(( كلمة الشاعر يحيى السماوي ))
|
- الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين الصادق الأمين. |
سلام عليكم. |
يبدو أن ثمة التباساً قد حَدَث، أنا لم أكتب قصيدة إنما أردتُ أن اتحدث عن معالي الدكتور العواجي بشكل أنا رأيته فيه، العواجي عاشقاً.. هكذا أردت أن أقول: |
لا أسهل من أن يستنشق المرء عبيراً.. لكن الصعوبة تكمن في شرح تفاصيل ذلك العبير. |
وإذا كان بمستطاع العَدَسة تصوير ما تراه الأحداق، فإنه من العصيّ تصوير ما تراه الروح؟ |
ولأن الشعر ليس سوى روح ملحّنة - فقد كان صعباً عليَّ رسم شاعرية الدكتور إبراهيم العواجي، طالما كان صعباً عليَّ رسم تضاريس الجغرافية الشعرية.. ولذا أعترف مُسبقاً بأن ما سأقوله حَبْس فضاءات الشعر بعصافيرها ونجومها و "صبوات مبدعيه واختلاجاتهم". |
ما سأقوله إذن، هو حرف - مجرد حرف يُتهجَّى، من كتاب كبير، ولا ثَمَّة حرف يمكن أن يستوعب معاني كتاب، ولسبب جوهري هو أنه ليس هناك من كأس يمكن أن يستوعب ماء نهر بكامله. |
قد لا يكون بمستطاع زهرة واحدة، شرح تفاصيل عبير زهور الحديقة كلها.. بيدَ أنَّ المؤكد، أنَّ وريقة واحدة من زهرة بذاتها، كافية لشرح تفاصيل تلك الزهرة. |
وفق هذا المنظور، وجدتني لا أستطيع رسم صورة صادقة للشعر السعودي كله من خلال الشاعر العواجي - لكني - أزعم - بأنني استطعت رسم الوردة العواجيَّة من خلال وريقة واحدة من وريقاتها - وبشكل أدق: معرفة تفاصيل تلك الوردة المخضبة بالعَرار - لا بِعَرارِ نجدٍ ولكن: بِعَرارِ روح الفتى النجدي!! |
ولقد كان ديوانه "مدٌّ والشاطئ أنتِ" تلك الوريقة - والنافذة التي حَّدقتُ من خلالها بالقامة الشعرية الباسقة للدكتور العواجي فعقدت معه الأُلفة قبل أنْ أرمي شِباك مقلتيّ لاصطياد عصافير عينيه، وقبل أن يستريح زورق يدي في مرفأ يده الواثقة الواثقة - يده التي عرفتْ كيف تنسج للحبيبة منديلاً من العَرار، وعرفت في الوقت ذاته كيف تغرس السنبلة للوطن والصارِية للشراع المُبْحر تجاه اليقين. |
كان ذلك قبل ثلاث سنوات اصطحبني معاليه لأمسية في دارة أخي الأديب الأستاذ حَمَد القاضي بالرياض.. يومها عشنا أمسية شعرية عذبة مثل مطر ناعم.. هادئةً كنعاس الطفولة.. دافئة كخبز الأمهات - ونقية كتراتيل بني عذرة - أو هكذا خُيّل إليَّ وأنا أستنشق عبير زهرته الشعرية، وهو يَسْكب مياه الدهشة في آنية الجميع، ويغسلنا بالخَدَر اللذيذ - فقد كان العواجي خبز الأمسية، وتفّاحتها الذهبية - وما كان أجمله من انتشاء.. يومها هَمَسْتُ في أذن صديقي الأستاذ حمد القاضي: "طوبى لخمية الشعر بهذا الوتد الممتد في لحم الأرض".. وما خاب ظني حين رأيته في صالة أخيلتي الوريث الشرعي لقيس بن الملوَّح، وتوأماً لجميل، وسادن حرمة العشق والوَجْدِ والعنفوان.. هذا ما شعرت به وأنا أسمعه يصدح: |
ثلاثُ سنين أمْ ثلاثُ ثواني |
سيَّان عندي أينما تلقاني |
ما أنتِ إلاّ موعدٌ أبدعته |
أما الهوى فله زمان ثاني |
وأشقُّ في درب التأمل جدولاً |
يعلو به حسي عن الخذلان |
أرنو إليها حين يُبغتني الضَنا |
فيعود نشواناً إليَّ بَناني |
وتسافر الأيام حولي لا أرى |
فيها سواكِ مُعَطِّراً لزماني! |
|
|
ولنلاحظ تلك النرجسية المشروعة للشاعر العاشق، الشاعر الذي اختصر كل نساء الأرض في أنثاه الذهبية، فكانت أيقونته الزرقاء، وكان دهرها - غير أن للدهر دهرا -ً هو حبُّ الشاعر، هذا الحب الذي صار أكبر من الأيام فإذا بالأيام تدور حوله مثلما يدور الناعور حول النبع. |
يُخيل إليَّ أن الشاعر العواجي وإن كان يُنْشد من داخل السرب، إلاَّ أنه كان سِربْاً بمفرده.. فقد كانت له حنجرته الخاصة - وله قاموسه الخاص وجملته الشعرية الخاصة - وفوق هذا وذاك، له حُبُّه المتفرد.. حُبُّه الذي لا يشبهه فيه أحد في زمن يستعير به العشاق تباريح سواهم، أو يتبادلون قميص الحب بالطريقة التي يتبادل بها البعض تحايا الشفاه لا القلوب. |
شاسعة مثل بريّة نجدية شاسعة - هي حياة العواجي.. ومع ذلك فهي أضيق من القبّعة - حين لا تُضاء بشمس الحب.. لم يكن فيها بحاجة إلى شموس ونجوم.. فقد كان يريد فانوس الحبيبة، لأن العواجي قد صنع بذاته عالمه المتأمَل بالطريقة التي صنع وأبدع فيها موعده الأبديَّ مع الحب حين قال: |
ما أنتِ إلاّ موعد أبدعتُهُ |
أما الهوى فله زمان ثاني |
|
|
ولأنه الوريث الشعري لعشَّاق بني عُذْرة فقد رفض أن تضاء غابة قلبه بغير فانوس الحبيبة، حتى لو كانت مسامَّات قلبه وفضاءات عينيه مطرَّزة بالنجوم والأقمار، وها هو ذا يعترف عبر هذه الصرخة الأنيسة، الصرخة التي لا يسمعها غيره، أنثاه الذهبية فيقول: |
أضيئي بعينيك ليْلَ الدُّجَى |
ليبقى زماني كصبح نَضِرْ |
فلا تعرف الشمسُ دَرْبَ المغيب |
ولا يختفي من سمانا القَمَرْ |
فلحظة نَجْوى مَداها رؤاك |
تساوي بمقياس عمري الدَّهرْ |
|
|
أو فلنسمع هذا الهمسَ المدوَّي: |
ليسَ أحلى من الكتابة فيك |
غَيْرَ تقبيل ناظري ناظرَيْك |
يا أنْتِ ثَوْرتي وسُكوني |
وحروفي أودَعْتُها خافِقَيْك |
|
تُرى مَنْ منا لا يهمس مثل هذا الهَمْس؟ حيث يضجُّ به الشوق لقناديل من سكنتْ قلبَه والذاكرة.. مرة خِلْتُه الناطق الرسمي باسم خبز هوى العشاق.. العشاق الذين ما برحوا يرسمون في ذاكرتهم وجه ابن المُلَوِّح وعُرْوة بن الوَرْد، وجميل، ويرسمون معه خيام ليلى وعَفْراء وبُثَينة، هكذا شعرت به وقد صرخت باسم قلبي حينما قال: |
لا شيء يطفئ وَهْجَه فاتَّقدي |
يا نار سْمرٍ وزيدي جَذْوتي لهَبَا |
وأشعلي حُمَمَ الأشواق في كبدي |
فإنني عاشق يَسْتلهم الوَصَبَا |
لا تطفئ النارَ يا هذا فلو عَرَفَتْ |
عيناك لـونَ الـهوى لـن تطفـيء الحَطبَا |
فَزِدْ لَظاها سعيراً إنَّ بي ظمأ |
للصَبِّ لا يرتوي حتى ولو شربا |
هذا هو العشق، لولا العشـق مـا صَدَحتْ |
بلابلُ الشعرِ يُحيي الصبَّ والأدَبا |
ولا عَرَفتْ جنونَ الحبِّ مِنْ زمن |
ولا افتدى فارسٌ أرضاً ولا رَهَبا |
|
|
لا فُضّ فُوك يا دمن عَرار نجد، ويا ربيب المنسك الحجازي، فوالله كانت، قصيدتك هذه الباعث لي بكتابة قصيدتين: إحداهما لثمتْ أوراق شعرك - والأخرى لثمت يراعك - ولا أدري إنْ كانت هنالك نارٌ أكثر عذوبة من النار التي ينبض بها تنور الحب؟ فالعاشقون يا سيدي لهم طبع تنانير القرى: يمنحون الخبز للآخرين ويكتفون برمادهم: ولقد كنتَ حقاً تَنُّوراً ملأ مائدة العشق بخبز المحبة - مثلما كنتَ محْراثاً خطّ على الأرض حقلاً تتناسل فيه البيادر!! |
ولأنَّ العواجي عاشق كبير، فقط شَطَر برتقالة قلبه نصفين، الأول خضَّ به وخَضَب به وجه معشوقته الذهبية، والنصف الآخر عَصَره فوق تراب الوطن، فالعاشق الكبير لا يمكن إلا أن يكون وطنياً كبيراً، أو هكذا أراد العواجي أن يقول في هذه الأبيات: |
احتار أيهما حُبِّي ومُلْهمتي |
وأصْـلُ وَجُـدي وأن كانت هـي السَّبَبا |
ذاتُ العيون التي أسكنتُها بَدَني |
وفي قصيدي وفي قلبي وما وَجَبا |
أم أنها الأرضُ أعطَتْني هويتَها |
فصِرتُ معشوقَها والأصلَ والنَّسَبا |
لا فَرْقَ عِنْديَ فالأشباه واحدة |
كلاهما السرُّ ما غاب، ولا اغْتَربا |
|
|
ولأن النهر لا يمكن أن يكون إلا بضفَّتين، لا بضفةٍ واحدة، فقد أدرك الشاعر العواجي هذه المعادلة الصعبة، فكانت لضفتي نهر قلبه ملامح امرأة تسكن في الذاكرة، ورائحة أرض تسكن العقل والضمير، هكذا تصوَّرْتُ العواجي. |
ولكم الشكر.. والسلام. |
* * * |
- في نهاية هذا الملتقى الكريم، نشكر أصحاب المعالي والسعادة الذين شاركوا معنا بالاحتفاء بمعالي الضيف الدكتور إبراهيم العواجي. ويقدّم الآن صاحب الاثنينية اللوحة التذكارية للضيف فليتفضل. أيضاً هناك لوحة من الفنان خالد خضر ولوحة أخرى من الفنان عبد الله إدريس مقدمة للضيف الكريم، وسوف نلتقي الاثنين القادم إن شاء الله بالدكتور أحمد خالد البَدَلي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
··· |
|