شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة معالي الأستاذ الدكتور خالد بن عبد العزيز الكركي))
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأخ العزيز الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه..
أيّها الحفل الكريم..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
فأرجو أن تأذنوا لي أن أتوجه بخالص الشكر وصادق المودة إلى الأخ الكبير الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه، رائد الملتقى الذي تسامى حتى صار صرحاً ثقافياً حاضراً في وجدان الأمة، وأسأل الله العلي القدير أن يجعل أيام هذا الحوار الثقافي مباركة ما كان منها اثنينياً، أو غير اثنيني، وأن يجعل القادم زمناً بهياً ممتداً تأسس على صحوة خمسة وعشرين عاماً من الإبداع والمستوى الحضاري الراقي والجميل والنبيل.
أكرر الشكر، وقد سرّ أخاكم القادم من جنوبي الأردن أنه خطر في البال، وحولكم من أبناء الوطن والأمة من هو أحق منه بهذا التكريم.
أمّا قبل:
أبدأ بصوت أبي الطيب المتنبي، فأنا قادم من دمشق، وقد أنخت راحلتي بباب جدّة، وسأعود إلى حلب، كأنه لو كان في مجلسكم الكريم هذا لقال في سيفه، وكأنه يشير إليكم:
واليماني الذي لو اسطعتُ كانت
مقلتي غمده من الإعزازِ
.. سلّه الركضُ بعد وهْنٍ بنجد
فتصدّى للغيث أهلُ الحجازِ
وأقول لكم:
أنا، وسيف أبي الطيب، وزمان العرب الجديد حاضرون في صوته أيضاً: "ضاق ذرعاً بأن أضيق به ذرعاً زماني.." وقد ضقت ذرعاً بتكرار "غير" في بيته:
لك الخيرُ، غيري رامَ من غيركِ الغنى
وغيري بغير اللاذقيةِ لاحقُ
لكنني لم أكن قادراً على تجاوز هذا البيت، فقد حمل الذي كنت أريد قوله للمضيف الكبير.. "لك الخير".
* * *
أيّها الأعزاء:
لم تكن خيلي حاضرة، لا التي "أدّبها طوال القتال"، ولا التي كان سيف الدولة "يشير إليها من بعيدٍ فتفهمُ"، ولا الجرد التي "مددنا بين آذانِها القنا"، ولا التي "تجاذبُ فرسانَ الصباح أعنة"، بل كنت في الطريق بين عمّان ودمشق، وسهل حوران في صفرة القحط والإحباط غارق، وامرؤ القيس يردع صاحبه عن البكاء، فتذكرت صوته:
"ولما بدت حوران والآلُ دونها".. ألمّ بي شغف كي أستعير المعلقة الأولى، لكن صوته حاصرني: "بكى صاحبي لمّا رأى الدرب دونه" فتابعت المسير، فما في الأفق روم ويسدّون الدروب، بل فيه ضريحان عظيمان: لابن الوليد والأيوبي صلاح الدين على روحيهما السلام..
تلفت حولي فلم أر قوافل في الطريق إلى بغداد، فردّني صوت أبي الطيب: "وسوى الروم خلف ظهرك روم.." إذن، أيها المضيف: "جدّة قصدنا وأنت السبيل" وسلام على حلب حتى يحين موعد احتفالها في الذكرى الخمسين لتأسيس جامعتها العظيمة.
أيّها الأهل:
في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي أسرج الأمير (أمير البيان) شكيب أرسلان خيله وقصد الحجاز، كان قد آلى على نفسه أن لا يزور بلداً يحكمه انتداب أو استعمار؛ حتى سوريا، وعندما وصل إلى جدّة دوّن في كتابه: "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف" ما يأتي من كلام:
"شعرت منذ وطأت قدمي أرض جدّة أني عربي حرّ في بلاد عربية.. شعرت أني حرّ في بلادي وبين أبناء جلدتي، لا يتحكّم في رقبتي المسيو فلان ولا المستر فلان.. الخ، بحجة انتداب أو احتلال أو سيطرة أو حماية أو وصاية. شعرت أني كنت خاضعاً هنا لحكومة، كخضوع لويد جورج لحكومة إنجلترا، أو كخضوع كليمانصو لحكومة فرنسا، أي أني خاضع لحكومة عربية بحتة.. شعرت أني في الحجاز تظللني راية عربية محضة حقيقية لا راية مشوبة بشعار أجنبي"، (ص 5) لذلك أقول لكم من جديد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أمّا بعد:
فأنا واحد من أهل الثقافة في مدى هذه الأمة الواسع، وقد تخرجت في واحد من معاهدها العالية (الجامعة الأردنية)، وأوغلت في قراءة دفاترها، وتتبعت آثار سنابك فتوحاتها الهائلة، ودواوين شعرائها، وجنون كتّابها، وكنت أرى نفسي مقيّداً مثل أبي محجن العربي؛ ولهيب القادسية يشق الليل مثل صبح عظيم، مقيد وأنا ما قلت مثل الذي قال،.. لكنها معضلة الفكر والثقافة في سياق تاريخنا: أن تُحْرم لأنك تشتم أو تقيد حتى لا تقول الذي تعلم.
وبين الشرق والغرب سافرت مع طه حسين، ثم قرأت لرسالة الدكتوراه حركة العروبة والإسلام في بلاد الشام بين زمن تهاوت فيه الدولة العثمانية والكواكبي يصيح بها أن تتخلى عن طبائع الاستبداد، وزمن آخر لم يعد عثماني الهوى، وقد غابت آخر صور الخلافة التي كانت ظلاً سمحاً يوم كانت الدنيا على سعة من أمرنا، بل: "وسط بها حتى هراة وجلقُ"..
وبين "الأكاديمي" الذي يستدعي الصرامة، والإعلامي الذي يستحضر "الشطّار والعيارين"، والمثقف الجذري الذي يحلم بعالم جديد متقد بشموس الحرية والعدل والكرامة، نهضت النخبة ببعض مسؤولياتها، وظن صاحبكم أنه منهم؛ وكم كان طعم الماء مرًّا يوم رأى انزياحات النخب التي تراءى لها أن مشروعاتها (الموزعة بين اليمين واليسار) هي حبال النجاة.. وأولئك هم بعد الحرب الباردة، وحروب المنطقة، يبحثون عن فسحة جديدة، فلا يجدون إلاّ ظلّ نظام (لا نظام) عالمي يظنون أن اندفاعهم نحوه سيجنبهم السقوط النهائي، وإن نجا أحد منهم فما تلك إلاّ حيلة قديمة يرى أصحابها أن "العجز حزم".. وتلك: "خديعة الطبع اللئيم".
* * *
أيّها الأعزاء،كنت ذات زمان رئيساً لرابطة الكتاب في الأردن، بعد عودتي من كلية الدراسات الشرقية في جامعة كمبردج وعميداً للطلبة في الجامعة وكاتباً أسبوعياً في صحيفة الرأي.. كنت أبحث في "صورة الإنجليز في أدب أحمد فارس الشدياق"، والمحاولات الأولى في الأدب المقارن عند العرب، وأسأل مع عمر فاخوري في كتابه النادر: "كيف ينهض العرب"، وأفحص الرموز العربية الإسلامية في الشعر العربي المعاصر.. إلى أن كان ذات مساء حين انطلق صوت واحدة من سيدات العائلة: "في بيتنا وزير".
وكنت آنذاك الرجل الذي صار وزير الثقافة فأثار اهتمام الأهل والأصدقاء، ولكنه بعد هذا صار وزيراً ونائباً لرئيس الوزراء، ورئيساً لمجلس إدارة شركة كبرى.. فما حفل أحدٌ بالحدث، بل صار عليه أن لا يكرر الإشارات عن الوزارة والوزير، وظل موقف المثقف يلاحقه، حتى ظن أن أبا حيان التوحيدي يقصده حين كتب "مثالب الوزيرين" لأنه تسلّم غير مرة وزارتين.
هنا يطلع من الذاكرة سؤال المثقف والسياسي/أو المثقف السياسي، وبين الحالم والواقعي مسافات، وبين حارس الحلم ومن يفرط فيه مسافة، لذلك كان عليه أن يمد كفيّه إلى موقد جمر السياسة دون أن تحترق أصابعه، أو قلبه، أو اسمه وكم كان له بين هذا وذاك حيرة وحوار مع صاحبه المتنبي الذي ظل يعيد صوته البهي:
"على قلق كأنّ الريح تحتي"
..وأفرغ صاحبنا خواطره في كتابه عن المثقف والسلطة، وذاك هو الرجل نفسه وقد سلبه الموت أعزّ أحبته يهذي بصوت الغنوي:
ولو كانت الدنيا تباع اشتريته
بما لم تكن عنه النفوس تطيب
بعينيّ أو يمني يدي وقيل لي
هو الغائم الجذلان حين يؤوب
لقد علمتني السياسة لسبع سنوات عربية عجاف ما كان ممكناً تعلمه من معاوية وميكافيلي، لكن حرارة الحضور هنا كانت صاخبة، ولأي منا أن يتخيل زمان الأمة والدنيا بين عامي 1989 و 1997..
سيغادر صاحبنا مواقعه في السياسة والثقافة الرسمية والإعلام ويعود إلى دفاتره.. كان يريد أن يطهر روحه من غبار الرحلة كلها وكان عليه أن يعترف أن زماننا هذا- كما قال تشارلز ديكنز في مقدمة قصة مدينتين:
كان خير الأزمان، وكان شر الأزمان
كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة
كان عصر الإيمان، وكان عصر الشك
كان موسم النور، وكان موسم الظلام
كان نبع الأمل، وكان شتاء اليأس
كان لدينا كل شيء، ولم يكن لدينا أي شيء
كنا ندخل زماناً بعد خمسمائة من سقوط غرناطة وكانت ثقافة العنف التي انتصرت على الحكم الإسلامي المتسامح المثقف تدخل الدنيا في دورة جديدة، والفاعل نفسه؛ إمبراطوريات غربية أخرى، فمن أية الطرق يأتي نحوه الوجع، وقد سكبه في كتابه "سنوات الصبر والرضا..!" وفي غيره من الصفحات.
وكما صار في بيته ذات مساء "وزير" زار بيته ذات مساء آخر "شهيد" كان الفتى أردنياً تهاوى على تراب القدس سنة 1967 وبعد ثلاثين سنة كشف الحفارون صدفة عن جثمانه، ودلّ عليه الوطن ريًّا من روحه ورقمه العسكري. كان اسمه "علي" فكتب صاحبكم مقالته:
"ما الذي أيقظك يا علي"!!
ومنذ ذلك الزمان قدّم الوطني على السياسي، فأراح واستراح، وأدرك أن الشهادة نافذة على الصباح الجديد قد تفتح ياسمينها عند ضريح يوسف العظمة في دمشق، أو عبد الرحيم محمود في الشجرة، أو عبد القادر الحسيني في القسطل، أو محمد الحنيطي في حيفا، وصدر لصاحبنا كتابان دام إنجازهما معاً خمس سنوات.
الأول: حماسة الشهداء.
والثاني: منازل الأرجوان.
يا للرونق العجيب الذي يملأ السماء نجوماً، والفضاء عطراً، والمساء نشيداً، والضحى ندى، والحياة معنى وكرامة.. إنهم الشهداء..!!
وظل أصدقاؤه يعجبون من تحولاته، أما هو فقد أدرك معنى الآية الكريمة: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا (الزمر: 69)، فثبت قدميه تراب الأمة.. فكان كتابه: الصائح المحكيّ (عن المتنبي)، حتى صاح بنفسه ذات مساء:
وأقدمتُ إقدام الأتيّ كأن لي
سوى مهجتي، أو كان لي عندها ثأرُ
وكان: تحولات الرجل اليماني
وكان: بغداد لا غالب إلاّ الله
وكان: البطل في صورة إنسان
وكان: وردٌ ورماح
وكان: الرونق العجيب
وبين هذه الكتابة كلها ظلت صورة جعفر بن أبي طالب حاضرة، وبين ذي الجناحين وبين صاحبكم جوار في سهل مؤتةِ حيث تفتحت عيناه على قوس المشهد الذي ما يزال حاضراً إلى الآن؛ جعفر.. "دمه الطريق".. وأول الرايات، والصدام، وإعلام الدنيا أن نور رسالتنا الباهر سيمحو الظلمات والاستبداد وآخر إمبراطوريات الزمان القديم.
جعفر.. الذي يروي الواقدي في "فتوح البلدان" أن ابنه (عبد الله بن جعفر) قد زار ضريحه في مؤتة يوم اندفع مع مائة وخمسين فارساً من الحجاز لرفد جيش الفتح العظيم.. وقد قال لصحبه: "رأيت أبي البارحة في النوم وعليه حلتان خضراوان وجناحان، وبيده سيف مشهر أخضر، فسلّمه إلي وقال: يا بني قاتل به أعدائك"، فلكم منهم السلام.. جعفر وزيد وابن رواحة من صانعي زمن الاشراقات الأولى في الشهادة، ومن رجال ساروا في الطريق نفسها، النعمان بن مقرن، وأسد ابن الفرات، وموسى بن أبي الغسان، وسليمان الحلبي، وعمر المختار، وشهداء المدى الممتد بين الأوراس وفلسطين.
كنت أبحث عن منطق الشهادة يوم استشرى خطر الإمبراطورية الجديدة وتفشت العولمة مثل داء عالمي، واهتزت قواعد الثقافة تحت وطأة الإعلام البديل والعميل. وكنت أستعيد روح الدفاع عن الإسلام في شخص الشهيد عرّوج باشا القائد العثماني العظيم.. وبين ما غطى صفحات تزيد على سبعمائة في كتابيّ عن الشهداء ظلت صورتان باهرتان حاضرتين في الروح والرؤية والوجدان:
الأولى: لأحد القادة العثمانيين الكبار عرّوج باشا، الذي يتصدى لحملات الأسبان المتواصلة على الجزائر (الثلاثمائة سنة بعد سقوط غرناطة سنة 1492)، كان عرّوج باشا يخوض معركته الأخيرة سنة 1518 على باب مدينة تلمسان، ويتحصن في قلعتها مع (500) فارس من الأتراك، ثم يشق طريقه تحت الحصار نحو البحر، لأن مدداً سيصل مع الأسطول الذي يقوده شقيقه خير الدين: وفي المعركة الأخيرة سيقاتل ومعه عشرة مقاتلين تحصنوا في زاوية "سيدي موسى"، وقاتلوا حتى استشهدوا جميعاً، ولم يبق إلاّ المبارزة بينه وبين قائد قوات العدو، حتى خرّ الخصمان في لحظة واحدة، شهيد وقتيل. آنذاك احتز الأسبان رأس الشهيد وساروا به نحو وهران، ثم إلى إسبانيا حيث طافوا به في مدنهم، ثم إلى أوروبا ومدنها؛ "أما ثيابه المزركشة التي تركها في تلمسان فقد أخذت إلى إسبانيا، وطيف بها في أغلب المدن، ثم أودعت في معتكف القديس "سان جيروم القرطبي" بقيت إضافة واحدة من المصادر الغربية تقول: إنه كان يقاتل بيد واحدة، إذ فقد الثانية في حروبه ضد الأعداء فمن لا يتذكر (جعفر) الآن..!!
والثانية: لسليمان الحلبي، الفتى الحلبي الأزهري الذي اندفع عبر بلاد الشام إلى مصر، وقتل الجنرال كليبر قائد جيش الغزو الفرنسي إلى مصر سنة 1798، إذ حين سافر رفاعة الطهطاوي لرئاسة البعثة العلمية في فرنسا "زمن محمد علي" كتب في "تخليص الإبريز" سنة 1830 يقول عن سليمان الحلبي: "في متحف حديقة النباتات والحيوانات بباريس هيكله العظمي، وجمجمته في غرفة التشريح بمدرسة الطب بباريس، وخنجره في مدينة كاركاسون بفرنسا".
* * *
أرجو أن لا أبدو كأنني لا أحمل "دعوة للمستقبل"، خاصة أن أجيالنا تكاد تختنق تحت ضغط استبداد سلطات كثيرة حتى انتشر داء الخوف.. وليتنا علّمناهم:
وما الخوف إلاّ ما تخوّفه الفتى
وما الأمن إلاّ ما رآه الفتى أمنا
لكنني أدافع عن الثابت العظيم للأمة؛ وهو رسالة سمحة، ورؤية إنسانية، وخصوصية ثقافية، وطرائق مبتكرة في حفظ الدين والدنيا حتى يرى العدو منا ما يناقض القهر والفقر والتخلف الذي كان هو صانعه وسببه وراعيه..
أنا في موقع أكاديمي الآن، وأنا ابن المؤسسة الأولى الذي أؤتمن عليها بعد أربعين سنة من وقوفه الأول أمام بابها المشرق بالرؤيا والسفر نحو الزمان الجديد. إنني هناك أرى الدنيا الجديدة، وأميز مع الطلبة بين الظالم والمظلوم، والغالب والمغلوب، والصادق ومن يحرّف الكلام، وأرى الآخر إنساناً مثلنا، وصديقاً إن أراد، وعدواً إن بغى، وأرى أهلنا عبر الدروب من صنعاء إلى الرباط، وإن شئتم من الرباط إلى جاكرتا، أراهم في حيرتهم وفقرهم والدنيا تتنكر لهم، وتخترع لهم أسباباً للقهر والفقر، والأمانة في أعناقنا نحن والمسؤولية بين أيدينا.
فهل نعطي العقل حضوره وحقه في السؤال ورد الجواب!
وهل نخرج من ركود يهيمن على جامعاتنا إلى فضاء الجدل، وتلمّس المعضلات والحلول فما وراء أسوار الجامعات إلاّ الآباء الذين هدهم التعب والصبر وهم ينتظرون عودة قافلة الأبناء رابحة الكيل والعطاء الوفير.. إنه زمن العقل والعلم معاً، ونحن نرى الرتابة، والإحباط، والخوف يأكل قلوبنا وأعمارنا ثم نقرأ: "كليني لهمَّ يا أميمة ناصب، ولا نغْزُ وإن نادتنا غزيّة، ولا نجهل "أقل" من جهل الجاهلين علينا، ولا يتحرك فينا ساكن وثلث الأمة أمي وعطشان.. فهل من ثورة معرفية جديدة تجتاح هذا السكون المخجل في أرجاء الأمة!
أعرف أننا نرى بوادر في العلم والكتابة، لكنني لا أرى نهجاً واحداً، ولا أرى فريقاً قادراً على النهوض بالأمانات نحو شروطها الإنسانية في مداها القريب والبعيد..
* * *
لا أودّ أن أطيل في هذا المساء، لكنه الشوق، والوجع العربي، وقد حملتهما معي وجئت أقول للأخ الكبير الشيخ عبد المقصود عن حال الأمة:
ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فيا صاحب هذا البيت العامر بالمحبة والأخوة وقلق الأسئلة والكلام الجميل أقول: هذا جهد ينبئ عن رؤية ويكشف عن كثير، لذلك أسألك:
أعرني طرف زرقاء اليمامة
لأبصرَ ما ورا تلك الغمامة
وقد صارت الغمامة، في بعض بلاد الإسلام "غمة" ومس الضر أهلنا هناك وليس لنا دون أمتنا "أهلون"، والصراع عليها هو الصراع نفسه على بوابات غرناطة والقسطنطينية والقدس وبغداد، ونحن نخافهم على ديننا وهم يخافوننا على دنياهم، بينما كثيرون من النخبة التي تصل خيوطها بالثقافة تنأى عن الأسئلة الكبيرة ودورها التنويري لصالح صورة جديدة فرضتها عليهم العولمة، وهي صورة المثقف الخواجا الذي انفصل عن المستضعفين واكتفى بالعزلة والتنظير، وترفّع عن القاع الذي خرج منه، وخلّف قومه وراءه فقراء حائرين؛ إنه زمن من يستنطق بيت المتنبي الرائع:
ومن صَحِبَ الدّنيا طويلاً تقلّبت
على عينه حتى يرى صدقها كِذْبا
نحن هنا، ولله الحمد، ولسنا في شعب بوّان، وآن لنا أن نراجع "العواصم من القواصم" لابن العربي، "وإغاثة الأمة بكشف الغمة" للمقريزي، "والفرج بعد الشدة" للتنوخي، فما "انسدّت الدنيا عليّ لضيقها"، "ولكن أحلام الرجال تضيقُ":
أيّها الأعزاء:
أقل سلامي حبَّ ما خفَّ عنكم
وأسكت كيما لا يكونَ جوابُ
وفي النفس حاجاتٌ وفيكم فطانة
سكوتي بيانٌ عندها وخطابُ
والله أسأل أن يحفظكم ويرعاكم، ويحفظ هذا البلد الطيب عاطراً بأهله وعطائه وتميزه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1163  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 171 من 255
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.