر سمبودودو رحمه الله، يتألم لوضعنا، إخوتي وأنا، ويرى ما نعانيه في تلك السن الصغيرة من اليتم والحرمان والفاقه، في سن أشد ما يكون الأطفال فيها حاجة إلى حنان الأمومة وشفقة الأبوة، وكان دخله الضئيل المتواضع، لا يمكنه من توفير رغباتنا الكثيرة، وأذكر أنه كان يخيط لنا الثياب من أسماله البالية بعد أن يستغني عنها ويؤثرنا بها على نفسه، بل كان أكثر من ذلك، كان لا يملك نقوداً تزيَّن بها رؤوسنا في الأعياد، فكان يتولى حلاقة رؤوسنا بنفسه، فكان رحمه الله أباً وأماً ومعلماً وطبيباً وحلاقاً أيضاً، يجرجر مشاكل تربيتنا إلى جانب شيخوخته العالية.
فكرَّ جدي لأمي في إدخالنا دار الأيتام أخي محمد وأنا، فذهب إلى عمدة سوق الليل الشيخ صالح المرحومي رحمه الله، وطلب منه العون في إلحاقنا بالدار ورحبَّ الشيخ صالح رحمه الله بالفكرة، فقد كان والدي يعمل صبياً في ورشة أخيه الأكبر الشيخ عمر المرحومي، كان أخي محمد في الطائف مع معلم من البنائين يدعى (الخضرمي) فسألني جدي رحمه الله: ها ما رأيك في دار الأيتام؟ هل ترغب الإلتحاق بها؟ فقبلت الإنتساب إلى الدار فراراً من واقعي الأليم.
التحقت بدار الأيتام سنة 1364هـ. وتقع دار الأيتام، في حارة أجياد بمكة وحيث أني كنت قد ترددت على كثير من المدارس والكتاتيب، مثل كتَّاب مسجد الشيخ محمد سرور الصبان خلف قصره في جرول، حيث درست على يد الشيخ أحمد اليماني، الذي كان يدرسنا القرآن الكريم لوجه الله، وإن كان يكلفنا القيام ببعض الأعمال في بيته كطحن البن وجرش الحنطة - لوجه الله أيضاً - وكالمدرسة الخالدية في ريع الرسام، حيث درست أياماً قليلة ثم هربت منها. كما قرأت بعض السور القصار (على يد السيدة الصالحة زوج العم طه باماقوس المرحومي، لكل هذه السوابق العلمية، فقد نقلت إلى السنة الثانية الابتدائية بدار الأيتام ولم أقض بالسنة الأولى سوى أسابيع محدودة. وكان رقمي في دار الأيتام هو رقم (132) وهو رقم سوف يلازمني طوال السنين الست التي قضيتها في الدار، لأن النظام العسكري المتبع في الدار يعرف الأيتام، بأرقامهم أكثر من أسمائهم.
 
الحياة في دار الأيتام:
أذكر أن أول شيء استُقبلت به في الدار، كان حلاقة شعر رأسي المفلفل الكث، وإلباسي ثوباً جديداً ناصعاً يحمل الرقم (132) والزي في الدار موحداً لكل الأيتام.
سلمني أحد المسؤولين في الدار إلى رئيس النقابة - وهو عادة من التلاميذ الكبار، الذين يكونون في السنوات النهائية، وقام رئيس النقابة بدوره بتسليمي لنقيب الصف الأول الابتدائي، الذي سلمني بدوره لعريف الفرقة الأولى الابتدائية.
كان تلاميذ كل سنة، يقسمون إلى مجموعات، يرأس كل مجموعة عريف، ويكون العريف مسؤولاً عن النظام في الفصل أمام النقيب، والنقيب مسؤولا أمام رئيس النقباء الذي يتصل مباشرة بمدير الدار لإطلاعه على سير النظام في الدار مساء كل يوم. كان مدير دار الأيتام عندما التحقت بها المرحوم الشيخ عبد القادر أبو الخير من كبار موظفي مديرية الأمن العام الواقعة في عمارة الحميدية التي كانت قائمة أمام المسجد الحرام في الجهة الجنوبية مما يلي أجياد.
 
صفة دار الأيتام:
مبنى دار الأيتام مبنى فخم ضخم، ذو ثلاث طوابق، تقع إلى جنوبه الثكنة العسكرية، وفي شرقه مبنى وزارة المالية العتيد، وربما كانت دار الأيتام من أفخم المباني بمكة في ذلك العهد، وفي مدخل الدار لوحة كبيرة خضراء اللون، مثبتةً في أصل الجدار، عليها شعار المملكة العربية السعودية، السيفان والنخلة، وتحتهما عبارة (دار الأيتام تأسست سنة 1355هـ) ويلي ذلك حديث طويل عن افتتاحها ويحيط بالدار من الجهة الشرقية سياج حديدي أخضر اللون يزين مدخل الدار.
 
خصص الدور الأول في الدار لمكاتب الإدارة والمستودع والمطعم وصالات النشاط اللاصفي كالحياكة والنجارة وصناعة الكراسي الخيزران، كما خصص الدور الثاني للفصول الدراسية، وإدارة النقابة المسؤولة عن سير النظام في الدار، ويتكون مجلس النقابة من النقباء الستة ورئيس النقباء، ويوجد في الدور الثاني أيضاً صالة إستقبال كبار الضيوف الذين يزورون الدار في مختلف المناسبات.
 
وخصص الدور الثالث لصغار التلاميذ بالسنة الأولى. كما توجد به المضاجع التي يأوي إليها التلاميذ بالليل، وهما مضجعان: المضجع الطويل وهو خاص بكبار التلاميذ من السنوات الثالثة إلى السادسة وهو يتسع لأكثر من ستين سريراً، والمضجع المربع وهو خاص بصغار التلاميذ.
 
وكان يتولى حراسة الطلاب ليلاً رجل مغربي اسمه الحاج (منصور) يعاونه بعض التلاميذ من الفصول المتقدمة، وكانت نوبة التلميذ لا تتجاوز ساعة واحدة فإذا انقضت الساعة سلَّم النوبة لمن يليه بموجب جدول معدٍ سلفاً.
 
وعندما بلغت السن التي تسمح لي بالمساهمة في هذه النوبات الليلية، كان الحاج (منصور) يأتي إلى فراشي، ويضرب قوائم السرير بطرف جريدة كان يعلق بها (الأتاريك) وينادي أحمد أحمد فز - فز، فأفز لتسلم نوبتي الليلية.
 
النظام الصحي:
كان يتبع في الدار نظام صحي صارم لا هوادة فيه، فكان على جميع التلاميذ أن يحلقوا رؤوسهم كل أسبوع، وأن يقلموا أظافرهم، وأن يستاكوا كل صباح، ويكشف عليهم طبيب مديرية الصحة كل أسبوع كشفاً تاماً، ولابد أن يمارسوا الألعاب الرياضية كل صباح قبل الفطور، وأذكر أن إحدى غرف الدار كانت مخصصة للمرضى يحجزون فيها ريثما تتم إجراءات نقلهم إلى المستشفى المركزي بأجياد.
 
والويل للتلميذ الذي يتهاون في تنظيف أسنانه، أو تقليمِ أظافره، فكان أدنى عقاب ينزل به، أن يوضع في (الفلكة) ويشبع ضرباً، وأعلاه أن يُرمى به في قاع القبو المظلم، وكان العرفاء مكلفين بالتأكد من نظافة دورات المياه، بعد كل نوبة يفرغ فيها الأيتام من الوضوء والخلاء، كما كان لا بد أن يشرفوا على هيئة التلاميذ أيام الأخمسة، قبل خروجهم لزيارة ذويهم، فلا بد أن يكون الحذاء لامعاً، والبدلة مكوية، والأزارير سليمة، لا مقطوعة ولا مدلوعة.
النظام الدراسي في الدار:
يبدأ اليوم الدراسي في الدار مع أذان الفجر، حيث يستيقظ كبار التلاميذ ويستعدون لأداء الصلاة مع الإمام الراتب في سطح الدار صيفاً، وفي إحدى الممرات شتاءاً. ولا يكاد كبار التلاميذ يفرغون من صلاة الفجر حتى يكون الصغار قد استيقظوا وتهيأوا لمزاولة النشاط الرياضي الصباحي، فينزل الجميع إلى الساحة الواقعة أمام الدار، ويقومون ببعض الحركات السويدية، بعد أن يقرأوا نشيد الصباح، ولا يكادون ينتهون من التمارين الرياضية حتى ينصرفوا استعداداً لتناول وجبة الفطور، التي كانت تخضع للظروف، وكان الطعام جيداً ولكنه كان قليلاً، فهو لا يزيد عن الحليب والشاي يوماً والفول المدمس يوماً آخر، والعدس في يوم ثالث وعيش الصدقة دائماً، فميزانية الدار القائمة على حسنات المحسنين ومعونات الدولة، لا تستطيع تقديم أكثر من ذلك ولم نكن نحن الأيتام نطمع في أكثر من ذلك.
فإذا فرغ الفطور في حوالي الواحدة والنصف صباحاً بالتوقيت العربي. فهي الدراسة تبدأ من الثانية صباحاً وتنتهي في السابعة ظهراً.
والمنهج الدراسي في الدار هو نفس المنهج السائد في جميع المراحل الابتدائية كما قررته مديرية المعارف العامة. ومواد الدراسة عبارة عن التوحيد، والفقه، والقرآن، والحديث، والتاريخ، والمطالعة، والإملاء والإنشاء والقواعد والحساب والهندسة، وشيئاً من العلوم، تزيد جرعات المواد كلما انتقل التلميذ إلى فصل دراسي أعلى.
وكان جمهرة مدرسينا في الدار من المجاورين في البلد الحرام، من جاويين ومغاربة ومصريين وهنود، وأكثرهم الجاويون أذكر منهم الشيخ محمد زبير والشيخ عرفة والشيخ الفلمبان، وكان يقوم بالإشراف علينا إلى جانب من ذكرت من الأساتذة مجموعة من المراقبين السعوديين، كالشيخ عبد العزيز مالكي، والشيخ حسين منشي والشيخ عبد الرحمن تاج الدين بخاري وكان هذا الأخير رحمه الله شديداً غليظاً علينا يضربنا على السهوة والهفوة رحمه الله رحمة واسعة وغفر له.
عندما تنتهي الدراسة عند الظهر كنا نتهيأ للغداء الذي كان كصنوه الفطور، يخضع للظروف المالية، فإن كان الصندوق عامراً ظفرنا بوجبة طيبة دسمة، وإلاَّ حمدنا الله على الموجود، وأشهد أنا كنا في كل الأحوال من الشاكرين، فنحن نتمتع في الدار بعيش كريم دائماً.
 
أما القيلولة فلم نكن نعرفها. وهل يقيل الأطفال؟ كنا نتجمع بعد الغداء في الحجُر المخصصة لكل فرقة، وكان عريف الفصل يطلب ممن لديه حكاية أن يرفع أصبعه، ثم يبدأ في قصّ ما لديه، ثم يليه آخر وثالث ونظل في ضحك وهرجٍ ومرجٍ وعبث صبياني إلى أن تحين صلاة العصر، فنؤديها جماعة، يؤمنا عريف الفصل دائماً، وما إن تنتهي صلاة العصر حتى يبدأ برنامج المذاكرة الذي يمتد من العصر حتى الغروب.
وأُشهد الله أني إلى يومي هذا وأنا استاذ بالجامعة أحنُّ إلى تلك الساعات المباركات التي كنت أقضيها في المذاكرة وأنا صبي، فها أنا اليوم لا أستطيع الإفادة من هذه الساعات بين العصر والمغرب كما كنت أفعل في صباي، فقد حالت القيلولة - التي أصبحت من ضرورات حياتي - بيني وبين أن أستغل تلك الساعات، ويعجبني قول أحد الكتَّاب: "إن أعمارنا تفنى في محاولات عقيمة - وإن تكن مخلصة للتعلم - حتى إذا انتهينا إلى الطريقة واهتدينا إلى المنهاج وجدنا الشباب قد ولَّى".
 
وما إن يرتفع صوت المؤذن منادياً لصلاة المغرب، حتى نغادر مقاعدنا لأداء الصلاة جماعة، ثم ننتظم في صفوف ونخرج إلى ساحة خلف الدار في سفح الجبل الذي تقع في أعلاه قلعة أجياد. وهناك يُسمح لنا بالقفز والنطِّ والتسلية البريئة تحت إشراف العرفاء والنقباء والمراقبين الليليين الذين كانوا يتناولون الشاي في هدوء ووقار. وكان كبار التلاميذ يستعرضون عضلاتهم أمامنا نحن الصغار الذين كنا نحسدهم ونرجوا أن نبلغ مبلغهم من القوة ذات يوم. فقد كان كبار التلاميذ يتبارون في شدِّ الحبل ورفع الأثقال، ونظل في تلك الفسحة الجميلة المحببة إلى أن تحين صلاة العشاء، فندلف إلى الدار لأداء الصلاة وتناول العشاء ثم الإيواء إلى مضاجعنا.
 
نظام الإجازات الدراسية في الدار:
منذ أن يلتحق اليتيم بالدار، لا يسمح له بمغادرتها إلاَّ مساء الخميس من كل أسبوع، ليزور أهله وأقاربه بمكة ثم يعود إلى الدار صباح السبت، وإذا كان مقطوعاً لا أهل له ولا أقارب بمكة، ظل في الدار إلى آخر مراحله الدراسية. وكان أولئك الأيتام البؤساء، يقضون أيام الجمع في الدار، ويُسمح لهم بالخروج لأداء صلاة الجمعة في المسجد الحرام، والتجول في اسواق مكة ثم يعودون إلى الدار.
وكان لنا إلى جانب الإجازات الأسبوعية، إجازتان هما عيد الفطر وعيد الأضحى حيث كان يسمح للأيتام بقضاء تلك الإجازات مع أهليهم.
 
إلى جانب تلك الإجازتين، كانت لنا إجازة في بداية الرييع، كنا نذهب فيها إلى (منى) وننزل في السبيل المصري بمنى، ونمضي نهاراً لا يُنسى من اللهو والعبث الطفولي البريء. وكانت قبضة العرفاء والنقباء تخف عنا في ذلك اليوم. وكان يوماً مشهوداً يستعد له الأيتام قبل أسابيع فيشترون النُقل والحلوى، ويدفع صندوق الدار نقوداً لفقراء الأيتام لشراء ما يحتاجونه في ذلك اليوم حتى لا تنكسر نفوسهم الغضة الصغيرة.
النظام المالي بدار الأيتام:
كان دخل الدار يأتي أساساً من إعانات الدولة ولكنها كانت على ما يبدو متواضعة، لأني كنت أرى الدار تلجأ في مواسم الحج إلى دعوة كبار الحجاج إلى الدار وتغريهم بالتبرع للأيتام، وأذكر أن أحد المراقبين في الدار كانت مهمته الإتصال بالمطوفين في مكة لمساعدة الدار. ولقد أدركت الجهات المسؤولة في الدولة أن قيام مؤسسة اجتماعية لرعاية الأيتام، كالدار لا يمكن أن تحيا عبر حسنات المحسنين فضمت الدار إلى إدارة الضمان الاجتماعي بوزارة العمل والشؤون الإجتماعية، وخيراً فعلت، فقد أغنت الأيتام عن المسألة.
 
نظام التخرج:
عندما يُنهي اليتيم - الذي لم يعد يتيماً بعدُ - مرحلة الدراسة الإبتدائية في الدار، يُقام حفل بهيج في مديرية الأمن العام بالحميدية حيث تسلم الشهادات للخريجين. وكان يحضر حفل التخرج مدير الدار والأساتذة والمراقبون. وكان حفلاً يفطر القلب - قلبي أنا على الأقل - فلم يكن من السهل أن يفارق الإنسان هؤلاء المربين الأجلاء، الذين أشرفوا على تربيتنا وتعليمنا طوال ست سنوات، فقد كنا ننظر إليهم نظرة ملؤها الحب والإكبار والامتنان والعرفان، فقد كانوا بالنسبة لنا مصدر عطف وحنان ورعاية، كنا في أشد الحاجة إليها، وليس كاليتيم من يدرك هذه العواطف. وكنا عاجزين عن أن نعبّر لهم عما تكنه جوانحنا لهم من حب وتقدير، وهل يملك اليتيم إلا الدموع؟
وكان مدير الأمن العام، يودعنا بكلمة حارة صادقة يوصينا فيها بتقوى الله، والإخلاص للمليك والوطن ويرجو لنا حياةً مليئةً بالتوفيق والنجاح. لقد دفعتنا الدار إلى الحياة وقد زودتنا بزاد العلم وأنعم به من زاد.
عندما تخرجت من دار الأيتام في شهر محرم سنة 1370هـ كنا سبعة من الشباب هم: حسن بخاري، ناصر بن فراج القحطاني، راشد التركي، محمد صالح وزَّان صالح صائغ، أمين رمضاني. وأنا. وقد انخرط الجميع في الوظائف الحكومية عسكرية ومدنية، وكلهم اليوم موظف ناجح وأب مثالي.
أما أنا فقد وفقني الله لإكمال دراستي، فالتحقت بالمعهد العلمي السعودي بحارة القشاشية. وكان المعهد العلمي السعودي ومدرسة تحضير البعثات يحتلان عمارتين متجاورتين أمام عمارة باناجة بجوار المسعى القديم.
 
ذكريات المعهد العلمي السعودي والقسم الداخلي بجبل هندي
في صبيحة يوم من الأيام، لا أذكر أي أيام الأسبوع هو، ولكني أذكر العام جيداً وهو سنة 1370هـ. وجدتني أسير مع جندي من جنود الأمن العام، أمسكني بيد وأمسك بالأخرى دفتراً من دفاتر إيداع المعاملات، وكنا في طريقنا من مبنى الحميدية إلى المعهد العلمي السعودي. كان مدير المعهد يومذاك أستاذي الجليل المربي الكبير وخطاط مديرية المعارف الشيخ محمد حلمي، وأذكر أن الجندي ضرب الأرض بقدميه ضربةً شديدة، وأدى التحية العسكرية المعهودة للمدير، ثم سلمه أوراقي الدراسية وسلمني أيضاً لإدارة المعهد، وكان ذلك آخر عهدي بالنظام العسكري الدقيق الذي عشته طوال دراستي الإبتدائية بدار الأيتام، طلبت من المدير تسجيلي طالباً داخلياً. فقبل طلبي وصعدت إلى القلعة (قلعة جبل هندي) حيث القسم الداخلي.
 
الدراسة في المعهد العلمي السعودي:
النظام الدراسي في المعهد العلمي السعودي نظام فذ وفريد وعملي في نفس الوقت، فكان الأساس في ذلك المنهاج أن يدرس الطالب المواد الدينية، كالقرآن والتفسير والحديث والتوحيد والفقه والفرائض، إلى جانب المواد الإجتماعية كالتاريخ والجغرافيا، والمواد الرياضية كالحساب والهندسة إلى جانب المواد الأدبية كالأدب العربي في مختلف عصوره، وتاريخ الأدب العربي، والخط أي نعم الخط، هذه المادة التي يحسبها الطلاب اليوم غير ذات خطر، وكان نتيجة انصراف بعض الطلاب عن تجويد الخطوط أن أصبحت خطوط طلاب الجامعة نوعاً من الطلاسم دونها هيروغليفية الفراعنة ومسمارية السومريين، وهكذا كان المنهج الدراسي المتبع في المعهد العلمي السعودي يجمع علوم الدين والدنيا وما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا كما يقول الشاعر (2) ..
كان جمهرة المدرسين بالمعهد العلمي السعودي يوم التحقت به، من الأساتذة المصريين الكرام وبعض المواطنين، أذكر من أساتذتي السعوديين بالمعهد رحمة الله عليهم وأطال عمر الباقين الشيخ علي هندي، والشيخ عبد الرحمن الصباغ والشيخ عبد الحميد الجمادي، والشيخ إبراهيم فطاني، والشيخ إبراهيم علاَّف، والشيخ عبد الله أحرار الذي كان يدرسنا مادة الخطابة. والأستاذ عبد الله بوقس، والأستاذ جميل أبو سليمان رحمه الله، والمرحوم الأستاذ محمد فدا. كما كان الأساتذة محمد باوجيه، وحسن زمزمي، وسعيد بوقري وجميل خوقير يقومون بالمراقبة علينا، وإن أنسَ، لا أنسى خيزرانة المرحوم محمد باوجيه الطويلة التي كان يهزها هزة واحدة فيسود النظام في المعهد.
 
كانت لنا نشاطات ثقافية في المعهد العلمي السعودي تتمثل في المسامرات الأدبية التي كنا نعقدها في أماسي الأخمسة، وكان يشاركنا في تلك المسامرات طلاب مدرسة تحضير البعثات، فكانوا يقومون بالقاء المحاضرات العلمية بينما كان طلاب المعهد العلمي السعودي، يتولون الجانب الأدبي والاجتماعي. وأذكر أني ألقيت محاضرةً بعنوان "ثوان مع هنري ديكارت" في إحدى المسامرات وكانت تلك المحاضرة الجريئة، عن فيلسوف فرنسي نابه، سبباً في أن طلب مني المرحوم الشاعر طاهر عبد الرحمن زمخشري، أن التحق بالإذاعة السعودية في القلعة. ويعلم الله أن مستوى طلاب المعهد والبعثات الثقافي يومذاك، يفوق مستوى بعض طلاب جامعاتنا اليوم، فقد كانت حياتنا (لبه وكتاب) كما يقولون.
سار تحصلي العلمي في المعهد، رتيباً متشابهاً لا جديد فيه يستحق الوقوف عنده، سوى حادثة واحدة كانت أليمةً بالنسبة لي، ولكن لا راد لقضاء الله ففي سنة 1373هـ انتقل جدي لأمي الشيخ أبو بكر سمبودودو إلى رحمة الله، وكان جدي عائلنا الوحيد منذ توفي والدي خالد رحمة الله عليه، كان جدي في حدود السبعين وقد فاضت روحه الطاهرة - إن شاء الله - أمام عيني، وكانت تلك أول مرة أرى فيها محتضِراً بأم عيني. فقد أستأذنت من المسؤولين في القسم الداخلي قبل موته بأيام للحصول على إجازة قصيرة لأكون بجانب جدي المحتضر، فذهبت إلى منزلنا لأكون بجانبه، وبعد سبعة أيام في ضحى يوم من أيام شهر ربيع الأول سنة 1373هـ فاضت روح جدي إلى بارئها أسكنه الله فسيح جناته. وبعد انقضاء أيام العزاء، عدت إلى القسم الداخلي لأتابع دراستي وحياتي الروتينية العادية.
 
الحياة في القسم الداخلي:
خُصصِّ القسم الداخلي لإيواء الغرباء والفقراء من طلبة العلم في المعهد العلمي السعودي وتحضير البعثات، ويقع القسم الداخلي في قلعة جبل هندي (جبل قعيقعان) وهي من بقايا القِلاع التركية القديمة في مكة، بل تعتبر هذه القلعة وأختاها قلعتا أجياد والقشلة في جرول من أهم قلاع الأتراك بمكة، وهي بناء مستطيل الشكل يمتد من الشرق إلى الغرب، وله بوابة حديدية فخمة توحي بقوة العثمانيين يوم كان لهم الحول والطول، فسبحان من لا يحول ولا يزول - والقلعة مكونة من دورين، وكانت مقر مدرستي المعهد العلمي السعودي وتحضير البعثات قبل أن تتحول إلى سكن داخلي، ويقع إلى شرقي القلعة محطة الإذاعة السعودية بهوائيها الضخم الشاهق الذي يشاهده الناس أينما كانوا في مكة. وأرضية القلعة في الدور الأول حجرية، أما الدور الثاني فأرضيته خشبية ولا أدري تفسيراً لذلك. إلاَّ أنها كانت وسيلة من وسائل الإزعاج عندما يسير عليها الطلاب أو يلعبون كرة القدم في الأمسيات، وكانت حُجر القلعة، واسعة فسيحة، لذلك كان المسؤولون يضطرون لإسكان أعداد كبيرة من الطلاب في الحجرة الواحدة، وغالباً ما كانت مجموعات الطلاب متجانسة، فهذه غرفة للطلاب المدنيين (القادمين من المدينة المنورة) وتلك للطلاب القادمين من المنطقة الوسطى، وثالثة للطلاب الأندونيسين من طلاب المنح، ورابعة للطلاب الصوماليين وهكذا. أما غرفتي بالقسم فكان يزاملني فيها الإخوة حسن علي عبد الهادي (وهو اليوم من كبار ضباط الأمن العام). وعبد اللطيف حامد السريحي، وعمَّار ابراهيم، وحسن باهبري، وعبد الكريم الخراشي.
وكانت تقدم لنا كل الوجبات الغذائية في القسم الداخلي، إلاَّ أنها كانت تختلف عن تلك الوجبات التي ألفتها في دار الأيتام، لا من حيث المحتوى فحسب، بل من حيث النظام العسكري الدقيق الذي كان يسود في الدار والذي لم أجد له أثراً في القسم الداخلي بالقلعة، فقد كانت الوجبات في دار الأيتام تقدم لنا في نظام وترتيب صارمين. وأذكر أني كنت أتناول طعامي في الدار في مكان معين وعلى كرسي محدد طوال السنوات الست التي قضيتها في الدار. بينما الأمر في القسم الداخلي يخضع للفوضى، (وكلٌ ذراعه له) كما يقول غوار الطوشة (3) . فالمراقبون هنا في القلعة كانوا أضعف من أن يسيطروا على الطلاب، فقد كان بعض الأشقياء يهاجم المشرفين على حفل الطعام، ويخطفون منهم الفواكه والحلوى، وبذلك يفوزون بأكبر قسط من الطيبات، بينما كان البعض لا يحصل على أي شيء.
كان القسم الداخلي يقفل أبوابه خلال أشهر الصيف، فكان التلاميذ يسافرون إلى ذويهم وكنت أعود إلى حارتي (حارة الفلاته) بحي الطندباوي لأعيش في كنف أخي محمد، الذي كان قد تزَّوج وأصبح رب أسرة. وكنت أزاول خلال الصيف بعض الأعمال البسيطة المتيسرة لأمثالي. فقد عملت ذات صيف في الإذاعة السعودية في جبل هندي، حيث زاملت الأساتذة عباس فايق غزاوي، والمرحوم بكر بوقس والمرحوم الشاعر طاهر زمخشري. وخميس سويدان، والدكتور فايز شعبان عنان، وكان يدير الإذاعة الأستاذ المرحوم حامد دمنهوري.
 
وقصة عملي في الإذاعة من الذكريات الطريفة التي لا بد من سردها. فقد كان المرحوم طاهر زمخشري، يتابع نشاط الشباب السعودي بمكة ويشجعهم على الإنتاج الأدبي بكل صوره ويأخذ بيدهم، وكنت قد ألقيت محاضرة في المسامرات الأدبية بعنوان: "ثوانٍ مع الفيلسوف هنري ديكارت" وبعد انتهاء المسامرة طلب الأستاذ طاهر زمخشري مقابلتي. وهنأَّني في رقة شديدة لا أنساها ما حييت، وسألني عمَّا إذا كنت على إستعداد للعمل في الإذاعة السعودية؟ فقد كانوا يبحثون عن اصوات إذاعية مناسبة للإذاعة الوليدة. فقبلت العرض شاكراً، وقد أحسست بشيء من الغرور الخفي لهذ العرض غير المتوقع، وما هي إلاَّ أيام حتى طلبني الأستاذ المرحوم حامد دمنهوري المشرف على الإذاعة في مكتبه لإجراء مقابلة شخصية. وبعد المقابلة أرسلني إلى المرحوم بكر بوقس لإجراء الامتحان اللازم، لمعرفة مدى صلاحية صوتي للإلقاء الإذاعي، ومدى قدرتي على الإشتراك في البث المباشر (الحي)، وقد نجحت - ولله الحمد - في الإمتحان وعينت مذيعاً وكان ذلك سنة 1374هـ. وكانت سيارة الإذاعة (البوكس) تمرّ كل صباح على منزل المرحوم بكر بوقس في الطندباوي، ثم على منزل أخي محمد لاصطحابي إلى قلعة جبل هندي حيث مقر الإذاعة.
من المواقف الطريفة، التي تعرَّضت لها أثناء عملي في الإذاعة، هو أني ذات صباح كنت مكلفاً بإفتتاح الإذاعة الصباحية - أول عهدي بالإذاعة - فأصبت بلخمة - فبدلاً من أن أقول أيها السادة نفتتح الإرسال بتلاوة آي من الذكر الحكيم. قلت: أيها السادة نفتتح الإرسال بفاصل موسيقي، فأضطر المهندس المسؤل لإيقاف الإرسال وإعطائي فرصة إصلاح الخطأ، وبعد دقائق كان المرحوم حامد دمنهوري في مبنى الإذاعة، ليرى هذا المذيع الغشيم، وأعطاني درساً في التأني والحذر لن أنساه ما حييت.
من الأعمال التي زاولتها خلال دراستي بالمعهد العلمي السعودي أني التحقت بخدمة بعض المطوفين بمكة، وكان عملي يتلخص في تطويف الحجاج والسعي بهم بين الصفا والمروة، واستقبالهم حين قدومهم إلى مكة في مقر النقابة في البيبان، وتوديعهم بعد إنتهاء الحج، وقد عملت مع المطوف عمر عبّاس فقيها بمحلة حارة الباب، ومع المطوف عبد المعطي عبد الماجد بباب القطبي، كما عملت في مدينة جدة مع أحد الوكلاء واسمه سراج بدوي، وكان شخصاً شرهاً مماطلاً مراوغاً. وأذكر أن لي عنده إلى اليوم بعض الريالات مقابل خدمتي لم يدفعها لي رغم مراجعاتي وتوسلاتي الكثيرة إليه - سامحه الله -.
كانت تلك الأعمال الموسمية، تدر علي بعض المال كنت أنفق منه خلال سني دراستي، في شراء الصحف والمجلات وبعض الكتب من مكتبة الثقافة بباب السلام الصغير بمكة. فقد كانت مكتبة الثقافة هي النافذة الثقافية التي كنا نطل منها على الثقافة الخارجية. وقد قصّ علينا الأستاذ الفاضل والباحث الطلُعة الأديب الكبير المرحوم عبد العزيز أحمد الرفاعي تاريخ مكتبات باب السلام في بحث ممتع بعنوان "رحلتي مع المكتبات" مكتبات مكة المكرمة. من سلسلته (من دفاتري) ونشرته دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع بالرياض (الطبعة الأولى سنة 1413هـ).
 
(( الرحلة إلى مصر ))
في عام 1375هـ الموافق 1955م أنهيت المرحلة الثانوية في المعهد العلمي السعودي، وكنت خلال دراستي في المعهد أحضر دروس سيدي وشيخي المرحوم حسن محمد المشاط رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وكان سيدي الشيخ حسن يولينا: الأخ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان وأنا عنايةً خاصةً، فقد رأى منا إقبالاً على دروسه وإكباباً على الإنتفاع بعلمه وفضله، وكانت حلقة الشيخ المشاط تعقد، في حصوة باب السلام وتبدأ قبيل صلاة المغرب وتنتهي بعد صلاة العشاء.
كانت دروس سيدي - المشاط خاصةً وعامةً، أما الخاصة فكانت تبدأ في خلوته بعد صلاة العصر مباشرةً وتمتد إلى قبل صلاة المغرب، وكان يخصصها لأكابر طلابه والمتقدمين في تحصيلهم العلمي، وأذكر أن الأخ عبد الوهاب أبو سليمان وأنا كنا ندرس عليه ألفية ابن مالك، وكان عبد الوهاب أجود مني حفظاً وأفطن في تحصيله العلمي مني، وكان ذلك يغيظني جداً. وإن كان يدعوني إلى اللحاق به في تجويد حفظي وفطانتي. كما كنا ندرس على سيدي الشيخ حسن الفقه المالكي. وأذكر أني وعبد الوهاب استنسخنا كتاباً في أصول الفقه المالكي هو كتاب "مراقي السعود" للشيخ عبد الله العلوي الشنقيطي. وكنَّا نسبق سيدي الشيخ إلى الخلوة. فقد كنا نتناول الغداء في القسم الداخلي بالقلعة ثم ننحدر مسرعين إلى الخلوة للاستذكار قبل حضور الشيخ، سقى الله تلك الأيام.
أما الدروس العامة، فكانت تبدأ بعد صلاة المغرب مباشرة حيث يتحلق الطلاّب والمستمعون حول الشيخ، ليبدأ درس الحديث - وكان غالباً في صحيح البخاري - وكان سيدي الشيخ رجلاً وقوراً، خفيض الصوت، قليل الكلام، وكان يكلِّف أحدَ الطلاب الأكابر بقراءة النصِّ، ثم يبدأ في الشرح ويتدفق في البيان. وكان يفتتح الدرس بالبسملة والصلاة والسلام على سيدي رسول الله، ثم ينشد هذا البيت الذي كان يكرره دائماً حتى حفظته عن ظهر قلب وهو:
حدَّث، وشنِّف بالحديث مسامعي
فحديث من أهوى حلَّى مسامعي
 
نعم أنهيت الثانوية، وكنت لا أطمع في أكثر من وظيفة مناسبة في إحدى الدوائر الحكومية، أو التدريس في إحدى المدارس الإبتدائية، فلا ترتيبي في النجاح كان يؤهلني للسفر والاستزادة من العلم، ولا وضعي المالي كان يسمح لي بالسفر على حسابي الخاص. أضف إلى ذلك أن سيدي الشيخ حسن مشاط كان لا يشجع طلابه على السفر، فهو سيء الظن بالتحصيل خارج حلقات العلم في المسجد الحرام لأنه كان يؤمن بقول الشاعر:
أَجَلُّ جِيرانِ بيت الله قاطبةً
علماً، إذا وُضِعوا من مكة، العُلَما
 
وكان يرى أن ذهاب شاب في سني إلى مصر لن يعود عليه بالنفع، كل هذا أقنعني بعدم جدوى السفر، فبدأت أخطط لحياة جديدة، وأهيئ نفسي للإلتحاق بوظيفة ما، ولكني شئت شيئاً وشاء الله شيئاً آخر وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله.
كنت في خلوة المرحوم الشيخ حسن زمزمي أستعد لصلاة الجمعة، وكان هناك الشيخ الجليل والمربي الفاضل الشيخ محمد حلمي مدير المعهد العلمي السعودي. وبعد صلاة الجمعة بَشرَّني الشيخ حلمي أني مرشح للسفر إلى مصر للدراسة. وطلب مني التجهز لذلك، ولك أن تتصور مدى سروري وفرحي واغتباطي لهذه البشرى. بخٍ بخٍ. وأخيراً يا ابن خالد ستدخلن مصر إن شاء الله دارساً. وقد غمرني السرور وكدت أطير فرحاً. ومن الذي يمنعني من السفر؟ (لا محمد في الكُتَّاب ولا فاطمة ورا الباب) كما يقول مثلنا الحجازي. وإذا أراد الله شيئاً، هيأ أسبابه. وعندما استوضحت من الشيخ حلمي عن الأمر، وكيف تسنى لي أن أكون أحد المرشحين للسفر للدراسة بمصر، مع أن ترتيبي في كشف الناجحين هو العاشر؟. والمعهد لا يرسل سوى الخمسة الأوائل. أجابني الشيخ حلمي أن الستة الأوائل كلهم ليسوا سعوديين، ومن ثم لا يحق لهم الإبتعاث بموجب نظام الإبتعاث الذي هو من حق المواطنين السعوديين فقط. وهكذا أصبح ترتيبي الرابع بعد أن كان العاشر.
بدأت أتجهز للسفر العلمي إلى مصر، وكان أول عمل قمت به هو الذهاب إلى سيدي الشيخ حسن لأزف إليه البشرى. وما إن سمع الخبر حتى بدا على محياه شيء من الأسى والوجوم. كذلك الذي يبدو على محيا أب شغوف عندما يرى ابنه يقدم على شيء لا يرضاه، ولا يملك منعه من فعله، وطلب مني سيدي الشيخ أن أصلي صلاة الاستخارة، والله يختار ما فيه الخير. ولكني علمت يقيناً أن الله قد خار لي السفر وإلاَّ فما معنى أن أكون العاشر وأصبح الرابع؟.
أستغرقت الإستعدادات للسفر وإخراج جواز السفر وتصديق الشهادات من وزارة الخارجية السعودية والسفارة المصرية بجدة جزءاً من حياتي سنة 1375هـ.
 
(( أرض الكنانة ))
وجدتني ذات يوم أستعد للسفر إلى القاهرة، وقد رافقني إلى مطار جدة شقيقي محمد خالد، وكان النظام المتبع بالنسبة للمبتعثين إلى القاهرة أن يقضوا أياماً في الحجر الصحي بسيناء قبل السماح لهم بدخول مصر، ولكن في العام الذي سافرت فيه إلى مصر سنة 1375هـ تغيَّر ذلك النظام وسمح لنا بالسفر إلى لبنان وقضاء ما شئت من أيام قبل التوجه إلى مصر شريطة أن تكون في القاهرة قبل بدء السنة الدراسية في شهر اكتوبر بوقت معقول تستطيع خلاله إنجاز الإجراءات اللازمة للإلتحاق بالكليات كالكشف الطبي ودفع الرسوم الدراسية وما شابه ذلك.
وعندما ودعت شقيقي محمد للتوجه إلى الطائرة الرابضة في أرض المطار والتي ستحملني إلى خارج أرض الوطن لأول مرة في حياتي، أحسست بألم الفراق حاداً، ولم أتمالك نفسي من البكاء - مع أني عصي الدمع - وبعد لحظات وجدت نفسي مشدوداً بحبال وثيقة داخل ذلك الصندوق الطائر، وكان كل شيء داخل صندوق الدنيا هذا يثير إنتباهي ويدعوني للتساؤل. فالناس هنا غير الناس الذين اعتدت الجلوس والتحدث إليهم، وكان يُخيَّل إليَّ أنهم بشر من عالم آخر، لا يربطني بهم أي رابط، وإلاَّ فما معنى أن يستقبلوني بشد الوثاق؟؟ ثم ما هذه الأضواء الكثيرة الملونة في كل ركن من أركان هذا الصندوق؟. وما معنى هذه الأزارير المعلقة فوق رأسي؟؟ وهل ترانا نساق إلى الموت الحتمي؟ فما بال هذه الكتابات أمامي تذكرني بأن مظلة النجاة تقع تحت المقعد؟؟ كنت أحدث نفسي بكل هذه الأحوال عندما ارتفع صوت المضيف، ليزيدني قلقاً ووجلاً على ما أنا فيه، فقد بدأ يرينا كيفية استخدام جهاز الأوكسجين، عندما يضطر إليه أحدنا إذا أحس بالاختناق في أجواء الفضاء. وما أن انتهى المضيف من شرحه حتى بدأت الطائرة (الإسكاني ماستر) تأتي بحركات متشنجة وأخذ جسمها العملاق يرتعش، وقد آذنتنا أنها على وشك الإقلاع.
كانت تجربة ركوب الطائرة لأول مرة في حياتي أشبه بالكابوس الذي يحس به النائم، ولا يستطيع الإفلات منه. وقد هوَّن الأمر عليَّ أحد الطلاب السعوديين المسافرين معي على نفس الرحلة. وهو الأخ محمد مرزوق الصانع وهو طالب بالسنة الثالثة بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وقد أوصاه بي خيراً صديقي الأخ عبد الله موسى فلاته زميله بنفس الكلية، وطلب منه رعايتي إلى أن أصل إلى القاهرة حيث تتولى إدارة البعثات هناك أمري.
ما إن استقرت الطائرة في الفضاء، حتى بدأ الخوف يزايلني شيئاً فشيئاً وعادت إليَّ نفسي أو عدت إلى نفسي، فقد هدأ اهتزاز الطائرة، وشعرت كأني في مجلس من المجالس العادية، وكنت أظن الطائرة، في بعض الأحيان ساكنة لا تتحرك، وزاد من تهدئة روعي أن المضيف بدأ يوزع علينا الحلوى والجرائد، وتعالت سحب دخان السجاير، ونام بعض المسافرين، إذن لم يكن الأمر مخيفاً كما تصورت في بدء الرحلة. وما هي إلا ثوان معدودات حتى استغرقت في نوم عميق، لست أدري أكان ذلك النوم دليلاً على الاطمئان أم هو نوع من الهروب تلجأ إليه عند الإحساس بالخطر؟. ولقد اصبح النوم في الطائرات من عوائدي إلى اليوم. إلاَّ إذا جلس بجانبي مسافر ثرثار يفرغ روعه في الحديث معي، ويزيد من روعي وقد حرمني من النوم.
بعد حوالي ساعتين، هبطت الطائرة بسلام في مطار بيروت الدولي، واستقبلتنا عاملة الجوازات على سلم الطائرة، وكانت أول امرأة - من غير محارمي - أراها هكذا سافرة شابة جميلة تقطر شباباً وجمالاً وأنوثة. وأحسست يومها أني على أبواب عالم جديد يختلف كل الإختلاف عن العوالم التي ألفتها في بيئتي المحدودة بمكة المكرمة، عالم كل ما فيه مدهش، وفاتن، ومحيَّر للبِّ شاب غر مثلي كانت تتوزع حياته بين البيت والمدرسة والمسجد ولا شيء وراء ذلك.
فرغنا من اجراءات المطار بسرعة، وركبنا عربة من عربات الأجرة إلى قلب مدينة (بيروت) إلى ساحة البرج، ونزلنا في فندق (بالاس هوتيل) وهو أول فندق أنزله في حياتي.
وفي هذا الفندق البيروتي بدأت أواجه أولى المشاكل التي يتعرض لها أبناء القرى عندما يحلون في المدن الكبيرة - إذا جاز أن تسمي مكة المكرمة قرية - فقد أردت بعد الإستراحة في الفندق أن أنزع ملابسي الوطنية، لأدخل في الملابس الإفرنجية وأردت الاغتسال، ولكن الحمامات هنا ليست كالحمامات التي عهدتها في بلادي فلا جرادل ولا أزيار ولا مغاريف ولا قباقيب ولا ليف ويسمون تلك حمامات؟.
دلني رفيق سفري الأخ محمد مرزوق الصانع على حجرة واسعة لامعة ونظيفة ومعطرة وقال: دونك الحمام. قفلت الباب ووقفت محتاراً أيظنني هذا الأبله لا أعرف الحمامات؟ وما الذي يحمله على السخرية لي ولمَّا نتعارف بعد التعارف الكافي الذي يجيز له رفع الكلفة بيننا؟. أيهديني إلى هذه الحجرة اللامعة النظيفة الواسعة ويطلب مني قضاء حاجتي فيها؟ ما هذا الصندوق المرمري الناصع البياض في ذلك الجانب القصي؟ وما هذا العمود الذي يتدلى منه؟ وأين المرحاض؟ لا أرى هنا غير جهاز أسود اللون بيضاوي الشكل وفي قعره ماء صاف زلال، لم أر في حياتي أصفى منه، هل يطلب مني ذلك الرفيق الأحمق أن أقضي حاجتي هنا ليرمي بي صاحب الفندق في الشارع، ويتهمني بالوحشية وقلة الذوق؟ ثم هبني أطعت ذلك الرفيق الأحمق فبم أستنجي وبم أستجمر؟.
سارعت بالخروج لتأنيب رفيقي وإذا به يبادرني قائلاً: "شوفيتم" (4) ولكن علام؟. وشعرت بالخجل فقد أدركت من لحنه أن ذلك المكان الذي كنت فيه "حمَّام" حقاً. فقلت لرفيقي خجلاً: "ولكن يا صديقي أرجو أن لا تسخر مني، فإني لم أهتد إلى كيفية استخدام ذلك الحمام". فضحك ضحكاً شديداً، ولازال الملعون يعيّرني بغشامتي إلى اليوم.
هذا شأن الحمام وقد فرغت منه، وجاء دور ارتداء الملابس الإفرنجية أي البنطلون والجاكيت والقميص فأنا ابن بجدتها، فقد أعتدت على لبس البدل منذ كنت تلميذاً بدار الأيتام - في مكة المكرمة، ولكن ما هذا الرباط اللعين المسمى بالكرافته؟ كيف سأعلق في عنقي؟ هذه هي المسألة كما يقول شكسبير. وحاولت محاولات شتى في ربطه قبل أن أستعين برفيقي وإن كنت أعلم سلفاً أنه سيوسعني ضحكاً وتريقة قبل أن يطلعني على سر عقدة رباط العنق.
وتطوع رفيقي بعقد الرباط، بعد أن أوسعني سخرية. ولكي أستريح من سخرية رفيقي فقد ظللت ألبس رباطاً واحداً طوال إقامتي في لبنان، فكنت أنزع الرباط من عنقي نزعاً بحذر شديد، حتى لا ينفرط وأضطر لمعونة ذلك الرفيق الهازل القارص الهزل.
 
كنت أظن أن الحمام الإفرنجي، ورباط العنق هما كل مشاكلي وقد كفيتهما. والحمد لله. ولكن الليالي حبالى كما يقول الشاعر، والليالي هنا هي ليالي لبنان الصاخبة، فلم أكن أتصور أن في الحياة ليالي تُحيا سوى ليالي رمضان، أمَّا أن يجتمع الناس لإحياء ليالٍ عابثة، فيها قصف ورقص وغناء وصخب، فهذا ما لم أتصوره، ولكنه وقع.
فقد صعدت ذات مساء إلى (عاليه) وتجولت ورفيقي العتيد في شارعها الرئيسي حيث دور السينما والملاهي واستوقف نظرنا إعلان كبير عن حفلة مسائية، ستقام ذلك المساء في فندق (طانيوس)، يشترك فيها لاعبون ولاعبات من مختلف أنحاء العالم. ولم ينتظر رفيقي أن يرى رأيي فقد كان هو أمين الصندوق، فتوجه تواً إلى طانيوس، وحجز لنا تذاكر حفل ذلك المساء.
وكان مساءاً رأيت فيه عالماً عجيباً، عجيباً في أناسه، عجيباً في ألعابه عجيباً في صخبه - دنيا. كنت كقروي ساذج، يرى مساخر المدينة لأول مرة في حياته فلا يملك إلاَّ أن يفغر فاهُ في بلاهة، وسذاجة بل وحميرة أحياناً.
وقد زرت دمشق أيضاً، خلال الأسبوع الذي أقمته في الشام، وشاهدت معرض دمشق وتجولت في سوق الحميدية الشهير.
بعد أسبوع غادرنا بيروت، ووصلنا القاهرة لنجد مندوباً من إدارة البعثات السعودية في القاهرة في إنتظارنا. كان وصولنا إلى القاهرة ليلاً فلم نستتطع إكتناه شيء من معالمها. وصلنا مقر البعثة في شارع عبد المنعم بالدقي، ولم أجد في نفسي ميلاً للخروج من مقر البعثة بعد أن تناولت العشاء، فصعدت إلى حجرتي، فقد كنت في أشد الحاجة للنوم، بعد تعب السفر فهو قطعة من العذاب، وإن كان على متن السحاب.
(( الحياة في مصر ))
يا "مصر" يا أم المكارم والعلا
لك في النفوس مودةٌ لا تهرم
 
كان لديَّ متسعٌ من الوقت لرؤية بعض معالم القاهرة، قبل التسجيل طالباً بكلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، وكان الأخوة السعوديون من الطلاب الأقدم عهداً في القاهرة، يتطوعون دائماً للقيام بمهمة الأدلاء بالنسبة للقادمين الجدد.
قضيت الأيام الأولى في القاهرة في رؤية الأهرام وأبي الهول وحديقة الحيوانات في الجيزة. وكان يرافقني في تلك الرحلات الإخوان: الأستاذ عبد الله زكريا بيلا، وعثمان داود كمرين، والأخ عمر فلمبان، والأخ أحمد عبد الرحمن عثمان. أما أمسيات القاهرة فكنا نقضيها في دور السينما، فلا نكاد نغادر داراً حتى ندخل إلى أخرى، وأكثر ما كنا نرتاده هي الدور الشعبية حيث تعرض الدار أكثر من فيلم بقروش معدودات، ولقد كانت تلك الأفلام التي شاهدناها وسائل تثقيف لنا إلى جانب كونها تسلية بريئة.
بعد أسبوع من وصولي إلى القاهرة، ذهبت إلى قسم التسجيل بكلية الآداب، ودفعت القسط الأول من الرسوم الدراسية التي استلمتها من الشؤون المالية بإدارة البعثات السعودية، وبعد يومين تقدمت للكشف الطبي بمنطقة الجيزة حيث تم الكشف عليَّ، وسُجِّلت طالباً بقسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القاهرة، ولما كنت أحد خريجي المعهد العلمي السعودي بمكة، فإني لم أدرس اللغة الفرنسية التي كانت إحدى متطلبات الإلتحاق بقسم اللغة العربية. فقد كتب مسجل الكلية في هامش شهادتي المعهدية: "يقبل بقسم اللغة العربية على أن يؤدي إمتحاناً في اللغة الفرنسية في السنة النهائية". وقد تخرجت في القسم ولم يطالبني أحد عن اللغة الفرنسية فضلاً عن إمتحاني فيها.
 
ذكريات التحصيل العلمي في مصر:
إن ذكرياتي في مصر كثيرة ومتنوعة، وأيّ ذكريات؟ وكم من ذكريات؟ ما أكثرها وما أجلَّها؟ وكيف الإحاطة بها وتذكرها بعد هذا الزمن الطويل؟؟ ولكن كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي كما يقول رامي؟ إن الكثرة المفرطة في الذكريات كالشُّح المفرط كلاهما يحضُّ الذاكرة ولكن لا بأس فلأبدأ بذكريات العلم وأكرم بها من بداية.
إن جيلي من الشباب السعودي، لم يذهب إلى مصر خالي الذهن عما تموج به أرض الكنانة من أفانين العلم والأدب والفن، فقد كانت تصلنا في الحجاز صحف ومجلات وكتب مصرية كثيرة، وكنا نتسابق لاقتنائها من مكتبة الثقافة بباب السلام، وكنت بحكم نشأتي يتيماً، أميل إلى العزلة والإنطواء، ولا زالت العزلة إلى اليوم إحدى أميز خصائصي، وكان أحب أنواع الرياضات إلى نفسي الخلوة إلى كتاب أو مجلة، ولم أتقن أية لعبة من الألعاب التي كان أقراني يتلهون بها في صباهم.
وقد قرأت في خلوة سيدي الشيخ حسن مشاط بالحرم المكي كثيراً من كتب الفقه المالكي وغير المالكي، وكان سيدي الشيخ حسن يهدينا كثيراً من كتب التراث الإسلامي، ويشجعنا على قراءتها واستظهار كثير من المتون الشعرية وغير الشعرية في الفقه والحديث ومصطلح الحديث والقواعد النحوية. كما قرأت كثيراً من الكتب والمجلات والصحف المصرية التي كنت أجدها في مكتبة أحد أقربائي ويدعى عبد الله موسى فلاته. وكنت أستعير بعض الكتب من زملائي طلبة المعهد العلمي السعودي. فقد كانت حياة جيلنا (لبّه وكتاب) كما يقول المثل، فهذه الملاهي الكثيرة ووسائل الترفيه التي تشغل أجيال اليوم، لم يكن لها وجود في عهدنا فلا كورة ولا مسلسلات تلفزيونية ولا مباريات ولا سياحة من أي نوع.
ولكن الشخص الذي دفعني دفعة قوية، لقراءة الكتب المصرية الجادة هو المربي الفاضل المرحوم محمد عبد الصمد فدا رحمه الله رحمة واسعة، لقد ترك هذا الرجل الفذ في نفسي أثراً بارزاً لا أنساه ما حييت، وكم يترك المعلمون والمربون من آثار لا تنسى؟. نعم لقد دفعني هذا المربي الفاضل إلى مطالعة الكتب والمجلات المصرية فقد طلب منَّا في أول درس ألقاه علينا بالمعهد العلمي السعودي أن نحاول قراءة الكتب الآتية: حياتي للدكتور أحمد أمين، والأيام للدكتور طه حسين، وحياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل، ومتابعة أعداد مجلة الرسالة المصرية التي كان يحررها المرحوم أحمد حسن الزيات. كما حدثنا عن ضرورة القراءة الحرة خارج الفصول الدراسية، وما درى رحمه الله، أنه كان يحدد اتجاهنا العلمي منذ تلك الساعة.
ولكن كيف يستطيع طالب فقير مثلي، أن يحصل على تلك الكتب دفعةً واحدةً؟ لقد قررنا نحن مجموعة من الطلاب، الاشتراك في شراء تلك الكتب، وكنا نقرؤها، بالدور، وهكذا قرأنا تلك الكتب جميعاً، ثم قررنا توزيعها بيننا، فأخذ أحدنا (الأيام) وأخذ الثاني (حياة محمد) وكان كتاب (حياتي) لأحمد أمين من نصيبي. إذن فقد دخلت مصر وأنا على جانب لا بأس به من الإطلاع على ما تموج به القاهرة من حركة علمية، ونهضة أدبية عارمة.
عندما التحقت بقسم اللغة العربية في كلية الآداب، كنت أعرف تماماً ما أريد من التحاقي بالقسم، فقد كنت - ولله الحمد - مهيأً للسير فيه بشكل جيد. ولقد كنا نحن السعوديين في قسم اللغة العربية نشعر بشيء من التفوق على زملائنا المصريين فيما يتعلق بالدراسات النحوية والبلاغية والدينية، وكانوا يتفوقون علينا في الدراسات النقدية واللغات الأجنبية والتاريخية.
 
فدراستنا في المعهد العلمي بمكة، قد هيأتنا للتفوق في تلك الدراسات بينما وقفت بنا قاصرة عن تجويد الدراسات الاجتماعية واللغات الأجنبية، فلم يزد ما درسناه من اللغة الإنجليزية في المعهد عن المبادئ الأولية البسيطة على يد معلم مصري، كان جديراً بأن يجعلنا مبرزين في اللغة الإنجليزية، لو سمحت المناهج المتاحة في المقرر، فقد كان حقاً جاداً وحريصاً على أن نتقن ذلك القليل المتاح. ولكن ما عسانا نصنع بهذه البضاعة التافهة من اللغة الانجليزية أمام الروايات المقررة علينا بالقسم؟ فقد كان ضمن مقررات اللغة الانجليزية مسرحيات (اوسكار وايلد) وروايات (هنريك ابسن) ومختارات من الشعر الانجليزي من شوسر إلى سبتدر ومقتطفات من عيون الأدب العالمي لدستوفيسكي وموباسان؟ هذه هي المشكلة.
 
ولما كان لكل مشكلة حل، فقد وجدنا الحل في ترتيب دروس خصوصية تولاها أحد الأساتذة المصريين العاملين في المعهد الثقافي البريطاني في القاهرة، فكان يلخص لنا تلك المقررات تلخيصاً جيداً يضمن لنا النجاح، وإن كان يعطل فينا موهبة الفهم والفطانة، ولكن ليس باليد حيلة ولا بد من النجاح. وقد ساعدتنا حافظتنا القوية، التي مرنت على حفظ المتون في المعهد على استظهار تلك الملخصات الإنجليزية وحفظها عن ظهر قلب وضمان النجاح فيها، ولا زلت إلى اليوم أحفظ تلك التلخيصات - كما لأشك أن زميلي الأستاذ سليمان الجبهان يحفظها.
أما الدراسات النقدية، فقد كان أمر استيعابها أيسر من اللغة الانجليزية، فما هو إلاَّ أن تواظب على حضور المحاضرات وتقرأ الكتب المقررة في الموضوع حتى تحس أن الأمر أهون من أن يكربك. وكانت مكتبة كلية الآداب ومكتبات سور الأزبكية في الهواء الطلق، تمدنا بحاجتنا من الكتب وغيرها مما تحتاجه الدراسة الجامعية. وكانت كتب السور رخيصة وفي متناول يد طلاب العلم.
أما المواضيع الجديدة حقاً في حياتنا العلمية بالجامعة - والتي ملأتنا بالكثير من الغرور والكبرياء العلمي - فهي دراستنا لبلاغة أرسطو وغيره من الفلاسفة والنقاد اليونانيين. فهذه الأسماء والعلوم والدراسات لم أسمع بها قط في مكة المكرمة، ولم يدلني أحد من أساتذتي إليها. وها أنا اليوم في قاعة الدرس استمع إلى أستاذي المرحوم الدكتور إبراهيم سلامة يحدثنا عن بلاغة أرسطو بين العرب واليونان. ما هذا الأرسطو؟. وما بلاغته؟ وكيف يمكن أن تكون البلاغة مشتركة بين اليونان والعرب؟. ما سمعنا بهذا من قبل. ويستطرد الدكتور في الشرح والإستفاضة والتفريع والتشقيق والتحليل، واسمع عن المنطق أو كيفية التفكير، والنظر الذي يدرس باسمه الكائنات في ذاتها وحدِّ نفسها. والعمل ومجاله الأحداث والسلوك من الناحية الخلقية، والشعر ومجاله درس الإنتاج العملي من ناحية أنه موصل للإنتاج الفني، والمظاهر والماصدقات الله الله الله. العلم بحر يا عيال. وهكذا يكون التحصيل الجامعي وإلاَّ فلا.
وأجدني أعجب بدرس البلاغة اليونانية، وأحب المعلم الأول، وأعجب بالجاحظ، في غير ما حدود، كما أحس بنفور من السوفسطائية في غير ما حدود أيضاً.
 
مواقف طريفة:
ونتعرض لألوان من المواقف الطريفة، المحرجة المربكة، والمضحكة في نفس الوقت، بسبب تباين البيئة القاهرية عن البيئة الحجازية التي قدمنا منها. ومن تلك المواقف، أني كنت أحياناً أتخلف عن حضور محاضرات أستاذنا الدكتور حسين مؤنس في مادة (التاريخ) فقد كانت مادة جافة ومملة وهو أستاذ فاضل، ضليع في مادته، إلاَّ أنه ضعيف السيطرة على طلابه، فكانت محاضراته تضيع وسط صخب الشياطين من الطلاب، لذلك كنت أفضل الجلوس في مكتبة كلية الآداب، بدلاً من حضور ذلك المولد. ولكن لا بد من إيجاد وسيلة لنقل تلك المحاضرات ومذاكرتها لأداء الإمتحان فما العمل؟ كنت أستعير دفاتر إحدى الزميلات وأنقل منها المحاضرات، وكان أحد زملائي السعوديين أشد مني زهداً في محاضرات التاريخ، وكان يعلم كثرة غيابي، ويعجب من مذكراتي المرتبة في مادة التاريخ تلك. وكان يبدي استغرابه ذلك على ملأ من الطلاب في مقهى كلية الآداب العتيد. وصادف أن كانت الزميلة على مقربة مني، فأردت شكرها فقلت: البركة في الحُرمة هذه جزاها الله خيراً، وما كدت أُتم العبارة حتى انفجرت تلك الفتاة غاضبة، وصاحت: (حرمة في عينك قليل الأدب، الحق عليَّ أنا التي ساعدتك!! فعجبت من ثورتها التي لم أفهم لها سبباً مقبولاً. فكادت تكون معركة. إذ كيف تتجاسر امرأة على إهانتي في مكان عام!؟؟ وقد تدخل الطلاب وانفض الإشكال. وقد علمت فيما بعد أن كلمة (حرمة) من الكلمات النابية في مصر. ذكريات، ذكريات، ذكريات.
 
حديث الأربعاء:
كان يوم الأربعاء من الأيام المشهودة في كلية الآداب، ففي هذا اليوم، يلقي عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، محاضرة على طلاب قسم اللغة العربية وكانت قاعة الدرس تموج بأفواج صاخبة، متدافعة من محبي عميد الأدب من كل معاهد القاهرة العلمية وغير العلمية، وكان يصعد إلى القاعة وقد حفَّ به كوكبة من العلماء كلهم تلاميذه وحواريوه ومحبوه، وحيث كان قد أسَنَّ فقد كان يعتمد على الدكتورة الفاضلة سهير القلماوي، والدكتور يحيى الخشاب، فهما من آثر الناس عنده وأحبهم إلى قلبه. وكان طه حسين معجزة حقاً. فقد كان مسيطراً على ناحية اللغة العربية، جباراً في الحديث بها ولم يكن شيء يعدل عندي سماع الدكتور طه حسين، إن صوت هذا الشيخ فذ وكفى.
كانت تنقضي الساعات والناس حوله صامتون، يستزيدونه من هذه القدرة اللدنية التي منحه الله إياها. إن صوت العميد من الأصوات الآسرة الساحرة، التي لم اسمع في حياتي ما يماثلها في روعة إلالقاء وحلاوة الإنشاد. آية ذلك عندي أني كنت حريصاً على أحاديث الأربعاء تلك، أكثر من حرصي على حفلات المرحومة السيدة أم كلثوم وما أدراك ما حفلات أم كلثوم؟؟
 
أساتذتي في القسم:
كل أساتذتي حبيب إلى نفسي، وأنا أدعو لهم جميعاً في أدبار الصلوات بالرحمة والغفران، كفاء ما قدموه لي، ولكن ثمة أساتذة يسكنون دواخلنا، ولا نستطيع نسيانهم ما حيينا. من أولئك الأساتذة، الذين أُدين لهم بالحب والفضل، المرحوم الدكتور محمد كامل حسين، أستاذ الأدب الفاطمي بقسم اللغة العربية وهو من أفقه علماء المذهب الإسماعيلي، وأعلمهم بتراث تلك النحلة الشيعية، ومكتبة الدكتور محمد كامل حسين، تحوي أنفس وأندر المخطوطات والمطبوعات حول ذلك المذهب، ويكفي للدلالة على ذلك، أن أشير إلى أن المستشرق الروسي الشهير (EVANOV) (ايفانوف) وهو من أكبر إن لم يكن أكبر العلماء المهتمين بالتراث الاسماعيلي سألني ذات يوم وأنـا أدرس في جامعة طهران سنة 1966م عن مصير مكتبة المرحوم محمد كامل حسين. فأجبته أن لا علم لي بمصيرها. وعلمت فيما بعد أن ورثته قد أهدوا تلك المكتبة القيمة لكلية الآداب جامعة القاهرة وخيراً فعلوا.
من أساتذتي الأجلاء الدكتور شوقي ضيف، وهو مؤلف وباحث عملاق أفضل منه محاضراً، فرغم مؤلفاته القيمة الكثيرة، في شتى أبواب العلم والأدب، إلاَّ أنه بطيء في محاضراته، كان يحصر فلا تنطلق الكلمات من فمه، إلاَّ بجهد شديد، فكأنه كان يلد العبارات ولا ينطقها. وكان يدرس لنا الأدب العربي في مختلف عصوره. كما درَّس لنا النحو في وقت ما. وعلى العكس من الدكتور شوقي ضيف، كانت الدكتورة سهير القلماوي، متحدثة لبقة منطلقة ذات أسلوب مشرق مرتب وسامٍ، فهي متدفقة لا تكاد تتلعثم أو تتردد، بينما هي ضنينة بالتأليف إذا ما قيست بالدكتور شوقي، الذي كان غزير الإنتاج، وقد درستنا الدكتورة سهير القلماوي النقد الأدبي الحديث.
 
من أظرف الشخصيات العلمية التي درست عليها في كلية الآداب الدكتور المرحوم عبد الوهاب حمودة، كان يدرسنا مادة (التفسير) وكان من الشخصيات المرحة المحبوبة التي تمزج العلم بشيء من السخرية التي لا تخرج عن حدود الحشمة والوقار. فكان إذا بدأ الدرس ورأى بعض الطلاب، وقد ارتدى زياً لا يلائم وقار العلم في نظره، كأن يرتدي بدلة كحلية اللون ورباط عنق أحمر مما هو أليق بالسهرات، منه بقاعة الدرس، طلب من ذلك الطالب أن يمسح السبورة، ولك أن تتصور ذرات الطباشير البيضاء وقد تناثرت على بدلته الأنيقة وما يثيره ذلك من ضحك بين الطلاب.
 
من العلوم التي درستها بقسم اللغة العربية بجامعة القاهرة (المنطق) نعم المنطق فقد درست (المنطق الوضعي) على يد الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود، وكان يفصّل لنا في تلك الدروس، ما كان يُعطى لنا مُجملاً في درس البلاغة، على يد المرحوم الدكتور ابراهيم سلامة. وفي هذا الدرس (المنطق) علمت أن المنطق أقسام: فمنطق رياضي ومنطق فلسفي ومنطق هندسي ومنطق وضعي إلخ. إذاً فهذا العلم هو أسُّ الدراسات كلها، فلمَ كان يقال لنا: "من تمنطق تزندق؟!" ولمَ لمْ أعرف هذا العلم من قبل؟
 
لقد علمت فيما بعد من خلال قراءاتي الحرة، أن الإمام الغزالي كان يرى أن تعلم المنطق لا يضير المسلم، وقد ألح الإمام الغزالي، على ضرورة دراسة المنطق في كتبه، التي تناول فيها علمي الكلام والأصول، وخاصة في كتابيه (مقاصد الفلاسفة) و ( تهافت الفلاسفة). وربما كان عذر معلمينا في عدم تلقينا هذا العلم، هو خوفهم علينا من الضياع في متاهاته ومزالقه. وهو علم يضل فيه وبه من يدرسه ابتداءاً، إذا لم يكن له عصمة من الدين أو مسكة من العقل خاصة إذا راعينا ما أثير حوله من الجدل والدراسات، وما عرض من الآراء من لدن فلاسفة اليونان والرومان والعرب، إلى فلاسفة العصر الحديث في أوروبا. ما هي العلاقات الجمالية والجدلية بين مختلف الفنون؟ أو ما هو الأصل أو الأصول المشتركة بين الفنون الجميلة، كالشعر والرسم والنحت والموسيقى والرقص والغناء؟
دراسة هذه العلاقات وبيان النسب والوشائج الجمالية المؤتلفة والمختلفة، في تلك الفنون، هو ما كان يدور حوله درس أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الحميد يونس. وقد كان هذا العلم (علم الجمال) كالبلاغة والمنطق جديداً عليَّ كل الجدة.
كان الدكتور عبد الحميد يونس، يتناول دلالة الألفاظ عند النقاد العرب الأقدمين، وما تدور حوله من محاور الإهتمام. فإذا رأينا - هكذا يقول علم الجمال - كثرة الألفاظ التشكيلية، (كالترقيل والتذييل والتوشيح والتبريح والتسهيم) في مصطلحات البلاغيين العرب، دَلَّ ذلك على الاهتمام بالشكل الخارجي والتعلق به، وما هو موقف الدارس العربي المعاصر من هذا السيل الجارف من المصطلحات الأدبية والنقدية الأوروبية المعاصرة؟ وكيف يمكن المواءمة بين هذه المصطلحات الجديدة والآراء القديمة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2817  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 28 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج