شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة ثم قصيدة للشاعر الدكتور زاهد زهدي ))
ثم أعطيت الكلمة الأخيرة والقصيدة الأخيرة للشاعر الدكتور زاهد زهدي، الَّذي آثر الحضور رغم مرضه، فقال:
- أيها الأخوة الأحباء، سعادة شاعر العرب الأكبر الأستاذ الجواهري، إنها لليلة أخرى من الليالي الخالدة التي يتحفنا فيها أخونا الشيخ عبد المقصود - رعاه الله - أعراساً بالعراق، بما يقدمه من دعم عبر تكريم رجالاته، وأي رجل مثل الجواهري أحق بالتكريم..؟
- أيها الإخوان الأعزاء: لقد رأيت الجواهري ولم أتجاوز السادسة عشرة من عمري، ووقفت بجانبه أستمع إلى قصائده وأنا ابنُ الثامنة عشرة، والتقيت به وأنا ابن السادسة والعشرين، وعشتُ معه سنواتٍ طويلةً خارج العراق أيام الغربة؛ ذلك أنني - كما يعلم الكثير من الإخوة العراقيين - من جيل يستطيع أن يجد منعطفات عمره في ديوان الجواهري، وفي أشعاره العظيمة.
- أريد أن أقول لكم شيئاً واحداً عن الجواهري لم يقله أحد بهذه الليلة، ذلك أنَّ هذا الرجل الَّذي تجدونه أمامكم هو أكبر لاعب بالنار، لقد لعب بالنار كثيراً واقتحم ميادين معارك كبيرة بالعراق، يذكرها الناس، وما يزال ديوانه العظيم يضم الكثير منها، بل إنَّ هوايته في ذلك قد امتدت حتى في داخل بيته، الجواهري الكبير يجلس قريباً من الموقد، والسيدة المحترمة زوجته - رحمها الله - تعد له كوباً من الشاي، وتأبى النار أن تلتهب، الجواهري يحن إلى لعبته الدائمة ينهض إلى الموقد بنفسه ويشعل النار ليس في الموقد فحسب، بل وفي شعر رأسه أيضاً.. ويقول بعد ذلك:
شب في مبيض سالفتي
فكأني بعد لم أشب
ومشت عرسي لتسعفني
وكما تهوى لتشمت بي
هتفت بئست مغامرة
يا ابن خمسين أأنت صبي
قلت يا هذي لو اخترمت
مفرقي شقين لم أتب
أنا ذا منذ أربعين خلت
أطعم النيران باللهب
 
- تصوروا هذا الرجل وهو في الخمسين يعترف أنه يمارس اللعب بالنار منذ أربعين سنة، وفي عام 1930م كان الجواهري يحتل مكانة مرموقة في بلاط الملك فيصل الأول - رحمه الله - ولكنه لم يكن يعجبه سياسة الحكومة التي كانت تفرط بمصالح الشعب، وتمالئ الأجنبي، فأراد أن يستغل الفرصة لإشعال النار ليلعب بالنار، وواتته هذه الفرصة عندما قدم إلى العراق سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز الملك الراحل - رحمه الله - مندوباً عن والده، وكتب الجواهري قصيدة شهيرة يمدح فيها آل سعود، ويمدح فيها الملك عبد العزيز دون أن تكون له أدنى صلة بأي من البيت السعودي الكريم، وكل ذلك ليعرب عن غضبه على سياسة حكومة العراق وليشمت بها وليلعب بالنار؛ وكانت هذه الفرصة الثمينة.. وليس ذلك فحسب، بل أصر أنْ يوصل القصيدة إلى الأمير الزائر، وأن تنشر في جريدة أم القرى، وبتوقيعه الصريح محمد مهدي الجواهري، وبوظيفته أيضاً؛ وكان يقول:
فتى عبد العزيز وفيك ما في
أبيك الشهم من غرر المعاني
لأمرٍ ما تحس بنا انعطافاً
عليك وما ترى من مهرجان
وذاك لأنَّ كل بني سعود
لهم فضل على قاصٍ ودانِ
وأنهمُ الملاجئُ في الرزايا
وأنَّهم المطامحُ والأماني
 
- وكانت النتيجة أن أُحيل الجواهري إلى مجالس التأديب واحدة بعد أخرى، وكان سعيداً بذلك لأنَّه مارس لعبته الكبرى لعباً بالنار، وفي ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لم يزر المملكة العربية السعودية حتى هذا اليوم الَّذي نشاهده فيه الآن، وكان حقد الحكام المتجبرين عليه قد استمر، كما نقل أحد الإخوان بالقرار الجائر الَّذي اتخذته الحكومة العراقية.. وأخيراً في عام 1949م والمشانق في بغداد تنتصب لعدد من قادة الحركة الوطنية، والسجون تغص بالشباب، والصحف كلها معطلة، ويحدث أنَّ عميد الكلية الطبية تكرمه بريطانيا بوسام كبير وهو صديق للجواهري، وأقامت الحكومة احتفالاً رسمياً كبيراً بهذه المناسبة دعي إليه، قال: نعم سأحضر، وأين القصيدة؟ لم أكتبها بعد.. وأين القصيدة؟ لم تنته بعد..، وجاء في يوم الاحتفال وأشعل الحريق الكبير في ليل العراق البهيم في ذلك الوقت، وكانوا يحاولون أن يغروه بشتى المغريات:
حشدوا عليّ المغريات مسيلة
صغراً لعاب الأرذلين مطالبا
ظناً بأن يدي تمد لتشتري
سقط المتاع وأن أبيع مواهبا
وبأن يروح وراء ظهري موطن
أسمنتُ نحراً عنده وترائبا
وبأن أروح ضحى وزيراً مثلما
أصبحت عن أمر بليل نائبا
خسئوا فلم تزل الرجولة حرة
تأبى لها غير الأماثل خاطبا
أعلمت هاشم أي وغد جاحم
هذا الأديم تراه نضواً شاحبا
أنا ذا أمامك ماثلاً متجبراً
أطأُ الطغاةَ بشسع نعلي عازبا
كذبوا فملء فم الزمان قصائدي
أبداً تجوب مشارقاً ومغاربا
تستل من أظفارهم وتحط من
أقدارهم وتثل مجداً كاذباً
أنا حتفهم، ألج البيوت عليهم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
 
- هذا هو الجواهري اللاعب بالنار، واسمحوا لي الآن أيُّها الأصدقاء الأعزاء - وقد أطلت عليكم - أن أقرأ أبياتاً لأستاذي الكبير.. وشيخي، كتبتها له وأنا في هذه الحالة:
سلاماً (عميدَ الشعر) أُهديه وافياً
وأُزجي إليك العاطفات مناجيا
حملتُ الشعـورَ المحـض فـي القلب زائراً
وأفرغتُه كأساً من الحب صافيا
وكانت (دمشـقٌ) شاهَـد الوجـد يلتظي
بأعماقي الحرَّى يرومُ التلاقيا
أحيّيك يا ابنَ (الكوفتين) وإنها
ترى فيكَ نجماً (للفراتين) زاهيا (1)
وأُنبيكَ أن الروحَ منها شجيّةٌ
وقد أبعد النجمُ المحلّقُ عاليا
وأن الَّذي صاغ العقودَ (جواهراً)
لأعناقها ما زال عنهنّ نائيا
* * *
أحييكَ يا ابن (الرافدين) وأنها
لفي محنة ساقت إليها الدواهيا
تفشّى بها جورٌ أحالَ ضفافَها
جحيمـاً ووجَـه الصبح كاللّيـل داجـيا
أُنَبِّيك عن حالِ (العراق) وأهله
وعن (طغمة) قد أوردته المهاويا
بأرضٍ يمورُ الخيرُ تحت أديمها
و(نهرين) ما زالا غداقاً جواريا
تجدْ (رُضَّعاً) جفّت ضروعٌ تقيتُهم
فماتوا على (الأثداء) غرثى بواكيا
و(جيلاً) على البلـوى يشـبُّ ويغتـذي
على الحقد زاداً حين يُصبح طاويا
و(جيشاً) بأطراف الدُنـى شـتَّ شملهُـم
يجوبون في شرقٍ وغرب منافيا
وما زال (رأسُ الـداء) مَـنْ قـاد أهـلَنا
إلى ذروة المأساةِ حيّاً وباقيا
يعبُّ الدما كأساً دهاقاً وتُشتوى
بأسياطه منَا الظهورُ دواميا
وقد كرّم اللَّهُ العبادَ بلطفهِ
بخلقٍ تجلَّى في الخليقةِ راقيا
فجذَّ (عدُو اللَّه) أطراف خلقه
وآذانهم بغياً وقد كانَ عاتيا (2)
وصارت (بلاد الرافدين) مقابراً
وعاد الأسى فيها إلى الموت حاديا
وألقى بها داءٌ عضالٌ جرانهُ
وقد عزّ أن تلقى طبيباً مداويا
وقد صار يكفيها من الداء أنها
غدت لا ترى عنـه سـوى المـوت شافيا
* * *
سلاماً كما رف النسيمُ وهلّلت
زهورُ الرُّبا إذ هبَّ رخواً معافيا
ومرحى لفكرٍ أنت لآلاءُ مجده
أنرتَ به الأجيال للخير هاديا
وشوقاً إلى روضٍ من الشعر نفحُهُ
يُشيعُ الشذى في (الغوطتين) قوافيا
علـى حينَ مـا زالت بـ (بغدادَ) عصبـةٌ
تمدّ القوافي للضلال مراقيا
تغني لـه لصق التراب أنوفُها
لتُهدى قصوراً يزدحمنَ ملاهيا
فبعـضٌ لـ (ضحـّاك) الأساطير راقـصٌ
وبعضٌ بكفّيه يُقيت الأفاعيا (3)
و(أنـتَ) الَّذي أفنى مـعَ النـاس عمـرَهُ
ويمناهُ أعلت راية الشعب عاليا
(حباكَ العراقُ السمـحُ أحسنَ مـا حبـا
به شاعراً للحق والعدل داعيا)
(ومنّاكَ حفلاً حين تمضي مودّعاً
يجوّد فيه المنشدودن المراثيا) (4)
* * *
(أبا الشعر) لا تغضـبْ فبغدادُ لـم تـزلْ
على ضيمها تهفو إليكَ كما هيا
وفيها رواةُ الشعر تحدو فخورةً
بما قلتَ فيها خفيةً أو علانيا
وأن العراق الحقَّ ليس طغاته
بل الشعب يجزي الخالدين المعاليا
يـرى فيك نـجمَ الصبـح يرقـب ليلَـهُ
مشيراً إلى فجرٍ يشق اللياليا
* * *
ومـا زال مـن (يـوم الشهيدِ) و (جعفر)
بأرجائه للآن صوتك داويا (5)
وما زلت كابوسَ الطغاةِ تُخيفُهم
وإنْ صرتَ عوداً هدّه الداء ذاويا
* * *
أبا الشعر مجداً أن عمراً تصرمت
لياليه آلاماً وما كنتَ شاكيا
ومرحـى لدربٍ رحـتَ تطـوي شعابـه
نصيراً لحقٍ أو لجورٍ معاديا
وقد كان سجناً تستخفُّ بسوره
فتهزأ بسجّانٍ وتهجو (زبانيا)
تنقّلتَ في شتى ديار قصّية
وعانيتَ فيها غربة أو منافيا
وحيداً تجوبُ الدرب إلاَّ حُشاشةً
وعزماً يصدّ السيل يلقاكَ عاتيا
* * *
دع العمرَ يجري إنَّ جنبيكَ أطبقا
علـى (خافق) كالطير مـا انفـكَّ شاديا
تجاوزتَ (تسعيناً) وقد زدن (أربعاً)
وعيناكَ لم تبرح ترودُ الأمانيا
ولو أن (حسناءاً) تُدلُّ بحسنها
عليكَ لهزّت منك قلباً مناغيا
وأهديتَها من روضة الشعر باقةً
وطارحتَ عينيها الهوى والأغانيا
* * *
جدة
أيلول 1994م.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :637  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 138 من 171
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج