شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ إبراهيم عبد الله عمر مفتاح))
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أصحاب المعالي أصحاب الفضيلة أصحاب السعادة سيداتي سادتي أيها الإخوة من ذوي العلم والأدب وعشاق الحرف والكلمة السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
بداية أتوجه بأحر الشكر لصاحب هذه الاثنينية التي أصبحت معلماً من معالم الفكر والأدب في وطننا الحبيب وطن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 1-5)، نعم أتوجه بأحر شكري للوجيه الشيخ عبد المقصود خوجه على دعوته الكريمة لي لأكون في هذه الليلة الطيبة ضيفاً لديه ومكرماً في اثنينيته كما أتوجه بالشكر لكم أنتم الذين أسعدتموني بهذا الحضور المتميز الذي يملؤني خشية بأن لا أقدم ما يليق بمستوى هذا التكريم ومستوى وجودكم فيه، إنني أصدقكم القول أن هذه الدعوة كانت مفاجئة لي لأجد نفسي من خلالها محاطاً بإصغائكم ومسيجاً بنظراتكم، كإنسان قادم من وراء البحار، فرفقاً بأنفاسي التي تأتيكم من تحت الماء. صدقوني إذا قلت لكم إن الحيرة قد غلفتني بقلق الاختيار، وطرق ذهني سؤال حاد جداً ماذا أقدم لكم في هذا المساء وأخيراً وجدت نفسي في حالة هذيان جميل أردد ما بيني وبين نفسي وجدتها نعم وجدتها إنها جزيرة فرسان أو على الأصح جزر فرسان، يا سادتي أرخبيل جزر فرسان أكبر أرخبيل بالقرب من الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الأحمر، وهو الساحل الجنوبي الغربي للمملكة العربية السعودية حيث يبلغ عدد جزره 262 جزيرة أكبرها جزيرة فرسان التي يبلغ طولها من جنوبها الشرقي إلى شمالها الغربي 70 كلم تقريباً، كما يبلغ متوسط عرضها حوالي 20 كلم، لأنها تتسع في جهات وتضيق في جهات أخرى، وتأتي من بعدها فرسان الصغرى أو كما نسميها محلياً جزيرة السقيد، أما الجزيرة الثالثة فهي جزيرة قماح آخر جزيرة سعودية مسكونة تقع على مشارف الممر الدولي للبحر الأحمر، وبسبب أهميتها الاستراتيجية بنى بها الألمان مستودعاً كبيراً قبل الحرب العالمية الأولى بعدة سنوات، كان الهدف منه تزويد البواخر العابرة والهدف من بنائه تزويد البواخر التي تمخر بين قناة السويس وباب المندب بالفحم الحجري كما يقول مؤرخنا الراحل محمد أحمد العقيلي رحمه الله. ولا يزال السور الرئيسي لهذا المستودع الحجري قائماً إلى اليوم، هذه الجزر الثلاث هي المسكونة فقط وتضم من السكان ما يقرب من 15 ألف نسمة. هذا مختصر للمعلومات الجغرافية لهذه الجزر أما تاريخياً فإن المؤرخ ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان يقول: فرسان بالفتح والتحريك وآخره نون نواحي فرسان ويقال سواحل فرسان، وابن الكلبي يقول: مال عنق من البحر إلى حضرموت وناحية أبين وعدن ودهلك فاستطال ذلك العنق في بلاد فرسان والحكم بن سعد العشيرة، كل ذلك يقال له سواحل فرسان، ويقول ابن الكلبي فرسان منهم من ينتسب إلى كنانة ومنهم من ينتسب إلى ثغلب، فيهم بأس وقد تحاربهم بنو مدين، ويحملون التجارة إلى بلاد الحبش، ولهم في السنة سفرة وينضم إليهم كثير من الناس، ونساب حمير يقولون إنهم من حمير، وحول تسميتها بهذا الاسم فرسان توجد تداخلات تاريخية فبالإضافة إلى ما قاله الحموي وابن الكلبي، جاء في كتاب التعريف بالأنساب والتنويه لذوي الأحساب لمؤلفه محمد بن أحمد إبراهيم الأشعري، وعن حامد بن عمر بن حرب بن جشم فمن ولده عمران الجباب ابن معاوية بن عمران ومن فرسان بن عوف بن عمران، ومن هذا النص يتضح أن فرسان بن عوف هذا قد سميت الجزيرة باسمه، وفي نفس الكتاب تحت عنوان نسب فرسان بن عمر بن غنم بن ثغلب ويقال فرسان جبل في الشام اختطه عمران الذي يلقب بفرسان لولده تسموا به، ثم أتوا إلى هذه الجزيرة فسموها باسم موطنهم الأصلي، ومما أذكره أنني قرأت استطلاعاً للرأي عن مدينة جدة في مجلة العربي الكويتية عندما كان يرأسها الدكتور أحمد زكي أشار فيه كاتب الاستطلاع إلى أن مباني جدة القديمة أخذت حجارتها من جبل فرسان وهذا الجبل يقع بين جدة والمدينة المنورة، والسؤال الحائر هنا هل هذا هو الجبل الذي أشار إليه المؤرخون كموطن أصلي للفرسانيين. ويشير تاج العروس في جواهر القاموس للسيد مرتضى الزبيدي في رسم فرسان بقوله: وفرسان محركة جزيرة مأهولة كما قال الصاغاني في العباب أرسيت به سنة خمس وستمائة وعندهم مغاص الدر، ولكن يبقى السؤال المعلق هل هؤلاء الذين أشار إليهم المؤرخون هم أول من سكنوا فرسان أنا أشك في ذلك، هذا الشك ظل قائماً عندي إلى أن جاءت قبل سنتين تقريباً سفينة أبحاث تسمى مدين تابعة لشركة أرامكو برئاسة بروفسور بريطاني اسمه جيف بيلي، يقال إنه عميد جامعة يوركي في بريطانيا ومعه عدد من العلماء السعوديين من بينهم الدكتور عبد الله الشارخ، وعندما سألت البروفسور البريطاني عن مهمتهم قال مهمتنا البحث عن تاريخ من قبل، فسألته ماذا وجدتم في فرسان قال وجدنا أكثر من ستين موقعاً على أحد السواحل وعندما فحصنا محتوياتها من القواقع والأصداف وجدنا حسب أجهزتنا العلمية أن هذه المواقع تدل على تجمع سكاني في هذه الجزيرة منذ ستة آلاف سنة، ومن هنا يصبح شكي حقيقة أو شبه حقيقة بأن فرسان وجماعته ليسوا هم أول من سكن فرسان. ولأن المجنون قيس بن الملوح قد قال عن حبيبته ليلى:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
فهلا بأخرى غير ليلى ابتلانيا
فهذا هو حالي مع حبيبتي فرسان التي ينطبق عليها قول شاعر الجنوب محمد بن علي السنوسي رحمه الله، وهو يتكلم أو بالأحرى يشرح حال منطقته جازان ومدنها وقراها عندما قال:
عذارى لم يفض لهن ختم
ولا كشف النقاب لها نقاب
ولعل من الأشياء التي لم يعرها الآخرون أي انتباه في فرسان تلك النقوش التي أدارت عنقي منذ طفولتي وبدايات نشأتي المعرفية، عندما عبث بها من لا يقدر قيمتها التاريخية والعلمية، كانت تلك النقوش حميرية بالخط المسند الجنوبي في مرحلتيه الأولى والثانية، ولكن الفائدة منها لم تستكمل لأنها قد كسرت إلى أجزاء وقطع لا تدل على أي معلومات سوى بعض الأسماء المكسورة مثل اسم (مجدم)، هذه القطع سامحني الله هدمت من أجلها بعض الجدران، ونقلتها إلى منزلي حفاظاً عليها من العابثين المستقبليين ثم بدأت أبحث عن تاريخها وزمنها فوجدت أن واحداً من تلك الحجارة حسب كلام بعض المتخصصين كان خطه أي ذلك الحجر، سائداً ما بين 1500-1900ق. م، وهذا الزمن على ذمة المتخصص، ليس هذا فحسب ولكن بعض طلابي ممن علمتهم في الابتدائية أصيبوا بشيء من عدوى اهتمامي بهذه النقوش، أتاني اثنان منهم بحجر عليه نقش لاتيني وجدوه على أحد مقابر مقبرة فرسان في جزئها القديم، وكنت أظنه يحمل معلومات عن صاحب القبر لولا أن البروفسور فرنسوا فيلانوف وهو أستاذ اللاتينية القديمة في جامعة السوربون في فرنسا وزميلته الدكتورة ليلى نعمة لبنانية الأصل فرنسية الجنسية، عندما زارا منزلي في فرسان قد بذلا جهداً غير عادي في تفكيك حروف نقش ذلك الحجر الذي يعود إلى عام 88 ميلادية، في زمن الإمبراطور الروماني تيتوس أئيليدسن هدربادن أنطونان، وفي بقية السطور السبعة، (أوغست) عابد كاهن كبير في السنة السابعة من سلطته وهو قنصل للمرة الثالثة أبو الوطن كتيبة اللواء الثاني الذي سمي تمريانا فورتس والجنود التابعين لها، ويشير النص إلى أن كاستيريوس ابن موبيليوس أبرينوس حاكم ميناء فرسان، وبحر هدكوليوس الذي شيد في زمنه هذا البناء الذي يعتبر هذا الحجر بقية من بقاياه، وهذا الحجر موجود لديّ الآن إلى جانب حجر أكبر منه حجماً ولكن من المؤسف جداً أنه لا توجد عليه إلا بعض الحروف المفردة التي كسرت أخواتها.
أما فيما يتعلق بالديانات قبل الإسلام فقد عثر اثنان أيضاً من طلابي على حجر آخر في مقبرة قديمة في قرية أثرية تسمى قرية (غريّن)، وعليه رسم الصليب، مما يدل على أن ديانة الفرسانيين قبل الإسلام كانت النصرانية وهذا ما يؤكده مؤرخ اليمن المعروف القاضي محمد علي الأكوع في كتابه (اليمن الخضراء)، لأن النصرانية في جنوب الجزيرة العربية تركزت في مكانين أحدهما نجران وهذا موضوع أشار إليه القرآن الكريم في سورة البروج أما نصرانية فرسان فيذكر الأكوع أنها قد جاءت عن طريق الحبشة، والحبشة جاءت إليها هذه الديانة عن طريق كاهن يوناني، وأعود إلى النقوش مرة أخرى إذ وجدت النقوش الحميرية أو المسند الجنوبي والنقوش الرومانية، وبقايا قطع من الأعمدة الرومانية وجدتها كلها في موقع واحد في قرية القصار بفرسان وحول ذلك يقول المؤرخون إن عرب جنوب الجزيرة العربية كانوا يسيطرون على طرق الملاحة في البحر الأحمر، وقد صعب على الرومان أن يخضعوا لسيطرة هؤلاء العرب عندما تذهب سفنهم إلى الهند بلاد البخور والعطور والتوابل، فحاولوا أن يسيطروا على هذه الخطوط التجارية، أو ربما سيطروا عليها ومن خلال هذه المعطيات، أصل إلى نتيجة مؤداها أن فرسان كموقع استراتيجي هام شكلت بؤرة صراع بين الجانبين الرومان والعرب، وهروباً من تسارع الثواني والدقائق التي قد تصل بكم أيها الإخوة إلى شيء من السأم والملل، اسمحوا لي بأن أتخطى عتبات التاريخ إلى حقبة ليست ببعيدة، وهي حقبة التنافس الاستعماري بين الدول الأوروبية على بلدان وطننا العربي حيث كان هناك تنافس محموم بين كل من بريطانيا وإيطاليا على جزر فرسان انتهت باتفاقيات بين الدولتين بموجبها سلمت بريطانيا جزءاً من فرسان إلى محمد علي الإدريسي مؤسس الإمارة الإدريسية التي كانت عاصمتها صبيا الجديدة بمنطقة جازان شريطة ألا يسمح الإدريسي لأي دولة أجنبية بالوجود بفرسان، ومن أبرز الأدلة على الوجود البريطاني في هذه الجزر آبار البترول التي حفرتها إحدى الشركات التابعة لشركة الهند الشرقية طبعاً هذه الشركة بريطانية، في جزيرة زفاف إحدى جزر فرسان وذلك إبان الحكم الإدريسي، إلا أن الملك عبد العزيز يرحمه الله قد ألغى الاتفاق الإدريسي مع الشركة وطلب منها الرحيل وهذا ما يقوله محمد جلال كشك في كتابه "السعوديون والحل الإسلامي"، ولا تزال تلك الآبار موجودة إلى الآن، ومن أراد أن يعرف أكثر عن التنافس الإيطالي البريطاني على هذه الجزر، فليرجع إلى كتاب أستاذنا الدكتور يوسف العارف "العثمانيون وحكومة الأدارسة في عسير". أعتقد أنني أطلت عليكم بجفاف المعلومة التاريخية، ولكنني سأحاول التلطيف.
فرسان وتجارة اللؤلؤ:
أشرت قبل قليل إلى ما قاله المؤرخ الصغاني أرسيت به سنة خمسة وستمائة وعندهم مغاص الدر، ومن كلمة مغاص الدر، أبدأ الحديث عن الغوص واللؤلؤ وتجارة اللؤلؤ بل وعلى البحر بصفة عامة وما وشم به هذا البحر حياة الفرسانيين من أشياء يتفردون ببعضها عبر علاقة ضاربة في جذور التاريخ، لأنهم كانوا ملاك سفن شراعية وكانوا رواد بحر، سواءً فيما يتعلق بالتجارة أو في سلوكهم الحياتي من عادات وتقاليد ومواسم متعددة، لكل منها طابعه الخاص في فن المعمار أو في مجال الغناء والإيقاعات الرابطة، ولعل من أبرز المواسم التي أشرت إليها موسم ظهور أسماك الحريد وموسم مجيء الطيور المهاجرة، وموسم الشدة وموسم الشعبانية وهو ما يعرف هنا في الحجاز بالشعبنة، وموسم العاصفة واشتداد رياح الشمال وجني الرطب، ورقصة الدانة الفرسانية، وسوف أحاول أن أكسر جفاف المعلومات التاريخية ورتابة الوقت، وسأبدأ بالفن المعماري، كانت الجهة الوحيدة التي تشكل سوقاً رائداً لشراء اللؤلؤ هي بلاد الهند التي كان تجار فرسان يسافرون إليها عن طريق عدن، وهناك في الهند يبيعون قماشهم، ويجلبون معهم أشياء مما يوجد في تلك البلاد من ملابس وعطور وبخور، والأهم من ذلك كله الأفكار المتطورة والخامات النادرة بالنسبة لهم في ذلك الوقت، كالبلاط الياباني الصنع، والعاج الذي طعموا به نقوش منازلهم، والدهانات التي ما زالت صامدة أمام عوامل الزمن، وحسبي أن أستشهد بما تبقى من هذه المنازل مثل مسجد الشيخ إبراهيم بن إبراهيم النجدي، ومنزل الشيخ بن يحيى الرفاعي، ومنزل أحمد المنور الرفاعي، الذي اقترح أحد الخبراء بأن يطبع وينقل إلى مكان آخر غير فرسان، كما أن المسؤولين عن القرية التراثية الجيزانية قد أتوا بمعماريين لنقل تصاميمه إلى القرية الجيزانية في الجنادرية وليتهم لم يفعلوا، كما أن البحر والاغتراب والمعاناة قد أرهفت وجدان ومشاعر وأحاسيس الفرسانيين عندما كانوا يناجون غائبين في غيابات المجهول، استمعوا معي إلى هذه الأم وهي تنادي ابنها أو زوجها حين تدلي رجليها على أرجوحة طفلها ساعات الظهيرة: (والي بيادوه والي بيادوه والي بسيدي حان الوقت حان تحميل وشدان والباد رازان والي بيادوه والي بسيدي.. ترهت باثنين ترهت باثنين النون والعين والي بيادوه والي بسيدي ترهت باثنين قمر ونجمين، والي بيادوه والي بسيدي، ترهت باثنين رموش وجفنين واحد مراية واحد كحل عين والي بيادوه والي بسيدي.. البحر حاكم لا له مراضي ولا لازم.. حاكم وظالم.. والي بيادوه والي بسيدي الشوق شوقين عابر طريقين يا شوق لافين والي بيادوه والي بسيدي).
هكذا كانت تنصهر أم وتذوب زوجة وتتفتت حبيبة، في انتظار ساعات اللقاء لقد صورت أنا صورة قريبة من هذه الصور لعروس تودع عريسها ولما يزل في أيام عرسه الأولى عندما تجبره النوخذة ولقمة العيش على السفر إلى المجهول وظلمات الأعماق.
يا سادتي.. ياسادتي.. بعض أشواقي مسافرة
وبعضها فوق خد الصبح ينحدر
حيث المساءات تشكو جرح غربتها..
والليل والحرقة في الآهات ينصهر
أم تودع طفليها وغانية
حسناء لم يكتمل في عرسها قمر
حين ارتدت خجل العينين نظرتها..
تمرد الكحل والأهداب والحور
لكنها والوداع المر مفترس
زهو المفاتن واللفتات تنكسر
تلفتت في الزوايا ربما نسيت
بعض الثواني التي لم ينسها العمر
وربما من وراء الباب قادمة
خطواته وجحيم الشوق يستعر
تفتت الحلم صمتاً في محاجرها
ودمعة في مآقي الحزن تنتحر
وعلى طريقة أسلوب بعض السير الذاتية أقول لكم هذا ما كان من أمر السفر والبحر والاغتراب، أنتقل بكم إلى موسم الشدة عندما تُحمل عروس في أول سنة من عمر زواجها يعرش الخضاب على معصميها. يعرش الخضاب على معصميها وتنسكب حمرة الحسن على مفرق جدائدها ويتبتل الحناء على قدميها.... عندما تحمل هذه العروس على الجمل الخاص بها وهو يتبختر زهواً بالعصائب المزركشة التي ترصع رأسه وبرنين الأجراس الصغيرة التي تعلق على قوائمه وتسير القافلة وراءه مودعة بأغاني الشدة التي يقول فيها الشاعر الفرساني عبد الله محمد عبد الله زين رحمه الله الذي قضى جزءاً من حياته مغترباً هنا في هذه المدينة لكن قريته المحرق ونخيلها لم يغيبا عن هاجسه.
يقول خو علي منعت الهاجس من النشيد
ما دام النخيل جناها دايم يفوتني
أغني لمهْ (1) وروحي عن ديرتي بعيد
جابتني الظروف لجدة وأبت تردني
جاوب (2) هاجسي وقلّي (3) : شاعطيك (4) ما تريد
عندي مداح يا حلاها وأقوال تنبني
أنا لا ذكرت صوتك يا قمري الجريد
جسمي يرتعش وتأبى أقدامي تشلني (5)
وفي لحن من ألحان الدانة الفرسانية التي تربو على ثمانية ألحان يتأوه الشاعر نفسه ويتذكر أيام النخيل وجنى النخيل يتأوه في هذه المدينة جدة، يقول خوعلي:
يقول خو علي هذه مواعيده
حتم النخل والمجنى ولعب الدان
والقمري الذي يومي تغاريده
يردد بها فوق عالي الأغصان
يغني غنا الفرحان في عيده
اللي ارتاح قلبه يوم لقي الخلان
ودمعي سال وقلبي زاد تنهيده
على اللي هزّهم الشوق للأوطان
ذا سافرْ وذاك التذكرة في أيده
وذا طلعوا عفشه على الميزان
ويا رب كل واحدٌ للوطن عيدو
وخلّ الشمل يرجع مثل ما قد كان
وما زلت مع الشاعر نفسه في هذا النص:
كل ما في كفّنا للزين
لو يطلب الروح شاهديها إليه سرعة
ذا اللي إذا غابْ عني يومْ عن شهرينْ
ولا حضر صار يومي عيد في جمعهْ
لو كان يبغى ممكن شبكنه في العين
واغمض عليه حتى لا يسقط مع الدمعة
ولا زلنا في محيط الداية الفرسانية فسأقرأ عليكم نصاً للشاعر الكرابيلي رحمه الله وهو نص في لحن آخر:
يقول بوعقيل شوف النصيبْ كيف والقدرْ
رماني الزمان في ود من لا يودّني
تركني على هذا الحال واليوم لي شهر
شكيتُ للزمانْ ظنّيتْ أنّهْ يفيدني
ألا يا رمال.. يا شطّ.. يا موج.. يا بَحرْ
تمَرُ الليالي فوق حظِّي وفتنتي
أبيّتْ سمي النجمْ.. ساهرْ مع القمرْ
ويا ليتْ يا خِلي بعينك تشوفني
إذا غمضتُ عيني.. تغمّضُ على حذرْ
ولا هزّ باب الريحْ.. قلبي يهزّني
أنا يا حبيب كالأرضْ مشتاقٌ للمطرْ
وأنت السحابْ أمطرْ عليّ ورشني
وكما يحصل مع موسم الشدة بالنسبة للعروس التي ما زالت في أول سنة من زواجها يحصل أيضاً مع بقية المناسبات التي يعتبر موسم الشعبانية أو الشعبنة واحدة منها إذ تبدأ هذه المناسبة وهذا الموسم من أول الشهر حتى الليلة الخامسة عشر، لنستمع إلى هذه المشتاقة التي تنادي غائبها في البحر طلباً للقمة العيش إذ شدني مطلعها الذي تقول فيه:
ليلي (6) على المشرافْ ومطالعه لك
حتى مع اللّوْلين (7) والصباحْ بانْ
كل السواعي روَحنْ (8) وأنت مالك؟
تشتاقَ لكَ نخلة وفيّة (9) وجدران
مزّقني هذا المطلع فرحتُ أُكمل عليه:
ليلي على المشراف ومطالعه لك
حتى طلوع اللّولينْ والصباحْ بانْ
كل السواعي روّحنْ وأنت مالك؟
تشتاقْ لك نخلة وفيّة وجدران
يكفي غيابُ.. من يومْ ما غاب فالَكْ
لا الظُّهريهْ تحلى ولا الليلُ لي زان
هلّ الهلالْ واحنا (10) انترجّى هلالك
غلّق رجبّ واليوم في نُصْ (11) شعبان
شوقْ المرايا غابَ عنْهُ خيالك
ليت المرايا تحتفظْ بالذي كان
هذه أبيات من نص يصل إلى خمسة عشر بيتاً تقريباً كان ذلك في عام 1422هـ أما في عام 1424هـ فقد كتبتُ نصًّا أكتفي منه بهذه الأبيات:
شعبان أجا (12) لكنْ قمر ليلنا غاب
وتغيبو الأنجامْ (13) ليلةً غيابهْ
علّقتْ له شوقْ انتظاري على البابَ
وأوقفتْ عيني للجلوس عند بابُهْ
كذّبْ عليّ الليلْ والبابْ كذّابْ
والساعة اللي أكَدَنْ (14) لي جوابهْ
ترى الثواني اللي مضن (15) عمرها شاب
ليتكْ تعيدْ للعمرْ ماضي شبابه
وفي سياق الحديث عن المواسم والمناسبات يأتي موسم أسماك الحريد التي تزور أسرابه ساحلاً معيناً من سواحل فرسان في كل عام مرة وفي أيام محدودة وتبدأ من الخامس عشر أو السادس عشر من الشهر القمري، وتستمر حتى العشرين أو الحادي والعشرين من نفس الشهر، وهو يظهر ثلاث سنوات متتاليات في شهر واحد، فمثلاً العام الماضي ظهر في شهر ربيع الآخر فهو في هذا العام سيظهر في نفس الشهر، وكذلك في العام القادم 1431 أما في عام 1432 فسيكون ظهوره في شهر جمادى الأولى، هذه الظاهرة الطبيعية يحتفي بها الفرسانيون، كما يحتفون بقدوم الطيور المهاجرة في نفس الموعد وذلك منذ القدم، فهذا ابن المجاور جميل الدين الدمشقي يشير في تاريخه المسمى صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز والمعروف اختصاراً بتاريخ المستبصر إلاّ أن أهل فرسان تأتي إليهم طيور وأسماك، وأنهم يخرجون إلى الساحل لصيدها ويسفكون بها ذبحاً وطبخاً، وابن المجاور هذا ولد في عام 601 وتوفي في عام 690 هجرية طبعاً، والحديث من الناحية العلمية عن أسماك الحريد يطول لكنه من الناحية الشعبية يحتفى به ويذهب لصيده الصغار والكبار، وتنشط فيه شياطين الشعراء على كل لسان لينشد شعرهم في منازل العرائس هذا أحدهم يقول:
قال المغني الحريد بعيدين عنُه
لا حانَ موعده يجنُّه (16)
مهما يطولُ الغيابْ ما ينسنُه (17)
طول الوقت يذكرنُه
يذّكّرون (18) ما مضى ويومْ يلْقنُهْ
تسلا العينْ لا رأنُهُ (19)
خوفي أنسمة هو إذا مرّنُه (20)
وإلا الشمس غازلتُه (21)
ينسى ديار الهوى الذي ربنُه (22)
وياجيْ (23) اعتذار منّهْ
قلبي يحب السلا ولا هزّنَه (24)
نسمةْ شوقْ ذوّبنُهْ (25)
ولا لقي في الحريدْ من يعطنُّهْ
حبّة واحدة كفنُّه
ربما أكون أطلت عليكم ولكني سأستمر فاحتملوا دمي الثقيل، والحديث عن احتفالية موسم الحريد يجرني إلى موسم قدوم الطيور المهاجرة الذي عادةً ما يكون في بداية شهر أبريل من كل عام، وتزداد كثافتها في النصف الثاني منه يتزامن تقريباً مع ظهور أسماك الحريد، وهذه الطيور لا تأتي إلى جزيرة فرسان ولكنها تأتي إلى جزيرة قماح إحدى جزر فرسان الواقعة على مشارف الممر الدولي للبحر الأحمر، وهذه الجزيرة لا تبعد عن فرسان سوى اثنين كيلو فقط ورغم هذا القرب فإن الطيور لا تأتي إلى فرسان إلا التائه منها الذي يشد على السرب أو الأسراب التي تضم الآلاف من هذه الطيور ومجيئها يكون في ساعات الغسق بعد الفجر أو أثناء تلاشي حمرة الشفق بعد المغرب، ويتم صيدها عن طريق وضع قطع كبيرة من شباك الصيد القديمة على الأشجار كالسلم والبشام يتم جلبها من فرسان وغرسها مؤقتاً لأن جزيرة قماح خالية من الأشجار، ولأن هذه الطيور قادمة من أماكن بعيدة فهي تكون متعبة وأول ما تشاهد هذه الأشجار تهبط عليها لتستقبلها شباك الصيد التي يختبئ أهلها إلى حين التأكد من وجود أعداد كبيرة ثم يهجمون عليها ويصطادونها بالآلاف، ليهدى بعضها حياً ويذبح بعضها ليستخلص منها دهن لا يعرف لذته إلا من يحضرون هذه المناسبة، كما أن لحمها لا يقل لذة عن دهنها، هذه الطيور التي أشار إليها ابن المجاور، ولحسن حظي أن أحد أبنائي من الطلاب قد أهدى إليّ حلقة معدنية وجدها في رجل طير من هذه الطيور، ولأن الحلقة كان عليها عنوان الجهة العلمية التي أطلقت ذلك الطائر، فقد كتبت إلى تلك الجهة ليأتيني الجواب في رسالة من متحف (روكس) في مدينة (ستوكهولم) في دولة السويد، في شمال الكرة الأرضية ومعها صورة الطائر وتحديد خط مساره الذي يمر من فوق جزيرة قماح، يفيدني بأن هذه الجزيرة ليست محطة نهائية ولكنها محطة استراحة تواصل منها هذه الطيور رحلتها إلى دولة زائير لقضاء فصل الشتاء هناك، وكما يحتفل أبناء فرسان بأسماك الحريد فأبناء جزيرة قماح يحتفون بقدوم موسم الطيور في بيوت العرائس:
أكحل (26) قال اليعقوبي
شلوا بي وحطوا بي
في السطحة تهنو بي
ما أسوّي بروحي
أكحل جيت كل عاني
قد تركت خلاني
وأنت ما تهنيني
ما أسوّى بروحي
يا أكحل كيف تقهرني
طول الليل تسهرني
أيها الإخوة كثيرة هي المناسبات والفنون الشعبية التي لما أتحدث عنها، لم أتحدث عن عادات الحج، وما كان يودع ويستقبل به الحاج، لم أتحدث عن أفراح الزواج وأفراح ختان الصبيان من الذكور في الأزمنة السابقة لم أتحدث أيضاً عن أهازيج مواسم الحصاد، لم أتحدث عن كيفية العثور على العنبر الذي تقذفه الأمواج أيام اشتداد الرياح الجنوبية، التي يسمونها الأزيب في فصل الشتاء، لم أتحدث عن سباق السفن الذي يسمونه (الجَكر) وما يقال من أشعار فيها المديح والذم والتقليل من شأن السفينة المغلوبة، ولكني وبمناسبة السفن سأسمعكم بشيء مما يقوله البحارة، في بداية يومهم عندما يهمون بالغوص:
يالله صباح الخير.. يالله صباح الخير أول صلاتي على النبي
رزقك على الله يا طير.. إن جيت باغوص لقيت في البحر فانوس
في الدهب مغطوس.. هذي هدية من الله
وإن جيت بادي لقيت أبو خد نادي
شعرُه سوادي نازل من المشربية
هذي عطية من الله
ولأني بدأت محاضرتي هذه إن جاز لكم أن تطلقوا عليها هذا المسمى فسأنهيها بمعلومة تاريخية توطد علاقة الفرسانيين بهذه المدينة مدينة جدة، وهذه المعلومة ذكرها ابن المجاور في كتابه السابق الذكر، حيث جاء هذا النص:
(جزيرة فرسان ما بين حي تغلب وابن يعقوب بها مدينتان عامرتان إحداهما جدة بناها الفرس والأصح بناء مالك بن زهير والثانية اسمها سور) وعندنا قرية الآن تسمى صير لعلها حرفت عبر الزمن أو أن المؤرخ أخطأ في كتابتها أما النص الثاني فيقول: وسأقرأ هذا النص بلغة ابن المجاور (أرسل صاحب مكة إلى شيخ التجار بجدة وطلب منه حملاً حديداً فقال الشيخ للغلام وهو واقع عنده أعطني حملاً حديداً فجاء الغلام فأعطى الرسول حملاً حديداً فلما فتح الحمل الحديد قدام الأمير وجده قضبان ذهب فرد الرسول راجعاً فقال له قل للشيخ يتفضل وينعم وينفذ بحمل ثان من حديد هذا العين فلما علم التاجر نادى الغلام فقال له ما أعطيت الرجل قال حمل حديد أصفر من طول الخبا وقد علاه الصدا من طول المدى فتحقق الشيخ عند ذلك، أن الحمل كان قضبان ذهب وعرف أنه قد طمع فيهم، فالتفت الشيخ إلى شيخ كبير كان عندهم كبير في السن فشاوره في أمره وقال له الشيخ الذي عندي أنكم قوم موسرون فخذوا جميع ما تحتاجون إليه ويركب كل مركبه وينطلق في هذا البحر الواسع وأي موضع أعجب الرجل منكم نزله وسكنه بعد أن تخلون البلد لو بحمار أو كرأسٍ ليس فيه خمار وعند ذلك حزموا أمتعتهم ورفع كل منهم، فعند ذلك عبوا أمتعتهم وذلك في سنة 1473، ويقال في رواية أخرى أن العرب جاءوا وحاصروا القوم فلما قل عليهم الماء ركبوا مراكبهم وعلوا في البحر فسكن قوم منهم في السرين، والسرين بالقرب من القنفدة قرية أثرية اكتشفها أستاذنا المؤرخ حسن الفقيه، ومنهم من سكن الراحة وعسكر والجرعة والدرعة ودهلك وبيلول وجدة من جزيرة فرسان، والمها وغلادقة والأهواز والسميد وجزيرة ذهبان وجزيرة كمران وبندر موسى وباب موسى، فلما خلت الأرض من الأحباب ملكها الأعراب في دولة الأمير داود بن علي انتهى النص).
منذ أن قرأت هذا النص عرفت سر التشابه في الزي بين ما يلبسه رجالات فرسان ورجالات الحجاز، لأن الزي الرسمي القديم للرجل الفرساني هو الثوب والسروال الطويل الأبيض والصديرية التي نسميها البلق وهي كالتي يلبسها عميد الموسيقيين السعوديين طارق عبد الحكيم وكذلك العمامة البرتقالية اللون المطرزة بالبياض وهي ما يسمونها بالعمامة البريسمي وتلبس ملفوفة على الرأس كما يلبسها الرجل الحجازي، أما بالنسبة للنساء فقد عرفت من بعض نساء مكة اللاتي زرن منزلي ورأين الملابس النسائية البيضاء التي وضحت لهن أن هذه الملابس هي ملابس الحزن عند المرأة الفرسانية قلن لي وأيضاً اللون الأبيض شعار الحزن عند النساء المكاويات، أيها الإخوة عفواً إن أطلت عليكم فلعلي أكون قد قدمت لكم ما يستحق هذا الحضور وهذا الإصغاء ولا يسعني في الختام إلا أن أقدم لصاحب هذه الاثنينية الوجيه الشيخ عبد المقصود خوجه شكري العظيم، كما أشكركم على حضوركم وإصغائكم وأتمنى للجميع أحلاماً سعيدة وأحلاماً وردية هانئة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(ثم تم عرض مصور لبعض المناطق والآثار السياحية والتاريخية في جزيرة فرسان ونواحيها..)
معالي الدكتور مدني علاقي: شكراً أخي الشاعر المؤرخ إبراهيم عبد الله مفتاح.
أود أن أعيد ما بدأته بعد انتهاء المحاضر الكبير وأشكر له هذه المحاضرة الشيقة التاريخية الجغرافية الأدبية وننتقل الآن إلى ضيوف الاثنينية من النساء الفضليات والرجال الأفاضل لحوار مفتوح مع ضيفنا في هذه الأمسية، لكن قبل أن أبدأ في هذه الأسئلة، تلطف أحد الإخوة الحاضرين وهو الأخ يوسف العارف ليلقي كلمة مختصرة مع قصيدة بهذه المناسبة فليتفضل مع التكرم بألا تزيد عن خمس دقائق.
الشيخ عبد المقصود خوجه: الدكتور العارف اليوم سيكسر القاعدة لأنه نحن أوقفنا الكلمات والقصائد فأرجو ألا نحرج بعد ذلك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1768  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 67 من 223
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.