العاصفة تتحول إلى ريح!؟ |
بين مطلع عام 1998م، وعام 2002م... عاش عمودي "نقطة حوار" وأنا معه: هاجس التوقع بهبوب عاصفة جديدة لن تكون شبيهة بعاصفة (98)، ولكني كنت أحس بشيء (أبعد) ويقترب من ضربة تنتمي إلى: التواطؤ، وكأنني كنت أتفرس في عمق أشباح تلف حولي كثور الساقية... ولم يكن استنتاجي عابراً ولا سطحياً، بقدر ما كان هو: المد والجزر الذي يستعد ليقذف بي إلى.... الفراغ!! |
إنها ريح قادمة أشد من العاصفة الأولى، وبت أشد احتراقاً من كلماتي التي كنت أكتبها وتعبر عن المعاناة.. في شعوري بضياع (أغنيتي) المفضلة التي أكتبها، وأغنيها.. وتذكرت عبارة/محمد الماغوط: (الحرب قد لا تبكيني.. أغنية صغيرة قد تبكيني)! |
حقاً... لقد سئمت ألعاباً لا أجيدها مثل: لعبة الكراسي، وشد الحبل، والسقوط من شاهق.. فأنا لست من مواطني بحر العواصف والرياح، ولكني (إنسان) أحارب من أجل فكرتي ومبادئي.... والمهم أن أنجو بهما من الانهزام!! |
مشوار طويل مشته كلماتي فوق (أخيرة) صحيفة الحياة لمدة أحد عشر عاماً، وكانت نتائج المتحكمين غير مضمونة... وعندما فاض بهم عدم احتمال نجاح عمودي: أرادوا أن يقطعوا الماء والكهرباء عن العمود، وأن يسدوا في وجهي منافذ الهواء! |
ولما نفذوا (تفجيرهم) بقرار إدخال العمود إلى صفحة داخلية... فضلت ما سماه/أنسي الحاج بـ (الفرار الدافئ) حتى أواصل غنائي، وأحافظ على حضور الوجود في كلماتي. |
وهكذا... سقطت قلعة (نقطة حوار) في التفجير الأخير. |
واختفى العمود.. لتنهمر -بلا مبالغة ولا غرور- مئات الرسائل على الصحيفة التي حرص مسئولو التحرير فيها ومسئولو التفجير: أن لا يشيروا إليها ولو من باب الوفاء للأحد عشر عاماً... بل أن تحرير الصحيفة (تغاضى) عن نشر خبر: رحيلي ونقطة حواري من الحياة. |
أما بريدي الخاص والفاكس... فقد كانا يمدانني يومياً بعشرات الرسائل من أصدقائي الكتاب والشعراء، وأهل البيت الثقافي والأدبي: |
* * * |
القصيبي وخوجه: |
وفاجأني العزيز جداً/د. غازي القصيبي بهذه الكلمات الدافئة التي حملتها رسالته: |
- العزيز/أبا وجدي: |
كأن "الحياة" إذا غبت عكس "الحياة". |
هذا بيت قديم لي، ولكنه ينطبق الآن أكثر من أي وقت آخر. |
حاولت مهاتفتك عدة مرات، ولم يرد أحد وسوف أكرر المحاولة. |
تذكر أن قلوبنا معك في الغيبة المؤقتة والحضور الدائم. |
والله يحفظك ويرعاك. |
أخوك |
غازي القصيبي |
* * * |
وكتب لي أخي التوأم/د. عبدالعزيز خوجه: |
أخي الحبيب/عبدالله: |
حقيقة لم يعد "للحياة" طعم بدون إشراقتك. |
كانت مساحات الظمأ في داخلي أرويها في كل صباح بقطرات من حوارك العذب، وفي كثير من الأحيان تتفجر صحراء العطش في نفسي إلى ينابيع. |
أنت المسئول؟ أم من؟ إذا مت عطشاً. |
أبا وجدي: حتى صوتك افتقدته، فلا أعرف مواعيدك... حيث أستطيع أن أصيدك ولو لهنيهة. |
دعني أطمئن عليك... فقد غزا القلق قلبي. |
أخوكم |
عبدالعزيز خوجه |
* * * |
الشاعر/المقالح: |
ومن اليمن/الشاعر الكبير "عبدالعزيز المقالح" الذي كان أول المتصلين بي هاتفياً.. يسألني عن اختفاء عمودي اليومي في الحياة "نقطة حوار"... فأوجزت له (الخبر) وقد سبق لي أن رجوته بعث هداياه لي عبر الفاكس/لوحات من أحدث إبداعاته الشعرية قبل نشرها، ليحظى (أول الكلام) في عمودي بنشرها الأول... وكان الشاعر الكبير معطاءً، متجاوباً معي، حتى قال لي في أصداء خبر هذا الاستغناء من أسرة "الحياة". |
- ما عرفتك إلا أبياً شريفاً في مواقفك، فلا تؤثر فيك هذه المواقف الرمادية التي لا يملك أصحابها شجاعة مواجهتك. |
أسمع الأهم بالنسبة لإبداعك الحقيقي فقد حظيت روايتك الجديدة (أيام.. معها) باهتمام الأصدقاء والزملاء من الأدباء اليمنيين والعرب الذين يحضرون ملتقانا الأدبي الأسبوعي، حيث شهد المجلس الذي نعقده مساء كل يوم أحد بصنعاء: تحليلاً للرواية، ونقاشاً أدبياً حول وقائعها وشخصيتها ولغتها وموضوعها.. وكانت موضع إعجاب الزملاء وتقديرهم باتفاق وإجماع، وشارك في تلك الأمسية الأخوة د. شاكر خصباك، ود. حاتم الصكر، والكاتب/محمد مثنّى، والشاعر/محمد حسين هيثم، وسواهم من المهتمين/أدباء وأكاديميين.. وقد وعد بعض الحاضرين بنشر مداخلاتهم بعد صياغتها للصحافة. |
وشكرت الشاعر الكبير/عبدالعزيز المقالح على هذه الحفاوة بروايتي.. وهمست لنفسي بعد أن ودعته على الهاتف. |
- لا بد أن ترغد نفسي بهذه الحفاوة لما أكتب خارج وطني، وبداخل وطني العربي الكبير.. بينما التزمت أكثر مطبوعات (بلدي) وصفحاتها الثقافية الصمت الأخرس حتى لم يكلفوا أنفسهم نشر خبر صغير عن صدور الرواية! |
و.... هكذا تستمر (الحياة) و.... الناس في بلدي!! |
* * * |
شاعر اللافتات/أحمد مطر: |
الشاعر العراقي المدلج في الغربة، المقيم في الهجرة/أحمد مطر.. الذي أبدع في رسم (اللافتات) شعراً مقدوداً من وجع الروح، القائل: |
- قلمي يجري، ودمي يجري |
وأنا ما بينهما: أجري |
الجري.. تعثر في إثري |
وأنا أجري |
والصبر.. تصبَّر لي حتى |
لم يطق الصبر على صبري |
أجري، أجري، أجري |
أوطاني: شغلي.. والغربة: أجري!! |
|
هذا الشاعر: يكتب لي: "تحية بحجم المحبة، ومحبة بسعة قلبك"، كما هي عبارته التي كتبها إليّ... وقد آلمه اختفاء "نقطة حوار" من أخيرة صحيفة (الحياة)... فبادر بالكتابة إليّ من غربته/الهجرة (لندن) عبر الفاكس، يقول: |
أخي الحبيب الأستاذ عبدالله الجفري |
أرفع قلبي لك بالتحية. |
أخي الشريف النقي: لقد أوجعني الخبر جداً، لكنه لم يدهشني، فلطالما وضعت يدي على قلبي خوفاً على قلمك.. إذ لا يحتاج المرء إلى كثير حصافة ليدرك أنك تكاد تكون النغمة العذبة الوحيدة وسط هذا (الزار) الأمريكي.. والشطر الوحيد الموزون في قصيدة مرتبكة الأوزان، لا تصلح إلا أن تكون معلقة على باب البيت الأبيض!! |
ومع ذلك، فإن استخلاص (التبر) من ركام (التراب) هو نفي للتراب وامتياز للتبر!! |
- أخي الحبيب: ثق أنك على الطريق الصحيح.. وثق أن قراءك الأوفياء سيتبعون كلماتك حيثما اتجهت واستقرت.. وثق أن الشرفاء الذين يشاطرونك القبض على الجمر: ليسوا قلة، ومهما طمس عليهم حجاب اللغو المستأجر بالعملة الصعبة حيناً، فإن الغد لهم وإن شمسهم لا بد أن تشرق قريباً.. إذ ليس من العدل، ولا من السنن الكونية، أن يبلغ الفساد هذه الغاية، دون أن يؤول إلى نهايته الساحقة الماحقة! |
لقد شرعت قلمي عندما بلغني النبأ لكتابة مقالة حول هذا الأمر، لكن ردني الخوف من أن أزيد عليك الأمر سوءاً... ولا أدري ما إذا كان تخوفي في محله أم لا؟! |
أخوك المحب/أحمد مطر |
* * * |
الروائية/كوليت خوري: |
روت لي الروائية العربية السورية/كوليت خوري: حكاية مماثلة في مسيرتها الأدبية، بعد أن سألتني -هاتفياً- عن أسباب اختفاء عمودي اليومي من صحيفة "الحياة" وإجابتي لها... فقالت: |
- في عام ما.. كنت أكتب أسبوعياً في مطبوعة سورية بالتزام، وحققت رصيداً عالياً من القراء الذين صاروا يحرصون على اقتناء المطبوعة أسبوعياً. |
وحل رئيس تحرير آخر مكان رئيسها الأصيل.. فكان أول ما فعله: أنه أوقف نشر مقالي الأسبوعي في تلك المطبوعة.. وقد ظن (بمشاعره) تلك أنه: أغاظني، أو سد أبواب النشر في وجه إبداعي، أو قطع رزقي!!! |
أضافت الأديبة السورية الكبيرة تقول لي: |
- لا تلتفت لمثل هذه التصرفات التي تنزف الحقد.. فقراؤك سيبحثون عنك!! |
* * * |
الروائية/غادة السمان: |
بين فترة وأخرى.. تسعدني الروائية العربية السورية المبدعة أبداً/غادة السمان بالحوار على الورق وعبر الفاكس.. وأكثر أوقاتنا صارت تضيق بالحوار مثل كثير من نفوس البشر، فأمسينا نكتفي بـ (العبارة) لنعبر بها إلى بوحنا الأجمل... وسيدة الكلمات الخضراء/غادة السمان تضمِّخ حدائق الكلمات بياسمينها الذي تخصني به/كلمات! |
وقد سارعت إلى هذه (الوقفة) الأصيلة معي، وهي تعرف خبر: اقتلاع عمودي "نقطة حوار" من أخيرة صحيفة (الحياة) وقرار نفيه إلى صفحة المنوَّعات (21) -كمعتقلي/غوانتانامو!- جزاءً لي على الوقوف مع الصحيفة أكثر من أحد عشر عاماً، وردعاً لأمثالي الغافلين عن الكواليس!! |
فكتبت لي الأديبة/غادة السمان، تقول لي ضمن رسالتها: |
- "سيدنا" الغالي، ابن مكة المكرمة الغالية على قلوبنا... أخي وصديقي/الجفري: |
لو استشرتني، لقلت لك: إن أي موقع في الجريدة تكتب فيه، يصير هو الصدر، وأن الثوب لا يصنع الكاهن، وأنت الذي يصنع الموقع الأهم بحرفه... ولقلت لك: أن تظل تكتب، فأي مكان تكتب فيه يكتسب العمق، ولا فرق عندي بين الصفحة الأولى، والأخيرة، وما بينهما إلا الإبداع!! |
بالمقابل: أهل مكة أدرى بشعابها، وأنا أجهل خلفيات قرارك، "وعسى أن تكرهوا شيئاً" ولن أطيل لأنك تعرف البقية، و "رب ضارة نافعة" وقد تتخلص من ذلك العبء اليومي وتتفرغ لعملك الإبداعي... وعلى ذكر العمل الإبداعي: أول ما سأطالعه حين أنجز عمل روايتي هو: روايتك التي تكرمت بإهدائي إياها، وأعرف: أن عمرك الإبداعي طويل -بإذن الله- وأن كل ما أعطيته على أهميته وغزارته هو البداية بمعنى ما، فطويل العمر الإبداعي: لا يعرف النهايات، وكل كتاب بداية.. الأهم من ذلك كله: أن تنسى التفاصيل، وتظل تكتب... وتكتب أينما كان، كيفما كان... ودمت مبدعاً كما عرفتك!! |
* * * |
نموذج من رسائل القراء: |
حين أعد لي (الأخوة الأعدقاء) في صحيفة "الحياة": مخرجاً لي من صحيفتهم، وذلك بإصرارهم على نقل العمود إلى صفحة المنوعات (21)، و...... رفضت هذا الذي بيتوه لي بليل: لم أكن أتوقع حجم الإيميلات، والفاكسات، والتلفونات التي تدفقت، والتي أشار فيها مرسلوها إلى أن (التغيير) الذي جاء به إخراج الصحيفة ينحصر في شيئين: |
الأول: إجلاء عمود "نقطة حوار" من الصفحة الأخيرة إلى غير رجعة... دون مساس هذا التغيير بأية أعمدة أخرى ولا حتى شكل الصفحات في الداخل. |
الآخر: تكبير صور الممثلات الأجنبيات (بالألوان) على الصفحة الأخيرة بما يعني: أن هذه الصورة للممثلات الفاتنات أهم -في تقدير الصحيفة- مما كان يطرح في "نقطة حوار"!! |
ولعلني أسعد -هنا- بنشر هذه الرسالة/النموذج من الرسائل الكثيرة، التي جاءتني من الأمارات العربية المتحدة. |
أستاذي الكريم/عبدالله الجفري: |
لقد ساءني جداً خبر (عبث) الصحيفة بنقطة حوارك، وأنا على يقين تام أن صحيفة (الحياة) هي من سيخسر "الجفري" وليس العكس، ورغم أن رفضك أن يدس عمودك في صفحة المنوعات رفض مشروع وفي محله، إلا أنني حزينة لأن قراءك لن يلتقوا بك صباح كل يوم كما اعتادوا!! |
يبدو أن النهج الإعلامي الجديد يصر على تصفية الأقلام النظيفة واستبدالها بأقلام إما ذات نكهة حداثية تملأ المكان بالخواء والجمل الرنانة المتشابهة، أو ذات نكهة أمريكية تزكم الأنوف بالعمالة المبطنة! |
أنا حزينة... نعم، لكنني واثقة من أنك محمول في قلوب محبيك في كل مكان!! |
* * * |
باخشوين.. والبديل المقترح: |
وفي السادس من مايو 2003: كتب القاص المبدع السعودي/عبدالله باخشوين هذه الكلمات المقدودة من أصالته: |
بعد أن قرأت ما كتبه الأستاذ عبدالله الجفري عن الطريقة "الحضارية" التي انتهت بها رحلة اثني عشر عاماً من الركض على صفحات "الحياة" لم أجد فيما رواه من تفاصيل أي شيء غريب أو مريب أو مثير للدهشة. |
لم يتمكن من نقل عدوى دهشته لي.. رغم أنه لا يريد الجهر بذلك الألم الذي تعرض له الكاتب.. بقدر ما كان يستجيب للحظة بوح حركتها شفافيته المعهودة.. فكان ما جاء منه.. هو استنكار يعلنه العشير والوليف في الطفل الذي يسكن الكاتب. |
تحاشيت الوقوف أمام أخلاقيات ومثاليات الوفاء.. الذي تريد شفافية الطفل وشاعريته أن يكون الحد الأدنى الحتمي الذي تفرضه العشرة.. وفاء ليس كالوفاء ذاك الذي باح به العشير.. لكنه يأتي كخيط رفيع.. رهيف وجارح.. لأن شفرة حده لا يفرق عماها بين التنكر ووداع الفراق. |
بطريقة عقلانية باردة.. أيقنت أن الجفري ما زال هو طفولة الطفل فيه.. وأخذت أفكر في البديل المقترح. |
تساءلت دون خبث أو مكر أو دهاء.. من تراه هذا الضيف الذي اعترته شهوة الجلوس في المكان الذي يليق بعبدالله الجفري وهل سيحل سريعاً وعلى مضض، لأن وجهه سيكون دون صورة. |
وإذا كان الموقع قد أخلي فعلاً.. فهل سيحل من يحل ليكون أسيراً لهلامات أشباح وأرواح وأطلال من كان. |
تجاوزت إشكالية غياب الجفري.. تجاوزت ما يسكن ذاكرة الصفحة وقرائها.. وأخذت أفكر في البديل المقترح مشفقاً عليه.. لأن الطمع يقوده لموقع يجب عليه فيه أن يغير وجهه وجلدته ودمه وملامحه ولسانه أيضاً. |
إن قدر البديل أن يكون ما يشاء.. شرط ألا يكون نفسه.. وسوف تليق معاناته بمشاعر الإشفاق.. عندما نعرف أن على أي بديل.. أن يبدأ من مرحلة الصفر لتأسيس علاقات جديدة مع ذاكرة قارئ لا يعرفه وكاتب لا يعرفه أيضاً. |
كل ما على الطفل الذي يسكن الجفري أن يعيد تشكيل ملامح الكاتب البديل.. ثم يتشقلب ضاحكاً. |
* * * |
وبعد... فقد أسدل الستار الآخر على كلماتي، بعد ستار "الشرق الأوسط" ووصيفاتها.. وانطوت صفحة من العواصف والريح: كان عنوانها: (الحياة) الصحيفة، لا العمر.. حتى إشعار آخر بالعمر!! |
|