الاثنينية ::المكتبة

مكتبة الاثنينية

عِناية السَّلف وَمَا بَذلُوا

(1)

قال صاحبي: ألسْت معي في أن عناية خلفاء الإسلام وأمرائه بشؤون اللغة ومقدرات الشعر كان لها أقوى الأثر في تدعيم مركزهما في الحياة؟

قلت: لا أحسب أحداً ينكر هذا. فربما كلّف أحدهم روّاده أو عمّاله في الأمصار أن ينقلوا إليه أخبار رواة اللغة والشعر، وربما أمر أحدهم بترحيل الراوية إلى عاصمته إذا ظنه مصدر البيت من الشعر أو كلمة من مفردات اللغة فيطوي الراوية مئات الأميال معززاً مكرماً تلبية لنداء الخليفة.

وما كانت العناية مقصورة على ما بذل الخلفاء والأمراء في سبيل اللغة والشعر، فقد دأب الرواة على مسح البوادي من أطرافها إلى أطرافها بحثاً عن كلمة تعذر عليهم تصحيحها، أو بيت من الشعر ارتابوا في حقيقة قائله.

وحذا عشاق النحو حذو هؤلاء في الدأب، فصنفوا أنفسهم في مذاهب قلدوا فيها البصريين أو الكوفيين أو غيرهم من أعلام النحو، وراحوا في سبيل ذلك يتبارون. كل طريقة تؤيد مذهبها، وكل مذهب يأبى إلاّ أن يحقق قواعد ما رأى مستنداً على ما نقله من ثقاة العرب وما درسه من قواعد لسانهم، ولم يدخروا جهداً في سبيل ما تعشقوا. فقد ساهر بعضهم نجوم الليل مكباً على ما جمعه من فنون القول، ونشط بعضهم للسعي وراء ما يحقق من أطراف الجزيرة إلى أطرافها.

وإذا راق لي ولك أن نذكر مثل هذه الجهود الجبارة فلا يجب أن ننسى جهوداً بلغ دأبها إلى أوسع من هذا المدى وأفضل.. تلك هي جهود رجال الحديث والفقهاء. فقد كرسوا نشاطاتهم لاستنباط أمهات المسائل من الكتاب والسنّة، واضطرتهم مذاهب التفسير أن يتعقبوا رجال اللغة وأصحاب القول من النحويين ليستنتجوا ما يصح استنتاجه عندهم، ويبينوا ما أدى إليه اجتهادهم على أسس صحيحة من لغة العرب وقواعدهم في الإعراب حتى برز منهم الفقهاء الأفذاذ والقضاة اللامعون وأصحاب التحقيق العلمي من مختلف الطبقات.

واتسعت آفاق النشاط في هذه الحقبة الطويلة من تاريخ الإسلام، فامتدت عدواه إلى رجال المغازي والسير ومؤلفي التاريخ ورواة القصص، فرأينا من يجود بنفسه ويتبرع براحته في سبيل دراسة غزوة أو تحقيق سرية من غزوات وسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بحث حالة من حالاتها تتعلق بموقعها الجغرافي أو التأريخي حتى برز من بينهم محققون لا يقف دأبهم عند حد، وظهر في أعقابهم نقاد غربلوا كل ما انتهى إليه تحقيق غيرهم، وبذلوا في سبيل أهدافهم أقصى ما أمكن البذل.