الاثنينية ::المكتبة

مكتبة الاثنينية

بين العبقريّة والجُنون

(1)

قال صاحبي: كنتُ ذات أمسية أتنزّه وبعض أصدقائي في بعض بساتين الطائف، فتناهى إلينا صوت ناي رائق اللحن عذباً، وعندما أخذنا سمتنا إليه إذا صاحبه معتوه لا يفهم ما يُقال! فكان مشهده موضع عجب لا يُدانى..

قلت: لا عجب فيما أرى.. فالحواجز بين المعتوهين والعباقرة أدق من أن تستبينها. ولقد تعمق أكثر من بحاثة في دراسة الحدود الفاصلة بين النبوغ أو العبقرية من جهة والعته أو الجنون من جهة أخرى فلم ينتهوا إلى نهاية يصح الوقوف عندها.

وأنت ترى هذا مشاهداً. فأكثر العباقرة وأكثر النوابغ لا يحسنون معاشرة غيرهم ولا يتقيدون في المعاملات العامة بما يجب أن يتقيدوا به، وأنت ترى في أكثر تصرفاتهم من الشذوذ ما ينفي عنهم مسحة العقل أحياناً.

أعرف فناناً من أشهر عباقرة الكمان في بلد عربي كتبت الصحف عن شذوذه أغرب قصة تكتب. فقد كان مدعواً لإحياء حفلة كبيرة في بلد ما، ولمّا حضر انتظر الناس أن يطربهم ويشنف أسماعهم فلم يفتح له بشيء كما قال، وحاولوه ليداعب كمانه بأية محاولة يراها فأقسم أن يده لا تطاوعه ليمسك بالكمان: ولمّا أكثروا عليه في غير جدوى وكان الليل قد أوشك على نهايته أبى إلاّ أن يستأذن للخروج.. وما مضت بضع دقائق حتى سمع صوت كمانه يملأ الجو حنيناً آتياً من نافذة قريبة من بيت يسكنه صديق له. ولما عوتب في هذا أقسم أغلظ الأيمان أنه لا يدري لِمَ عصاه النغم وكيف واتاه.

هذا لون من معاشرة بعض النوابغ وهو كما أراه لا يختلف كثيراً عن تصرفات أي مجنون..

وفي أوروبا اليوم يعنون ببعض المجانين ممن تتجلّى مواهبهم في الرسم أو التصوير أو الموسيقى، ويرون أنهم ربما اكتشفوا ألواناً من نبوغ المجانين لا تختلف كثيراً عن مواهب العباقرة المشهورين. ويؤكد عالم نفساني أن من مواهب بعض العباقرة ما يسلكهم مسلك المجانين.

وقد قرأت من أخبار ميونيخ أن نفراً من أطباء العقول فيها استطاعوا فتح معرض خاص عرضوا فيه رسوماً ولوحات زيتية خطتها ريش المجانين في مصحات من ألمانيا والنمسا وهولندا والنرويج، وإن بعضها أثبت لبعض المجانين مواهب لا يحلم بها فنان عادي، بل ولا تقل روعتها عما تخطه ريشة نابغة من نوابغ العصر! فلا تستغرب على صاحبك المعتوه ما رأيت فربما اكتشف العلم في أعماقه مواهب عبقري نابغة.

ونحن نشاهد في بعض المعتوهين في بلادنا تجليات غريبة يسمون بها إلى أوج لا نعرف كيف نفسره، ولو درسها العلم لأدرك أنها بعض معاني العبقرية كما نشاهد من تصرفات بعض العباقرة وشذوذهم ما يجمعهم بالمجانين في كثير من بدواتهم.