اقتحام الحياة العملية |
لا أبالغ إذا قلت: أنها بداية مميزة (لفريق) -ليس فريق كرة قدم- بل فريق قراءة جادة، وركض وراء المعرفة بدأناهما ونحن في الابتدائية، ونضجا بنا ونحن في الثانوية، وكانت صحف حائط "مدرسة الرحمانية" بمكة المكرمة من أميز صحف حائط المدارس الأخرى.. وانتقلنا بمحاولاتنا الكتابية إلى صفحة "دنيا الطلبة" التي كان يشرف عليها الأستاذ "عبدالرزاق بليلة"/المربي الفاضل، ضمن صفحات جريدة (البلاد) لمرة واحدة في الأسبوع. |
إن التعامل آنذاك: كان بين معلم وتلامذته... وهكذا عاملنا موجهنا الأول في الصحافة بالأبوة والمحبة... فهناك شخص ترتاح إليه وتصطفيه، وتمحضه صدق نفسك، وتمنحه الثقة.. وتعامل الشعور ينبجس من الصدق، والوضوح، والموقف حين يحتاجه أحدنا! |
وفي قفلة المرحلة الثانوية -قسم أدبي- انقطعت عن الدراسة في بدء مسئولية خوض غمار الحياة، وإصرار والدي -رحمه الله- على تكوين أسرتي الخاصة بالزواج المبكر!! |
وهكذا بدأ اقتحامي للحياة العملية، مجرداً من أية خبرة، مدعياً نضج الوعي في كثافة ما كنا نقرأه بلهفة وتسابق إلى الكتاب والمعلومة... فكان لا بد لي أن أنخرط في عمل يفتح لي أول باب للرزق أو للدخل الخاص. |
وانخرطت في أول عمل حكومي برفقة صديق العمر/محمد سعيد طيب، ولم نزل نحاول أن ننسلخ من صفة (الفتيان) إلى الشباب، وقدمنا أوراقنا إلى المسابقة على الوظيفة، وفي اليوم نفسه أصدروا قرار تعييننا في إدارة الجوازات والجنسية براتب مقداره (800) ريال، وهو مبلغ كبير إذا ما قورن براتب مدير الجوازات آنذاك/الأستاذ "حمزة الجعلي" -رحمه الله- الذي كان يتقاضى مبلغ (1200) ريال... وكان "حمزة الجعلي" يمتاز بالطيبة، والمرح وخفة الدم وسريع "القفشة"، والالتزام في الوقت نفسه بالضبط، والربط في عمله، وهو ينحدر من السودان الشقيق. |
ثم... ما لبثت الجهات الأمنية المسئولة: أن قررت ضم إدارة الجوازات والجنسية إلى إدارة "الأمن العام" التي كانت تحت رئاسة/اللواء سليمان الجارد، رحمه الله.. وفوجئت بنقلي إلى وظيفة: "علاقات عامة" مستحدثة للرد على ما ينشر في الصحف من ملاحظات وانتقادات تكتب على استحياء... وقال لي يومها رئيسي الأكبر/سليمان الجارد: |
- لاحظ أنك تكتب في الصحف ضدنا، وترد على الصحف من موقع وظيفتك لتكذب نفسك.. ترى حنا متابعينك!! |
- ابتسمت في صلابة وجه وملامح اللواء، رحمه الله، وقلت: الكتابة مسئولية كلمة، والوظيفة هنا عمل!! |
* * * |
المرحلة التوفيقية: |
وفي هذه المرحلة: لا بد لي أن أسجل هنا ملامح فترة استفدت فيها وازددت عشقاً للقراءة، وتمرست على كيفية صياغة الخبر الصحافي، وكتابة الريبورتاج. |
وهذه المرحلة أطلقت عليها اسم: (المرحلة التوفيقية) انتماء إلى أستاذنا ومعلمنا/محمد عمر توفيق... وكنا -عبدالله خياط وأنا- مكلفين من صحيفة (البلاد) في وظيفة: (مراسلين) بإعداد رسالة صحافية إخبارية يومية، كانت تنشر بعنوان: (رسالة العاصمة).. كنا نكتبها -الخياط وأنا- على شريط المقهى في محلة "جرول" ونفبرك بعض أخبارها للإثارة الصحافية، ولفتت أخبارنا انتباه قراء الصحيفة لاهتمامها بأخبار المجتمع وأنشطته، بالإضافة إلى الإدارات الحكومية! |
ولعل رئاسة تحرير الصحيفة -في عهد رائد الصحافة/حسن قزاز- قد ارتأت (فرملتنا) قليلاً، فقررت أن يكون لنا (رأس) في العمل يشرف على أخبارنا.. فاتفقت الرئاسة مع الأديب الكبير/محمد عمر توفيق على الإشراف وقراءة ما نعده من عمل صحافي قبل إرساله للصحيفة. |
وكان أستاذنا ومعلمنا/محمد عمر توفيق قد ترك العمل الحكومي والمناصب، واختار أن يفتح "بقالة" واسعة في مدخل مكة المكرمة (البيبان)، وسماها: "دكاكين".. وكنا نذهب إليه -الخياط وأنا- بعد المغرب من كل يوم نعرض عليه حصادنا من الأخبار والتحقيقات.. وكانت "صحيفة البلاد" آنذاك منتعشة بكسب باقة من الكتاب المميزين، على رأسهم/محمد عمر توفيق الذي كان يكتب عموداً يومياً بعنوان: (ذكرى) ويوميات أسبوعية، ومحمد حسين زيدان الذي كان يكتب يوميات أسبوعية، وحامد مطاوع، وعبدالغفور قاسم، وعبدالعزيز الرفاعي. |
وما لبث نشاطنا وعملنا الصحافي أن توسّعا في مكة المكرمة، فقررت الصحيفة إنشاء مكتب خاص لها يمدها بالأنشطة الصحافية والأدبية، واختاروا موقعه في "المروة" أمام الحرم آنذاك برئاسة/محمد عمر توفيق، وسكرتارية/عبدالله خياط، وبقيت متعاوناً معهما.. حتى انطوت مرحلة بقائي في مكة المكرمة/ركضاً وراء الطموح، وانتقلت إلى مدينة "جدة". |
ولم أعمر طويلاً في إدارة الأمن العام، ولم أحتمل المناخ العسكري... فبادر أبي الروحي ومعلمي: "محمد حسين زيدان" وتوسط لي عند معالي الأستاذ/عبدالله بلخير/مدير عام الإذاعة والصحافة والنشر -آنذاك- قبل تكوين وزارة الإعلام، فتم نقلي من مديرية الأمن العام، ولا أسف عليَّ من رؤسائي في الأمن العام... ولأول مرة: اتخذت قرار انتقالي من مكة المكرمة إلى جدة على وظيفة: مأمور مستودع بالمرتبة السادسة (الوظيفة الشاغرة يومها) نظام قديم، وودعت مكة المكرمة/مسقط رأسي، ومنتجعي العائلي وفي عينَي والدي دمعة حزن، دون أن يعترض، بل دعا لي أن يفتح الله أمامي أبواب النجاح، ولم تكن (جدة) بهذا الاتساع ولا هذا الصخب، بل كنت أجد في البحر: ملاذاً ومتكئاً لخواطري وتأملاتي، وساعدني على تكوين مجتمع لي: العمل في الصحافة، وصحبتي لأبي الروحي ومعلمي/محمد حسين زيدان، وأستاذي/السيد ياسين طه، حيث كنا نلتقي بعد المغرب في "دكة" فيلا الزيدان، ونتحاور وأستفيد من علمهما وتجربتهما. |
* * * |
أول عمل صحافي: |
وبدأت عملي في المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر.. وكلفوني بالعمل في "إدارة الصحافة" تحت رئاسة كاتب القصة آنذاك الأستاذ/غالب حمزة أبو الفرج. |
وكنت سعيداً جداً حين كلفني الأستاذ "غالب" بإعداد وإصدار (النشرة الثقافية) التي أعتبرها: أول عمل صحافي أباشره، كمسئول عن مطبوعة.. كان الهدف منها: إبراز الأنشطة الثقافية في أنحاء المملكة: إخبارياً، ونشر نماذج -قديمة وجديدة- من إبداعات شعرائنا، وأدبائنا، والتعريف بجيل الرواد من رعيل الأدباء الأول ليستفيد الجيل الجديد! |
وأعتبر تلك النشرة: عملاً إعلامياً ذكياً، ولاقى نجاحاً كبيراً، خاصة في خارج المملكة، حيث كانت فكرة إصدار النشرة: التغطية الإعلامية الثقافية خارجياً، للتعريف بالحركة وبالأنشطة الثقافية داخل المملكة.. وكانت المديرية العامة للصحافة والنشر، تبعث بهذه النشرة إلى سفاراتنا في الخارج، وإلى رؤساء تحرير الصحف والمجلات الصادرة في أرجاء الوطن العربي، وإلى رؤساء الأقسام الثقافية في تلك الصحف والمجلات.. وبإمكانات فنية وأرشيفية بسيطة: استطعنا بجهد مشترك ومتعاون ومحب: أن ننجح بهدف هذه النشرة التي كان ينتظر الكثير صدورها باللون الأخضر، وبالمادة الجديدة والمتجددة. |
وبقيت فترة طويلة في "إدارة الصحافة" أصدر النشرة الثقافية، وأساهم في كتابة تعليق الإذاعة، وأشارك بالكتابة في صفحات الثقافة بصحيفة "البلاد". |
ولشدة عشقي للقراءة وللكتاب: سعيت للانتقال إلى (إدارة المطبوعات) التي كانت برئاسة الأستاذ/حسن أشعري، وهو واحد من طلائع المثقفين والفكر الحديث، ومن قبل كان يدرسنا في "المدرسة الرحمانية": الفقه في المرحلة الثانوية.. فنشأت صداقة عميقة بقيت جذورها راسخة إلى اليوم. |
واستمتعت بهذا العمل الذي كلفت فيه بمراقبة الكتب والصحف العربية، واستفدت من تلك القراءات... ولم أكن جباراً عتيا على الكلمة، ولا على نفسية من أبدعها ومقدار الألم الذي يحدثه شطب عبارة له أو حتى كلمة... لكني ما لبثت أن استجبت لإغراءات العمل بالصحافة، فدخلت مرحلة جديدة إلى ما أسميها: جناحا نورس حزين، أنتقل من صحيفة إلى أخرى بناء على طلب الصحيفة المقدم إلى جهة عملي لإعارتي لمدة عام أو عامين.. فعملت محرراً، ثم سكرتيراً للتحرير، ومديراً للتحرير، وقائماً برئاسة التحرير.. في صحف: البلاد، والمدينة، وعكاظ (بالإعارة) حتى تنكرت الإدارة في وزارة الإعلام لمشواري الطويل هذا ولم تحفظ لي حقوقي كموظف أساسي في الوزارة تتم إعارتي بموافقة مسئوليها إلى الصحف، ففاجأني ذات يوم الأستاذ/إبراهيم القدهي، وكيل الوزارة للشئون المالية في عهد الوزير/علي الشاعر، وطلب مني أن أقدم طلباً بالاستقالة أو يصلني قرار فصلي من الوزارة متنكرين لكل سنوات خدمتي الطويلة. |
- وقلت للأستاذ القدهي: أفصلوني.. فهذا أشرف لي أن أقول: أن الوزارة قد فصلتني، وأكلت حقوقي!! |
وهكذا كان: فصلتني الوزارة بقرار تعسفي لتطوي (قيدي) حسب التعبير الإداري، ولم تعوضني عن سنوات خدمتي الطويلة في الوزارة، وفي الصحف معاراً منها وبموافقتها... ووجدت نفسي أفقد مشواري العملي الوظيفي بأمر عسكري من وزير الإعلام الأستاذ/علي الشاعر!! |
وتبقّى لي أن أتطوح بعد هذا النكران، ثم تتقاذفني أمواج الحياة على سطح بحر الصحافة ونظام الصحف، أتنقل من صحيفة إلى أخرى حسب رضا رئيس التحرير، وعمق (صحبتي) له!! |
* * * |
لقد كانت صحافتنا بالأمس: تمثل إمكانات الأمس لذلك كانت -في وقتها- متطورة في طرحها وفي تطورها الصحافي، وكانت عاجزة عن اختراق الإقليمية إلى الساحة العربية... لكنها صحافة كانت أكثر حناناً ورعاية لأبنائها، وكان أبناؤها من الذين أينعت من داخلهم بذرة الانتماء لها بكل عشق الكلمة ورسالتها!! |
أما صحافتنا اليوم: فأحسب أنها تعاني من صداع شديد بسبب آلام شديدة في (رأسها!).. وأقصد: أن المؤسسات الصحافية تحتاج إلى إعادة تقييم أو تقويم، وإلى اختيار (الرأس) المناسب في المكان الرأسي الذي ينبعث من هموم الصحافة، ومن طموحات أبنائها.. وما زلت أعتقد: أنه من الضروري الجمع بين كرسي المدير العام، وكرسي رئيس التحرير، ليكون مقعداً واحداً.. يجلس فيه: صحافي، متمرس، من أهلها.. يلم بمشكلاتها، ويقدر على تحقيق الانسجام المفقود دائماً بين الإدارة والتحرير!! |
إن الصحافة القادمة: ستكون عبر (الشاشة)، وسيبقى الورق للكتاب، إذا عدنا للاهتمام به، وإقناع الجيل بالقراءة.. وهي صحافة كومبيوترية متطورة جداً، لا بد أن تنافس الستلايت، أو الأقمار الصناعية التي غطت السماء، والعيون، وربما العقول، و..... السلوكيات!! |
|