شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صبي السلتاني

* * *

والسلتاني "نفع الله" شوّاء كان معروفاً بطريقته الخاصة في شيِّ اللحم في أكثر مدن الحجاز، يوم كان اللحم وحده عمدة الطعام؛ وكان سعره مشوياً في دكان السلتاني لا يزيد عن قرشين للرطل.
لا أدري لِمَ سُمّي هذا النوع من الشيِّ (سلات)، إلاَّ إن كان اشتقاقاً من اللغة، ففي اللغة سلت الشيء قطعهُ. وكان السلتاني في بلادنا يقطِّع اللحم بصورة فنية بعد تجريده من العظم إلى شرائح خفيفة، ثم ينصب في دكانه (مِنَصَّة) عالية تتوسط الدكان، يعتلي فوقها على كرسيه ويجعل أمامه كانون الشواء، وهو كانون واسع يعلوه حجر رقيق الصفحة يبسط عليه شرائح اللحم ويتحلّق الزبائن حوله تحت المنصة؛ "هات من فضلك نصف رطل.. وقمِّر معاه العيش".
وهو لا يعطيك نصيبك من الشواء إلاَّ منجماً.. ملقاطه يتخلَّل شرائح اللحم ليلتقط الناضج فيجعله في طبقك، وهو لا يزيد بحال عن قطع معدودة خمس أو ست تتلمَّظ بها لبينما ينضج الباقي؛ فيوافيك ساخناً طبقاً بعد طبق.
وأكبر ظني أن أستاذنا القنديل أدرك آخر هذا العهد، وكان أحد زبائن (السلات) يوم كان يعيش في مكة عاملاً في رئاسة تحرير صوت الحجاز وكان مغرماً بدكاكين الشواء من لحوم وقلوب وأكباد، وكان معروفاً لفوالة باب العمرة وأصحاب المطبق؛ والمعصوب فيها.
وكان من أشهر دكاكين السلات في مكة دكان عم خليل السلتاني بالقرب من باب العمرة، وهو رجل طويل، عريض ما بين المنكبين، تزدحم بطنه البارزة بين الكانون والكرسي فوق المنصة؛ فينثني ضاغطاً عليها ليلتقط الناضج من الشرائح في أقصى طرف من حجر الشواء. وكان زبائنه يستمرئون الطعام عنده لفنه وفرط عنايته بتشريح قطع اللحم وشيِّها، وهو إلى هذا خفيف الظل حاضر النكتة يرسلها بداهة، فيضج الدكان بضحك المزدحمين من زبائنه، وتصافح أذنه أختها من أحد الطاعمين؛ فيرسلها قهقهة عالية تهتز لها مراقية وتسمع قرقرتها في بطنه كأنها قرع الإناء من النحاس.
وصاحبنا خليل السلتاني كان معروفاً إلى جانب فنه في الشواء وبراعته في النكتة بحرصه على الهللة لا يشتري بها الإبرة إلاَّ إذا عزَّ على أمه أن تستعيرها من الجيران أو ضاق الجيران بها.. واضطروها لتترك خليلاً يلبس قميصه بادي الشقوق.. وعندها يجد خليل أن لا مناص من الهللة يقدمها قرباناً على مذبح دموع أمه الغالية.
ويبدو حرص خليل وشحه البالغ واضحاً في طريقته وهو يختار صبيَّه في الدكان.
كان من مميزات صبيه (أبو طافش)، أنه أمين على دكان عمه بشكل نادر، ولكن الخبثاء حول خليل لا يعلِّلون أمانة صبيه بما يعرف من خلال الأمناء، فهم يقولون إن فهمه لا يُحيط بالحيل التي يجب أن يمتاز بها المختلس، فهو إذا صفا ذهنه مرة واستطاع أن يعي ما فوق العشرة في حساب الهلل عجز في مرة أخرى أن يحصي أكثر من الخمسة، أو اضطر أن يقول لك إنها خمسة وثلاثة وعليك معرفة مجموعها، وكل هذه الذهنية لا تجرؤ على اختلاس الحرام لأنها ستلتاث عند أول ملاحظة تواجهها؛ فمن الخير أن يكون: "الباب اللي يجيك منه الريح.. سدّوا واستريح".
كان خليل يعرف هذا في صبيِّه ولهذا عاش مطمئناً إليه راضياً به، ولِمَ لا يطمئن ويرضى وهو إلى جانب هذا قنوع حسبه من عمه أن يملأ بطنه من فضلات ما يُطعم الناس، دون أن يطمع في أجر لخدمته على غرار ما يفعل غيره من الصبيان.
وهو في خدمته (ببطنه) غير مغبون لأن كفاءته في الخدمة لا تتخطَّى أبعد من هذا المستوى في سوق الصبيان.
- "اجرِ يا (أبو طافش) اشترِ ليمونة للزبون من عمك سعيد من قريب".. نعم يشتريها من عم سعيد.. ولكن عم سعيد لا يوجد في الدكان هل يشتريها من غير عم سعيد؟ هنا أكثر من بائع ليمون.. ولكنه لا يحب عصيان عمه.. فلينتظر عم سعيد.. لينتظره ساعة أو ساعتين فطاعة الأمر خير سلوك الأدب.. ربما قلق الزبون ولكن ما علاقته بهذا ما دام عمه لم يأمر بشرائها إلاَّ من عم سعيد.
خذ يا (أبو طافش) أعطِ الطبق للزبون في الركن على يمينك.. ولكن (أبو طافش) لا يعرف يمينه من شماله فيعود بالطبق.. فين يا عمي..!؟.
- يا واد شوف الراجل هناك أبو إحرام أصفر..
ولكن (أبو طافش) من أين له أن يعرف الأصفر والأخضر فلا حيلة في الأمر إلا أن يقف الزبون ليصيح به: أنا هنا يا واد.
ويرسله عمه بعد انتهائه من خدمة الزبائن -"خُذ يا أبو طافش" (الزبدية) اشترِ فيها ربع أقَّة سمن للبيت. فيمشي إلى السمان ويزن له السمن ويفرغه في الزبدية فتستوعبه الزبدية إلاَّ شطراً ضئيلاً بقي في كفة الميزان.. وهنا يتجلّى الذكاء فقد نظر فإذا في قاعدة الزبدية قاع مجوَّف يسع بقية السمن وقبل أن يطول التفكير قلب الزبدية ليتلقى بقية السمن في قاعها المجوف فإذا السمن ملء الزبدية يسبقه إلى الأرض.
فوقف مشدوهاً يتأمل غرابة ما حدث، وتداعت معاني الغرابة في رأسه فرأى أن يتعمق.. فقلب الزبدية ليتأمل جوفها فما راعه إلاَّ السمن يسبقه من قاعها المجوَّف إلى الأرض.
وراعه أكثر ضحكات المستهزئين حوله فاضطرب عليه الأمر.. حاول أن يفهم لِمَ كان للزبدية جوفان؟ وهل من حرج في استعمالهما معاً؟.. وإذا كان فأي معنى لهزء الناس وضحكهم.. اضطرب عليه الأمر فتوترت أعصابه فلم يملك إلاَّ أن يقذف بالزبدية إلى الضاحكين ويعود إلى الدكان ليستوفي مكتوبه فيه.
وأعطاه عمه قطعة استامبولي ذات القرش ليشتري له تنباك كيزرون -"شوف يا واد دكان باصلوح عنده كيزرون زي الكهرم.. ترى لا تجيب تنباك مسود".
ويجري أبو طافش إلى باصلوح الحضرمي فلا يجد عنده الكيزرون إلاَّ المسود فيحتار في الأمر.. ولا تطول حيرته كثيراً فقد سمع باصلوح يحدث أحد الزبائن بأن الكيزرون لم يصل من جدة وفهم من ثنايا الحديث.. ولا أدري كيف استطاع أن يفهم -أن في جدة يباع الكيزرون مثل الكهرم في أكثر الدكاكين فقاده العزم في غير تردد إلى طريق جدة ليثبت لعمه بطولته في الموقف.
انتظر العم خليل أن يعود أبو طافش بالكيزرون وطال انتظاره ثم طال، فقام يتعقبه عند دكان باصلوح فلم يجد عنده ما يشفيه فذهبت به الظنون عشرات المذاهب إلاَّ أن يسوق الذكاء المفرط أبا طافش إلى جدة في شراء الكيزرون.
ومضت يومان عانى العم خليل في دكانه من خدمة الزبائن عنتاً لا يطاق وأشرق اليوم الثالث فإذا أبو طافش يشرق بإشراقته على باب الدكان وقد تأبط لفة التنباك.
- فين كنت يا (أبو طافش)؟ فلم يملك أبو طافش إلاَّ أن تهالك على نفسه في إعياء شديد وراح يروي لعمه قصة التنباك الكيزرون في ألفاظ لا رابط بينها استطاع عمه بما تعوَّد أن يفهم من لهجته الخاصة أن ذكاءه الخارق ساقه إلى جدة في سبيل الكيزرون.
لم يدهش عمه كثيراً لما حدث فقد تعوَّد مباذله الشاذة وأطواره الغريبة المتطرفة ورأى من الخير أن ينسى ما حدث إبقاءً على خدمته المجانية.
ومضت الأيام تتوالى بعدها الأسابيع حتى أقبل العم خليل ذات صباح إلى دكانه الذي تعوَّد أن يجده مفتوحاً مكنوساً، فإذا الباب مقفل وإذا أبو طافش مسجَّى على كرسيه الذي تعود أن ينام فوقه عند الباب جثة فارقتها الروح.
واجتمع الناس على النبأ وتطوع بعضهم فنقلوه وكرسيَّه إلى المستشفى حيث أعلنهم الطبيب موته بالسكتة القلبية.
إلى هنا.. كان الأمر عادياً لا يزيد في مجموعه عن حياة شخص عاش كما يعيش كل غبي مر بالأرض ثم انتهى به أجله إلى حيث تنتهي الآجال بأغبياء الناس وأذكيائهم على حد سواء.
ولكن ما كشفه الموت من فضائح أبي طافش كان من أروع ما تقصُّه نوادر الحكايات والطرائف.
ذلك أن العم خليل ما كاد ينفض يده من تراب القبر الذي وارى جثمان أبي طافش حتى تذكر أن لأبي طافش صندوقاً في مخزن الفحم داخل الدكان كان يجمع إليه ثيابه، فمال إلى شيخ الحارة يسأله رأيه في الصندوق وهو لا يعرف إلاَّ أنه مجاور جاء مكة من قرية في بادية الشام ذكر له اسمها فنسيها على مر الأيام.
وعلى عادة مشايخ الحارة "روح يا بويا اللي زي دا مسكين إيش عنده تعال نفتح الصندوق وإن كان فيه ثياب مقطَّعة نقسمها على روحه وبس"!!.
ومضيا إلى مخزن الفحم في الدكان وعالجا قفل الصندوق فإذا هو مكين متين التركيب بشكل أثار ظنونهما في بلاهة أبي طافش فألهب إحساسهما حتى جاءا عليه بعد عناء شاق.
ولفت نظرهما أول ما لفت أن العمق في جوف الصندوق لا يتناسب مع مساحة ظاهرهُ فارتابا في أمره وتحسسا جوانبه وزواياه بدقة المرتاب فإذا يد العم خليل تصطدم بزر بالغ الصغر حاولاه ليعرفا مهمته في الصندوق فلم يفلحا، وبدا لهما أنه يُقفل بشكل معقَّد على مخبأ سري، فلم يدر بخلدهما إلاَّ أنه ينطوي على نقود، فاشتعل حماسهما بدافع من عامل الطمع وعمدا إلى ساطور في الدكان راحا يضربان به في شدة نبهت إليهما جيران الدكان فتقاطر الجيران.. ولم تمض بضع ثوانٍٍ حتى احتشد الدكان بالفضوليين كلهم يسأل ماذا جرى.. ماذا حدث؟
وسرى الخبر إلى أقرب مركز للجندرمة (البوليس)، فخفوا إلى مكان الحادث ليروا أمامهم صندوقاً من الصاج السميك اختلفت أضلاعه من هول الضرب دون أن يكشف مخبؤه عن شيء.
ونُقل الصندوق إلى مقر البوليس، وسيق البطلان خلفه مخفورين، ورأى ضابط البوليس بعد أن سمع أقوالهما أن يستعين على فتحه بأحد الحدادين.
واستولت الدهشة على المجتمعين عندما انفلق المخبأ عن حزمة من قصاصات الصحف التركية وأوراق أخرى مكتوب بعضها بالحبر وبعضها الآخر بالقلم الرصاص.
لئن ذهبت بعض الظنون إلى أن أبا طافش يتخذ في صندوقه مخبأ سرياً معقداً يخفي فيه ثروة يجمعها فإن قرائن الحال لا تؤيد مثل هذه الظنون، فقد عرفوا من بلاهة وعيه ما لا يستقيم مع هذا الوعي، فكيف بهم وهم يكتشفون أن مخبأه السري يُخفي قصاصات مضمومة بعناية إلى جانب أوراق مكتوبة بشكل منظَّم.
تُرى هل عاش أبو طافش يستعمل صندوقه دون أن يعرف عن مخبئه السري شيئاً، أم عاش معارف أبي طافش يتعاملون مع سر مُغلَق يتظاهر بالعيِّ ويتصنع البلاهة ويتقن دوره كممثل بارع؟.
شرع ضابط البوليس التركي -ولعلنا نسينا أن نذكر أن وقائع القصة كانت في أواخر العهد التركي- شرع يقرأ باللغة التركية في أول ورقة صادفها تقريراً يُدين موظفاً تركياً متقاعداً بالعمل ضد الدستوريين في استمبول وأنصارهم في مكة، فلاحت الدهشة على ملامحه وارتسمت بصورة واضحة عندما قرأ اسم المدين وهو شيخ وقور معروف في منطقة باب العمرة ولا يزال يعيش في البيت الذي يجاور دكان السلتاني.
وقرأ في غيرها أسماء أشخاص لا يزالون أحياء يومها كان بعضهم من الأتراك والبعض الآخر مكيِّين كانوا يختلفون إلى بيت الشيخ المتقاعد في أوقات سُجِّلت عليهم تواريخ أيامها وساعاتها، كما قرأ في بعض الصحف أخباراً عن بعض تنقلات جماعة من السوريين وآخرين من العراقيين كانوا يصلون إلى مكة في أوقات متفاوتة فيتسللون إلى بيت الشيخ لزيارته في ساعات سُجِّلت أرقامها وتواريخها في أوراق مرفقة.
رأى الضابط أنه أمام واقعة حال دقيقة بالغة الغرابة، فلم يملك إلاَّ أن يسجل بها محضراً يُذيله بشهود الحادث، ثم يصرفهم ليرفع به إلى والي مكة المختص فيها بحماية الدستور.
وظل المجتمع بعدها في باب العمرة وفي كثير من مناطق مكة لا حديث لهم إلاَّ بلاهة أبي طافش الذي عاش لا يُحسن جمع أكثر من خمس هللات، ويتعذَّر عليه إذا امتحن أن يعرف شماله من يمينه، أو يفرق بين الأصفر والأخضر؟ ثم تنتهي نهايته بمفارقات يستعصي حلها على الفهم الذكي.
كاد أن ينسى الناس بمرور الأيام والأسابيع أبا طافش وما في قصة أبي طافش من غرابة نادرة حتى فوجئوا في أحد الأيام بأوامر القبض على الشيخ المتقاعد.
وتكشَّفت الحوادث عن القصة فإذا أبو طافش من أمهر الجواسيس الذين خدموا الدستوريين في كثير من بلاد العرب وقد ندبته السلطة ليُحقِّق ريبتها في الموظف المتقاعد، فمثَّل دوره باتِّقان رائع في دكان السلتاني؛ ولكنه ما كاد يعد تقاريره ويشرف بمهمته على النجاح حتى سبقته الجبهة المضادة فكشفته للموظف المتقاعد.
ورأى الموظف المتقاعد أن يتخلص منه، فأطلق في أنفه وهو نائم على كرسيِّه دخاناً مخدراً، جاز أمره على الطبيب المناوب فأمر بدفنه حياً ليلقى حتفه بعيداً في غيابة القبر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1217  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 156
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج