ذاكرة السنين!؟ |
هذه المرة كان إبحاري: إمعاناً في الدفء، برغم أنني كنت انسكب مثل شلال نافورة نقية المياه في حميمية إنسان... زرعته الأشواق والسلامات في فضاء "الوقت" الذي يضطهده الزمن! |
كأنني كنت آتي من رجع نغم قديم، لا ينفك يمشي بين الخفق والنبضة! |
وفي رجع النغم.. نحن نصغي إلى أصداء كانت ذات يوم، ذات لحظة: موعداً.. عهداً.. فرحة أكبر من مساحات الأرض! |
استهوتني زخات الأشواق في نفسي.... فطفقت أركض وراء الحلم! |
* * * |
تحت سماء لندن: |
في زخات المطر، تحت سماء لندن في أقصى بلاد أهل الكتاب، ارتحلت إلى طبيبي الذي كان يعالجني من "ظاهرة" ارتفاع ضغط الدم التي أصابت "الإنسانيين" في كل مكان... ربما لحساسية أو رهافة مشاعرهم، وربما لطبيعة عصر التوتر السريع هذا. |
وكانت آلام القلب قد استحكمت حلقاتها، واستبدلت شراييني الأصلية بشيء من الساق والصدر.. فأردت إثبات ما يصعب إثباته من التحدي لرعشات القلب وخفقاته التي كانت -آنذاك- ما زالت قادرة على (الكركرة) حيناً، وعلى (الآه) أحياناً أخرى! |
وفي نطق رعشة البرد التي كانت تتحول في أمواج نفسي إلى انبثاق جميل يمتزج مع اللحظة الفاصلة ما بين الذهاب مع الحياة، أو التشبث بها، وبين المناورة مع الموت حتى الدخول إلى دفء الاستغراق في التخاطر... كنت أهرب بهما من تراكم الأفكار إلى: انكسار حدة الانفعال بأمور الدنيا، ومتناقضاتها! |
وفي لحظة شفقية، عندما توقف المطر، وسحب النهار ذيوله الباقية... لاحت ابتسامة طبيبي، وهو ينهي تشخيصه، ويقول لي: |
- رأسك هو الذي يتعبك!! |
مليء هذا الرأس بموجات الصداع... يتكفل بها ضدك: ضغط دمك الذي يرتفع! |
وقهقه توأم روحي/عرفان نظام الدين وهو يقول للطبيب: الاثنان يا طبيب: رأسه وقلبه!! |
- سألت طبيبي مندهشاً: فقط..... هذا كل شيء؟! |
- قال الطبيب: وماذا تريد؟! |
- أجبته: توقعت أن توبخ قلبي... ربما لإسرافه في الحب؟! |
- قال الطبيب: عيناك تختار لك! |
- قلت: ولكني مثل كل البشر... فهل تلومني؟! |
- قال الطبيب: بل ألوم عينيك... إنهما شديدتا الاختيار المتعب! |
- أجبت طبيبي ضاحكاً: لكني سعيد بهذا الاختيار، إنه يتجاوز تفكير العقل، حتى يبلغ مرحلة: تفكير القلب!! |
- سألني الطبيب هذه المرة: تقصد أن تفكير القلب أكثر إرهاقاً من تفكير العقل الناضج؟! |
لم أعط طبيبي إجابة. |
خرجت مرة أخرى تحت المطر برفقة أخي/عرفان، وكأنني قوس قزح أتناثر كمياه النوافير في شوارع بلاد أهل الكتاب.. وقد جافاني الصداع!! |
تذكرت عبارة/أنسى الحاج من (خواتمه) التي وصف فيها "الذات" بقوله: |
- "الذات.. هذه الوديعة، لا يسعدها في بعض المصابين بضربة القمر، سوى أن تضيع"!! |
فهل أضاعتني ضربات قمر الصحراء؟! |
وهل هو (الامتلاء)، أم تراه ذلك الظمأ الذي يشكل عدة صيغ للحرمان في مجتمع عربي لا يعترف بالوسطية حتى في الحب والرغبة؟! |
وإذن... هل بت مهجوساً بخاطر كهذا يلاحقني مع حبات مطر لندن؟! |
في المساء... كنت أتجول تحت زخات المطر التي لم تتوقف منذ النهار، وكنت بصحبة أخلص أصدقائي هناك منذ تعارفنا: أخي/عرفان نظام الدين، بعد أن اختاره (الناشران) رئيساً لتحرير "الشرق الأوسط"، وقد لمست فيه صدق الإنسان وطيبة الخيرين، وصراحة الذين لا يخافون قول الحق... فقلت له ونحن نتمشى في طريقنا إلى مطعم نتناول عشاءنا فيه: |
- هذه إذن مرحلة السنين التي تزيد... وهي تنقص العمر؟! |
- قال: كان "الأحلى" من العمر، هو: ما تبقَّى.. وهو ما نصبح فيه أكثر خوفاً عليه! |
لم يكن شعوره هذا: درامياً ولا حزيناً.. بقدر ما تحول في داخلي إلى تفوق على خذلان التجارب. |
وأحسست أن شعوري هذا: يمتد، ويمتد... فيكون شيئاً عذباً، كفعل الاقتناع الذي يبلور الإحساس بالسعادة ولو للحظة... لا يظنها الإنسان أنها ستتكرر!! |
قلت لعرفان في هذا الديالوج الداخلي: |
- أن تعيش لحظتك بتفريغ ذاتك من الاحتياج، وملئها بالحلم... فهذا هو الامتلاك الحقيقي لكل سنين عمرك، في لحظة واحدة!! |
* * * |
تذكرة من العقل: |
دفعنا أبواب المحلات المشرعة: سوبر ماركت، مجوهرات، تجميل، سيارات للبيع، مطاعم لا حصر لها من كل العالم، و......... دخلنا مطعماً صينياً للانحناء فيه/فلسفة المكسب، لا الهوان. |
كنا في جولتنا نتلفت نحو كل زاوية، وامتداد. |
الناس في الشوارع لا يعدون خطواتهم، ولكنهم سادرون في فكرة.. في هم.. في مشكلة.. ربما في إيذاء الخصم، أو.... حتى صديق!! |
الناس في الخارج أكثر عدداً.. مما هم داخل بيوتهم. |
ابتسمنا لهذه التذكرة التي قذفها العقل إلى وعينا.. وكل واحد منا يضع يديه في جيبي بنطلونه، و..... نتذكر: |
- قلت لعرفان: في الأيام الخوالي، كان صدري كما "شقة".. فيه الصالون، والشرفة، وغرفة النوم، والمطبخ، والردهة... فكيف صار الآن؟! |
ربما هو المشرط الصغير الذي فتحه... والمنشار الصغير الذي كسر عظام الصدر لاستبدال شرايين تالفة بأخرى صالحة حتى إشعار آخر! |
- قال عرفان ضاحكاً: أصابت القلوب أزمة سكن يا أبا وجدي!! |
ما زلت معجباً بـ "أزرا باوند" وحلمي بالريف، ونقيق الضفادع! |
حاول "باوند" في قصائده استرجاع الحياة الجميلة في زمن السلم، والحب، وأعياد النفوس لا أعياد الملابس... وصور ما فعلته الحرب وتفعله حتى اليوم بالنفوس، وبالجمال. |
* * * |
بيوت تجففها الشمس: |
بقيت ممداً على السرير الأبيض في الفندق.. أحاول أن أصد أشجاني وحزني. |
جاءني زائر يعبر لندن إلى أمريكا، فأراد أن يطمئن علي... فبادرني بالسؤال: |
- ما هي الأخبار؟! |
أما زلت تتابع الأخبار حتى هنا... بحثاً عن السلم، وخوفاً من الحروب والكوارث، وحلماً بالحب والجمال في العالم؟! |
- قلت: أصبحنا مثل هذه الأخبار.. يقرأها الواحد منا وهو يسترخي أو "ينفلق"، لا فرق، وهي معادة ومملة.... والإنسان يكاد يشعر الآن بحصانة فيه ضد الفجائع والتفجع، وتصدع العالم... لكنني حزين جداً كلما تذكرت أنني لم أقرأ ديوان شعر منذ وقت طويل! |
- قال الزائر مشاكساً، أو منغماً شجونه: الإنسان له قصيدة شعر واحدة! |
- قلت: ولكن... القصائد تحولت إلى نزف، وصديد، وطعنة. |
سألني الزائر: والمستقبل؟! |
- قلت: أمريكا تصنع بيوت المستقبل.. وأوروبا تطليها باللون الملائم للطقس! |
سألني: والحب؟! |
- أجبته: الحب في هذا الخبر الذي قرأته: لقد صنعوا في "كليفلاند" بيوتاً تجففها الشمس! |
سألني: وهل في أمريكا شمس... الم تشاهد المطر المستمر، وبوادر الثلج؟! |
- قلت: في أمريكا شمس يصدرونها لتحرق الشعوب، وفيضانات يبتليهم الله عز وجل بها لتكسر غرورهم... دون جدوى!! |
نعم... نعرف شمس (البارودي) التي تحجبت من سنين، ونحن اليوم في زمن رصاص وبارود صناعة أمريكية، هي الوحيدة التي باتت تصدرها إلى الشعوب لقتلهم! |
وهناك شمس الأصيل المازالت تذهِّب خوص النخيل: باتت كالحلم في واقعنا وتأملاتنا!! |
قال: أنت تمزح.. أخبرني ببقية الخبر، فلعلي أشتري من هذه البيوت. |
- قلت: حسناً.. إنها بيوت مصنَّعة من عدة سنوات، ولم تعد وعداً من الوعود الأمريكية.. والراغب في مثلها عليه أن يختار الرسم الذي يوافقه في مكاتب الشركة، وينفذ هيكل البيت من بعض المعادن الخفيفة، وتحمله طائرة هليوكوبتر، ويثبت، ويكسى الهيكل بعجينة من البلاستيك... تجففها الشمس أولاً بأول! |
سألني: وهل تحلم أن تسكن في بيت كهذا؟! |
- قلت: هذه ليست أحلام.. بل رفاهية لا تعرفها مناطق الشمس، والصهد الحراري المتعدد! |
سألني: وما هو "الأحلى" إذن؟! |
- قلت: قوس قزح هو الأحلى... فمن الصعب أن نتنكر للشمس! |
* * * |
عندما تفقد السنين ذاكرتها: |
طافت مسحة حزن على وجهي... اختلطت بتوهج الأحلام التي ما يلبث أن يمضغها الإنسان مع طعامه! |
لم أعد في حاجة أن أسأل السنين: إلى أين بلغت العاطفة؟! |
لم أعد أسأل الوجدان: ما مقدار السنين التي مرت بك؟! |
عندما يطول انتظار الوجدان... تفقد السنين ذاكرتها!! |
* * * |
وتوقعت أن يكون أخي/عرفان مستيقظاً بين يديه كتاب/قراءة ما قبل النوم كعادته في لندن.. وأين ما ذهب حتى واق الواق!! |
طلبته هاتفياً.... فرد بسرعة وهو يقول لي: |
- تصدق... أفكر في هذه اللحظات في مهاتفتك.. ألم تنم بعد؟! |
- قلت: ما زال "الحلم" ذو شجون يا حبيبي عرفان. |
- قال ضاحكاً: عليك بحبة أسبرين.. فلم نعد نملك غيرها!! |
- قلت لصديقي عرفان: كنت أقرأ -مثلك- ولكن... ليس في ديوان شعر، ولا رواية رومانسية، بل في كتاب يضم ما سماه جامعه: "النكتة العلمية".. فاسمع ما كتبه: |
من التصورات الضاحكة التي رواها مؤلف (نكتة علمية) أنه تخيل حواراً بين "الميكروبات".. إذ سأل أحدها الآخر عن سبب شحوب لونه وهزاله؟! فأخبره ذلك الميكروب: بأن ذلك يرجع لابتلاعه محتويات كبسولة مضاد حيوي.. بينما قرصان من الأسبرين وقفا يرتجفان من البرد.. فاقترح أحدهما على الآخر: أن يبحثا عن جسم بشري مصاب بالحمى.. ليستمتعا بالدفء في داخله! |
- ضحك عرفان وهو يقول: تصور أننا نتحدث بالهاتف كالعشاق التعساء، ونحن في لندن.. لك يا خيي، البنات هجروا الهاتف وانطلقوا (فيساً تو فيساً) كما تقول... وهذا المؤلف يتحدث عن الميكروبات، والأفظع: أنك استسلمت لهذا الكتاب وبقيت تقرأ فيه!! |
اقفله يا أبا وجدي.. ونم أفضل لك. |
- قلت له: تصبح على "الشرق الأوسط"/الجريدة، والمنطقة!! |
وعندما كنت أسحب البطانية لأتغطى بها من برد لندن.. تذكرت قفشة رويت على لسان كوكب الشرق "أم كلثوم" التي كانت معروفة بتعليقاتها الساخرة والساخنة.. تقول القفشة: |
زار أحد معارف كوكب الشرق أم كلثوم ليعرض عليها بذلته الجديدة.. وسألها عن رأيها فيها: فقالت له: "كويسه".. ولكنه عاد يسألها: مش شايفه إنها "واسعة" علي شويه؟! فقالت له أم كلثوم ضاحكة: معلش.. ربنا (يضيقها) عليك!! |
هكذا... نحن نلبس في حياتنا مواقف أوسع منا، ونمارس أفعالاً أكثر ضيقاً من حجمنا!! |
ابتسمت... وتمتمت لنفسي: |
- هوا إحنا ناقصين "تضييق"؟! |
إن الحياة الشاسعة باتت تضيق حولنا وتضيق بنا... فالزحام أكثر من المشي، وأشياء كثيرة نضيق بها ولكننا نستغرق فيها!! |
و.... سحبت الغطاء على وجهي لأنام.... بدون أحلام!!! |
|