الصورة... التاريخية!؟ |
في زيارة حميمية لمنزلي قام بها صديقي القاص والكاتب الوفي للحارة في (جدة): محمد صادق دياب: فوجئ بصورة على جدار مكتبي تضم فتى وفتاة.. فلفت انتباهه -فيما لاح له- ملامح الفتى والفتاة، فبادر يسألني: من يكونا في هذه الصورة؟! |
- قلت: أقدح ذهنك وتمعن. |
- قال: من حين دخولي جذبتني، ولكن الملامح لا أعرفها، خاصة الفتاة. |
- قلت: إنها قصة.. حكاية (لحظة تاريخية) لو وصفتها دون أن أبالغ. |
هذا الفتى الواقف في الصورة كألف، والملتفة أصابعه على مجلات، والمعتمر قبعة، والمرتدي جاكيتاً فوق ثوب أبيض، والمنتعل "شبشب" زنوبه.. هو: الفقير إلى ربه تعالى المواجه لك والمتحدث إليك. |
- سأل بلهفة: والفتاة... من تكون؟! |
- قلت: إنها..... زوجتي، أم وجدي اليوم. |
- قفز من مقعده يفغر الفاه، قائلاً كأنه يشهق: ها؟!! بالله عليك، وكيف اجتمعتما في هذه الطفولة... وما هي القصة، أمتعني، فإنها -والله- صورة تاريخية جديرة بأن تختارها: صورة غلاف لكتاب، وقد تكتب بين دفتيه تفاصيل اللقاء، حتى الارتباط، بامتداد العشرة إلى أن هرمتما معاً. |
- قلت: ربما... ليمدني الله بالصحة حتى أكتبها. |
- قال: أرجوك.. إنني متشوق لسماع الحكاية من ما قبل الصورة ثم ما بعدها، وردود هذا الفعل عند الأهل في ذلك الزمان، وفي مجتمع محافظ حتى لو كنتما طفلاً وطفلة! |
- قلت ضاحكاً: وحدوا الله. |
بعد رحيل "أمي" يرحمها الله وأنا في السنة الأولى من عمري، تولى الإشراف على تربيتي: عماتي في البيت الكبير، وكان أبي يرفض الزواج خوفاً على طفولتي من زوجة الأب، حتى أقنعته عماتي بضرورة تكوين أسرة له، وهن يتولين مهمة تربيتي... لكن تجربته الثانية في الزواج: فشلت ولم تعمر طويلاً، حتى قدر الله له أن يذهب إلى المدينة المنورة وقد رشحوا له زوجة من آل الحبشي تصغره ولكن إرادة الله قد حكمت، فتزوجها وعاد بها إلى مكة المكرمة. |
وكانت أسرة زوجة أبي تتكون من أخوين وأختين وأمهما العظيمة التي انكبت على تربية أيتامها حتى كبروا بعد أن فقدوا تاج رأس الأسرة، رحمه الله. |
وبدأت الزيارات تتوالى من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى المدينة ليزداد تلاحم الأسرتين. |
وكانت "أم وجدي": آخر العنقود في تلك الأسرة، وكنت العنقود الوحيد لوالدي حتى بدأت زوجته (التي اتخذتها أماً لي بسبب عطفها) تنجب له الأولاد والبنات، حتى بلغ عددهم ثمانية ما بين ولد وبنت. |
وقد بدأت فترة مراهقتي... وكنا كل صيف نتوجه إلى (الطائف) فِراراً من سَموم مكة المكرمة، وفي ذلك العام: استضفنا معنا: أم زوجة أبي وابنتها الصغرى أم وجدي، بعد أن تزوجت الفتاة الوسطى وانشغل الأبناء بأعمالهما. |
وكنت قبل ظهر كل يوم: أحمل على رأسي (لوح العيش) وأذهب به إلى الفرن لخبزه، فلم يكن الناس يأكلون إلا شغل أيديهم... وطرأت فكرة في رأسي، فاستأذنت والدة الفتاة/قريبتنا، لأخذ ابنتها معي نخبز العيش، ونشتري آيسكريم... فترددت والدتها قليلاً، وهي تحاول إخفاء ابتسامة، وكانت تثق بي كثيراً.. فوافقت بعد (مناحلة) مني لها. |
وكان بجانب الفرن محل "مصوراتي" مشهور معروف باسم: "عم شفيق" فنان في التصوير.. فوضعت "لوح العيش" داخل الفرن وقد أوصيت الفران الذي يعرفني من ترددي عليه، و (سحبتها) من يدها وهي تتساءل محتارة: إحنا رايحين فين؟! |
ودخلت بها إلى الأستوديو، وطلبت من "عم شفيق" أن يأخذ لنا صورة معاً، ورأسي مكشوف وأنتعل شبشباً، بينما تبدو هي (مهندمة) قليلاً أحسن مني.. والتفت نحوي "يهندمني" بما تراه في الصورة وقد أخفى الشبشب بباقة ورد، وقال: تعال بعد ثلاثة أيام! |
وفي طريق عودتنا إلى البيت، قلت لها محذراً: |
- إياك أن تخبري أمك... خليها مفاجأة. |
وفي اليوم الثالث.. عدت بلوح العيش المخبوز، وفي جيبي ظرف أخرجته وطلبت من (خالتي) كما أناديها/زوجة أبي ومن أمها الجلوس، وأخرجت الصور أمامهما. |
شهقت والدتها، وقالت: |
- متى أتصورتم، وكيف؟! تراك أنت عفريت! |
حكيت لها "الحدوته"، وسألتني خالتي: ومن فين لك فلوس؟! |
- قلت: حوشتها. |
- قالت أمها: سبحان الله... هيا أبوك لا يشوف الصور. |
- وقلت لصاحبة الصورة: هيا... اكتبي لي إهداء على الصورة، وأنا أكتب لك إهداء. |
- قالت أمها وهي ما زالت مأخوذة بالمفاجأة: وكمان إهداء.. هيا إيه الحكاية؟! |
- قلت لها ضاحكاً: خلاص نبغى نتزوج!! |
- قالت: كده.. بغير موافقتي، وإخوانها، وأبوك. |
- قلت: البركة فيكي. |
- قالت: سبحان الله.. ومن فين لك هذا الضمان؟! |
- قلت: حتشوفوا. |
* * * |
وأخذ العمر يكبر بنا قليلاً.. حتى وصل بي العمر إلى التاسعة عشرة، وهي دخلت إلى السابعة عشرة.. وعلمت أن "أبي" علم بالحكاية كاملة، ولكنه لم يفاتحني، ولم يوبخني على (فعلتي)، وانضم معهم يردد: سبحان الله العظيم. |
- وقال لي أبي في التاسعة عشر من عمري: هل تريد رفيقتك في الصورة بجد؟! |
- قلت: بجد الجد. |
- قال: لا تكون فترة مراهقة يا ولدي، وأنت بعد لم تكوِّن حياتك. |
- قلت: أريدها.. وسنكوِّن حياتنا معاً.. يكفيني أن أصبح عديلك! |
ضربني على خدي رقيقاً مبتسماً.. وهو يقول: |
- طلعت عفريت... لكن ما في زواج إلا بعد سنة، وخلال هذه السنة لن تراها ولن تراك.. هذا شرطي، وسأعرف لو عملت لك كواليس!! |
و.... هكذا ابتدأ مشوارنا: أم وجدي، وأبو وجدي.. بدأناه من الصفر والكفاف والراتب الصغير، والدخول في أقساط... لكن الشيء الوحيد الذي رفضنا أن نقسطه كان هو: الحب الذي كون هذه الأسرة بأعضائها: زين، وجدي، عبير، العنود، نضال، إياد!! |
|