شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة الدكتور منصور الحازمي ))
- ولأحد رفقاء الدَّرْب الأكاديمي والعلمي والثقافي، للصديق الكبير لضيف الاثنينية وهو أحد أركان الثقافة النقدية في المملكة العربية السعودية الأستاذ الدكتور منصور إبراهيم الحازمي كلمة عن صديقه الأستاذ الدكتور أحمد البدلي فليتفضل:
- شكراً جزيلاً.. الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشكر بدايةً الصديق الأستاذ السيد عبد المقصود على أن كرَّمنا هذه الليلة في شخص صديقنا الحبيب د. أحمد خالد البدلي، ولقد كرَّمنا قبل ذلك في ليال سابقة فشكراً له على هذه المبادرة، ونرجو أن تستمر هذه الاثنينية بكل ضيوفها وبكل ما حوت من فكر ومن ثقافة ومن أدب ومن كتب مهمة. كما أشكر معالي د. محمد عبده يماني على هذه الإشارة إلى زملائه القدامى، وأذكر أنني كنت في كلية الآداب وكان الزميل أو الطالب محمد عبده يماني يلقي خطاباً في الجامعة نيابةً عن الطلاب، فأكبرت فيه تلك الشجاعة وتلك الجرأة، وقد استمرت الشجاعة والجرأة صفتين ملازمتين لهذه الشخصية الكبيرة الحبيبة إلى قلوبنا جميعاً محمد عبده يماني، الذي جمع بين العلم وبين الأدب، بين الفضاء والأقمار البعيدة وبين هذه الأقمار التي تدبُّ على الأرض.
 
لم يبقَ الآن من السنوات الطويلة من العمر سوى الذكريات، ذكريات الأماكن وذكريات البشر وذكريات الأرواح والفضاءات، وتزدحم الصور على الذاكرة، بعضها يقاوم الزمن فلا ينمحي وبعضها يتلاشى ويختفي وبعضها نِصْف في الظلِّ ونِصْف في الضياء كالقمر في بدايات قوته وعنفوانه، تمتد في الزمن، وتشتد في الروح شذىً فواحاً، وسِحْراً أخّاذاً يقاوم كل التقلبات والأعاصير، وهو من الأصدقاء القلائل الذين استمرت علاقتي بهم بحكم الدراسة والعمل منذ شباب الطفولة حتى شباب شيخوختنا اليوم ولا أقول الشيخوخة، لعل الصدفة وحدها هي التي حكمت بهذه الملازمة والمعايشة، ولكن الصدفة وحدها لا يمكن أن تحكم بهذه المواءمة والمماثلة، بل هو التآلف والانسجام، والأرواح جُنود مجنَّدة ما تقارب منها ائتلف وما تباعد منهـا اختلف (1) ، ويبدو أن روحي وروح الزميل أحمد خالد من هذه الأرواح المؤتلفة! والحمد لله.
إنَّ رحلتي مع الزميل أحمد خالد تبدأ في مكة المكرمة، ثم في القاهرة، ثم في لندن، وأخيراً في الرياض عاصمة العواصم ومحط التسيار، سنوات طويلة من المواقف والذكريات، لا يمكن اختصارها في لحظات، ولكن دعوني أتذكر شيئاً منها وأمرُّ بكم سريعاً على الأماكن القديمة وأسائلها لعلها تجيب أو تستجيب. والمحطة الأولى بطبيعة الحال هي مكة المكرمة كان ذلك في بداية السبعينات الهجرية، الخمسينيات الميلادية، وقد هبط التوأمان المتنافسان: المعهد العلمي السعودي، ومدرسة تحضير البعثات من عليائهما في قمة جبل هندي إلى الشارع الطويل المنبسط بجوار المسعى القديمة (القشاشية)، وهبطنا معهما واسترحنا من تلك السلالم الطويلة التي كنا نصعدها يومياً في الصباح ثم ننزلها في المساء وقت الانصراف، كانت القلعة هي مقر المدرستين العظيمتين، اللتين لا يوجد مثلهما مثيل في جميع أرجاء المملكة، إنهما أشبهُ ما تكونان بكمبردج وأكسفورد في بريطانيا العظمى، وحين أُخليت القلعة من هاتين المدرستين احتلها طلاب القسم الداخلي المنتمون إليهما، وأظن أن الزميل أحمد خالد لم يحضر القلعة حين كانت منارة للعلم بل حضرها حين تحولت إلى مهاجع ومطاعم، وله فيها ذكريات وقصص مع أصدقائه الوافدين من شتى أنحاء المملكة، وأظنه لو كتب شيئاً من تلك الذكريات والقصص لغدت متعةً وتاريخاً.
 
لم أرَ أحمداً في القلعة عندما كانت مدرسة، ولم أساكنه فيها حين تحولت إلى مهجع ومطعم، ولكني رأيته فيما أظن في رحاب المعهد العلمي السعودي في القشاشية. لا أتذكر كيف تعرفت إليه وأنا أسبقه في الدراسة وأساويه في العمر، لماذا تأخر عني عامين لا أدري، وكنا على طرفي نقيض، هو مفتول العضلات ريَّان الجسم، تبدو عليه مخائل النعمة، وأنا مهزول الجسد شاحب اللون لا أكاد أُرى من الضعف والنحول، ثم عرفت بعد ذلك أنه نشأ وترعرع في دار الأيتام، وأنه واصل ذلك الترعرع في القسم الداخلي في القلعة، ولكنني عرفت أيضاً أن ما يجمعني بأحمد خالد، أكبر من ذلك بكثير، فكلانا من أطراف مكة، وكلانا من الفصائل المحببَّة لشهية المعهد العلمي السعودي.
 
وحين جدَّ الجِدُّ وعرفت أن الخمسة الأوائل من المعهدَيْن فقط هم الذين يمكنهم الذهاب إلى القاهرة للالتحاق بإحدى جامعاتها صممت أن أكون أحدهم، ووُفِّقْت والحمد لله في ذلك، وشددت الرحال مع من شدُّوا الرحال إلى الطُّور فالقاهرة، أما أحمد خالد فقد بقي في مكة، كنت في شغل شاغل من أمري فلم أسأل عنه، ذهبت إلى القاهرة في بدايات عام 1374هـ - 1954م، ولم يصل أحمد خالد إلا مع حرب السويس 1956م، كنا نتزاور أحياناً ونلتقي في دار البعثات السعودية، أو في مدرَّجات أو بوفيه كلية الآداب جامعة القاهرة، ولكن لقاءاتنا قليلة على أي حال، كان مشغولاً بالرياضة وحمل الحديد وكنت مشغولاً بالألعاب الخفيفة وبعض الأمسيات الأدبية، ومع ذلك فقد كنا جميعاً محظوظين جداً إذ تتلمذنا على نخبة من الأساتذة أمثال: طه حسين، وسهير القلماوي، ويحيى الخشاب، وعبد العزيز الأهواني. كانت قاهرة عبد الناصر في ذلك الوقت في أوج عزها وعنفوانها.
وحين انتهيت من الليسانس - البكالوريوس - والتحقت معيداً بجامعة الملك سعود سنـة 1379هـ - 1959م كان أحمد خالد لا يزال في القاهرة، ولم يخطر ببالي أنه سيتبعني أيضاً إلى الإعادة، ولكنني فوجئت به حوالي سنة 1961م بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن يرتدي معطفاً شتوياً سميكاً، ويضع قبعة فوق رأسه، ويحمل بيده مظلَّة!! حسبته أحد الأفارقة الذين كانت تمتلئ بهم المدرسة بحكم تخصصها، ولكنني تبينتَّه حين أقبل علي بلهفة وشوق وبلهجته المكية "الحاروية" (2) الصميمة، فرحبت به وبدأنا البحث عن السكن وما إليه، وكان الانجليز وما يزالون يضمرون العداء للعرب ولا يطيقون رؤية الملوَّنين وجميع العرب على اختلاف أشكالهم وألوانهم هم من هذا الصنف غير المرغوب فيه.
 
وأعتقد أن للدكتور أحمد خالد بعض المواقف الطريفة مع الإنجليز يحسن تدوينها في مذكراته التي يكتبها حالياً، ويبدو أن التجارب القاسية مع الأسر الانجليزية قد دفعته هو وأخوَيْن آخرَيْن إلى استئجار شُقَّة خاصة بمنطقة كوينز وي القريبة من حديقة هايد بارك، وفي المساكن الخاصة يشعر الملوَّنون باستقلالهم وإنسانيتهم. ويستطيعون أن يشبعوا هوايتهم في الأكل بهمجية والحديث بأصوات مجلجلة والضحك حتى التبطح والاستلقاء، وأعتقد أن أحمد خالد وأخويه قد شعروا بكثير من الغِبْطة في تلك الشقة "البهيجة" لا سيما وأن مجاورتهم لحديقة هايد بارك قد جعلتهم من رُوَّادهـا ومن المواظبين أيام الآحاد على الاستماع لخطبائها وشعرائها.
 
وربما فكَّر أحمد خالد في تلك الأيام الخوالي وفي غَمْرة حنقه على الانجليز أن يُكَوِّن حلقة خاصة له يكشف فيها عوراتهم وما يتشدقون به من حرية وديمقراطية وحقوق إنسان، وأذكر أن لأحمد خالد علاقات حميمية ببعض خطباء هايد بارك ومنهم الخطيب الانجليزي المسلم محمد ويبستر رحمه الله.
 
لم يطل المقام بأحمد خالد في لندن إذ اكتشف أن اللغة الفارسية التي ابتعث للتخصص فيها لا يمكن دراستها في انجلترا باللغة الانجليزية، بل لابدَّ من دراستها في موطنها الأصلي إيران، إلى جانب أن رئيس قسم اللغة الفارسية بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية مِسْ لمبتون لم تكن على شيء من التأديب أو الخلق.. كنا نشاهدها عجوزاً شَمْطَاء رَثَّة الهيئة صُلْبة الملامح، تربط دراجتها بساحة الكلية ثم تتوجه بمشية عسكرية إلى مكتبها، لا تلتفت يمنة ولا يسرة، وكأنها من بقايا مُشاة الامبراطورية في القرن التاسع عشر، لا بدَّ أنها كانت تعامل تلاميذها بشيء من العنجهية والقسوة ولا سيما أولئك التلاميذ من المستعمرات القديمة.
فجأة غادرنا أحمد خالد متوجهاً إلى المملكة، ثم سمعنا بعد ذلك بتوجهه إلى ايران والتحاقه بجامعة طهران. انقطعت أخباره عنا ما يزيد على أربع سنوات، ولكننا وجدناه أمامنا عندما عدنا إلى الرياض سنة 1386هـ - 1966م، وكنا أكبر مجموعة تتخرج بالدكتوراة من الجامعات البريطانية، أنا والزملاء: أحمد الضُبَيِّب، وعبد الرحمن الأنصاري، وحسن شاذلي فرهود، وعبد الغني حمزة، أما أحمد خالد فكان أول سعودي يحصل على الدكتوراة في اللغة الفارسية من إيران، أما ما حدث خلال هذه الثلاثين عاماً الأخيرة - وذلك حديث يطول ويطول - ولكن دعوني أجتزئ شيئاً قليلاً منه ولا سيما ما يخص الضيف المحتفَى به هذه الليلة د. أحمد خالد البدلي:
1 - انصرف د. أحمد خالد من قسم اللغة العربية إلى قسم التاريخ لحاجة التاريخ إلى أساتذة آنذاك، ولكن لم يمكث فيه إلى الأبد كما فعل الأنصاري، بل سرعان ما عاد إلى قسمه الأصلي معافىً مشافى وكان كتابه عن الدولة القاجارية أثراً من آثار ذلك الانحراف الأكاديمي، وربما كان كتابه الثاني عن الناصر خسرو من آثار تلك الموجة التاريخية.
2 - من أجمل ما كتب د. أحمد خالد تلك المقالات المسلسلة التي كان ينشرها في جريدة الجزيرة بعنوان غروب إيران في رباعيات الخيام، فحبذا لو أعاد طبعها في كتاب وأضاف إليها ما ينبغي إضافته.
3 - كان بإمكان د. أحمد خالد أن يُثْري الأدب العربي بالكثير من الترجمات الفارسية ولكن يبدو أن الأحداث الأخيرة في إيران قد قضت على الكثير من الطموحات المشروعة والعلاقات التاريخية الحميمة بين الأدبين العربي والفارسي، ولا أذكر من مشروعات الزميل أحمد خالد سوى (البومة العمياء) كما سمعتم لأحد أدباء إيران المشهورين.
وأخيراً فإني أرجو للزميل الصديق طول العمر والصحة والعافية، وأرجو أن يجمع ما تناثر من كتاباته العديدة، ويطبعها في كتب تكون في متناول أيدي القراء.
والسلام عليكم ورحمة الله.
 
عريف الحفل معلقاً:
- ونحن بدورنا نرجو ذلك، كما نرجو هذا الجيل المؤسس لو كتب ذكرياته عن الجامعة وعن الدراسات العليا، لأنها سوف تفيد كثيراً في تاريخ الحركة الثقافية والاجتماعية في المملكة.
والآن الكلمة لأحد أبناء ذلك الجيل الرائد، وأحد أبرز الباحثين الآثاريين في العالم العربي الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الطيب الأنصاري:
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1069  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج