شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الدكتورة فوزية أبو خالد))
أبدأ بالحمد لله رب العالمين وبالصلاة والسلام على نبي الهدى أشرف المرسلين وبالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته لجميع الحضور الأعزاء رجالاً ونساء.
احترت هل أشارككم هذا اللقاء الجميل نثراً أو شعراً وأخيراً استقر رأيي وبمشورة بعض الضالعين في شرائك كمين هذا التكريم أن أقدم شهادة ذاتية لتيار ثقافي جماعي حيث تجربتي في الكتابة ليست إلاّ قطرة حبر واحدة في نهره الجاري جيلاً بعد جيل بإذن الله. وقد سميت هذه الشهادة أو السيرة الناقصة مشكاة الكتابة تشتمل على عدة عناوين فرعية لكل مرحلة من مراحل مشاركتي في العمل الثقافي على امتداد هذه الأرض المباركة.
مشكاة الكتابة
أطياف أمي المحلقة أو نسيجي الشعري:
أذكر من طفولتي الأولى وجه شفيف من بَرد الطائف وزمزم مكة تقطر شلالاته وأنا على حجرها ترضعني وهي لم تتم الرابعة عشرة. وما علمت حينها بأن ذلك الماء الستاني الشرس لن يتوقف عن تشكيل نسيج قصائدي كلما واتاني إلهام الشعر حتى بعد أن صرت معمرة في العشق. لم تكن تلك الشابة تسقيني حليباً وحسب وإنما كنتُ أغترف منها شهد الأشواق الفوارة داخل ثوبها القطني على عودها النحيل لاكتشاف العالم. ولعلّني لم ألحظ في تلك التجربة إلاّ لاحقاً سؤال كيف تحل عدةُ نساء في جسد امرأة واحدة فتحوله إلى حقل أحلام مشتركة ومستقبلة بين الرجال والنساء. وربما كانت تلك البداية بوابتي لدخول مغارة حزن ونضال النساء وفضاءاته من أمنا حواء ومخاض السيدة مريم عليهما السلام إلى مقاومة شهرزاد توقُّفاً مجلاً عند وقفة السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بجانب صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم وهو وحيد يحمل رسالة الحق.
كانت كلمة السر لتلك البوابة كلمة ماما. وهذه الكلمة التي ينطقها الأطفال والكبار في اليوم مئات المرات هي أحد القصائد النادرة المشتركة عبر قارات العالم، ليصير المعنى الاجتماعي لكلمة الأم رمزاً لشبكة الشرايين والأوردة التي تشكل علاقة الطفل بالعالم. كانت التماعات عيونها أول نجوم تختطف بصري وتضيىء عتمة حبري الموعود قبل أن أعلم ما في الوجود من ظلمة ونور. كانت رائحة عطرها وعرقها أول أحماض حبرية تسَّاقط على دفتر ذاكرتي البكر فتحيل بياضها إلى حرائق وحدائق. كانت كفّيَ أمي أول حرير يلامس روحي ويثير الأسئلة في مخيلتي وأنا بعد أحبو على مدة "الحنبل" بحوش بيتنا في الطائف أو جدة أو الرياض. وكان صوت أمي بالمجرور الحجازي وبأناشيد الطفولة "حدارجة مدارجة ياكل عين سارجة" و "دوهه يا دوهه والكعبة بنوها.." وبالغنة النجدية "جانا الغزيل يردي يردي مكحل بالوردي" أول إيقاعات الشجن التي تفتّح عليها حسي الشعري.
من ألبوم الصور الاجتماعية في ذاكرة الطفولة:
أتذكر في الأعراس نساء برشارش ذهب "من أعلى نحورهن إلى الخاصرة"، يتمايلن كموجة مذهبة تتكسر على رمال الصحراء وهن يرسلن شعورهن الطويلة المائجة على إيقاع دفوف تنهب الأفئدة.
أتذكر نساءً يجرح مريئهن غثيان الوحم، نساء ممشوقات في الحمل، نساء يخرجن جديدات بعد التعمد بآلام النفاس.
أتذكر محميات النساء في لقاءات العزاء حمائم تنحني على حزنها فتعض على رمانة كتفها وتكتم البكاء، وأخريات كالعنادل تنتحب وتغسل بيت الفقيد والشوارع المجاورة بدمع التفجع.
أتذكر رجالاً يعودون إلى بيوتهم آخر النهار محمَّلين بقراطيس المقاضي أو بأيدي فاضية يشغلون أسرهم عنها بالأحضان والقبلات أو بافتعال النزاع حسب المزاج أو كمية ملح الصبر في دمائهم.
أتذكر أطفالاً يلعبون بحرية في الحارات إلى أن ينسحب النهار ويحط على الأجفان طائر المساء.
أتذكر انقطاع الكهرباء وشح الماء و"كنداسة جدة" وعناقيد ندى وفل تتدلى على خواصر صبايا مصابات بمس لا يتداوين منه إلاّ بالقرآن وعزايم الزعفران.
أذكر من طفولتي عماتي طرفة وموضي وخالاتي صالحة وخيرية يكتبن بالخيال قصصاً متنوعة عن حياة البنات يخبئنها عن جداتي عائشة وسارة فيفضحهن ميراث النساء من حمولة الآلام والأحلام.
وربما من ذلك الميراث النسوي المتأجج استلهمت قصيدتي الأولى "من يقاسمني إرث أمي؟" التي نشرت بديواني الأول "إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟"، وكأني أبادل نساء طفولتي الأولى أنخاب اللحاق بهن إلى عالم الأنوثة ببطولاته المستمرة. وإلاّ فهل منا هل من أي منكم من يستطيع أن ينكر بطولة أمه في حياته وإن أتت بشكل تفاصيل صغيرة قد لا نلحظها إلاّ أنها هناك.
روح أبي الحرة في حبري:
يلوح من الشريط السينمائي لذاكرة الأمس وكأنه التقط للتو بكاميرا رقمية وجه عبد الله أبي بقسماته السيفية، بقامته الفارعة كسارية الرايات وصوته الرعدي الماطر وقد لوحته شمس الصحاري ومشاق أسفاره اللامنتهية وعمله وهو في الحادية عشر في رعي الإبل وتشغيل السواني بكل ما في الحياة المنقسمة بين البداوة وبين الحضر من إئتلاف واختلاف وبكل ما فيها من رقة وقسوة وتلقائية وتعقيد. فيبدو والدي في حضوره وغيابه كحب عذري شغوف شفيف لا أعرف بأي الكلمات يمكن أن أرسم تحرر روحه من كل ما كان يقيد عصره من قيود الترهات والعادات. كيف يمكن أن أعترف بما زوّدني سخاء صمته وكتمان كلامه وحكمة سنينه من مؤونة ملح وخبز الحرف الحر قبل أن أعرف أن هناك سحراً اسمه الشعر أو تهلكة اسمها الكتابة.
الصداقات:
ولن أسمح بأن يُضيع تلاحق الأيام تلك الدائرة من الأطفال التي كانت تحف بسنواتي الأولى فتتشكل من أوقات اللعب معها بعض ملامح الأبجدية التي تعلمت الطيران بها بعد تلك المرحلة.
وسواء كنتُ ألتقي بأوائل الأصدقاء في صيفيات طفولتي على صخور الردف وشهقات الهدى وبساتين الفيصلية والمثناة بالطائف أو كنت ألقاهم على اللعب بالرمل بباب بيتنا بالشميسي أو بيوتهم في المربع وشارع الوشم أو في البر، فقد كان كأن لعبنا تدريبات تسخينية للعبة الحرف التي كانت بانتظاري عندما أدركتني "حرفة الكتابة". فقد كانت مرحلة تخصيب لتطور وعييَ الباكر بقيمة الصداقات.
لقد كانت تلك الصور أول حروف حفرت بها ألبوم الذاكرة الشخصية والجمعية لتجربة الكتابة التي لا زلت أخوض غمارها كتلميذ غر تغمره الدهشة وولع الاكتشاف فلا يبالي بالعقوبات رغم ترويعها مما يترتب على مغامراته سواء فيما كتبته نثراً أو شعراً.
خميرة الانتماء:
كانت خميرة الانتماء إلى المكان وقود كتابتي من صوت المآذن إلى نداءات الباعة بباب مكة والبغدادية إلى صحو البنجلة، من رنة فناجين القهوة المرة على متكأ المشراق بالرياض، إلى "بيالات" الزنجبيل وشاهي باعشن بأبحر، من صخب الصغيرات بالمدرسة الابتدائية الخامسة بالرويس إلى الشمس الصالية والسماء الصافية لمناخنا، من برد "المربعانية" بالشتاء وسموم الهبوب بالصيف إلى رائحة شجر النيم تطارد رطوبة جدة.
مرحلة تجريبية:
حين قامت معلمة اللغة العربية أبلة نهى العبوة بنشر أول مقالة لي بالجريدة ولم يكن ذلك سوى أحد موضوعات التعبير، لم أكن أعلم أن الكتابة عن "حب الوطن" كما طلبت منا ستكون البداية المبكرة لانتمائي إلى فضاء بلا نهايات.
وحين فتحت لي جريدة عكاظ زاوية يومية صغيرة بمبادرة من الأستاذ عبد الله عمر خياط بعنوان قطرات بعد أن انتقلت من صفحة القرّاء كنتُ قد أوشكت على الخروج من منطقة الشك بأن هذا الفضاء لي رغم ما يحيق به من محدقات.
ربما أستطيع الآن بأثر رجعي كمن يفحص رماد الحرائق في محاولة تحديد شرارات الالتماس أن أُمَرْحِل تلك الفترة الزمنية الممتدة لما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً في تجربة الكتابة في علاقتها بمد وجزر الحالة المحلية والعربية وإن كنتُ أستبعد أنني حينها كنت على وعي واضح بها كما أراها الآن كمراحل من المخاض الاجتماعي والسياسي والثقافي الصعب.
مرحلة أولى:
كانت المرحلة الأولى محملة بمرارة هزيمة حزيران وبشعور الرفض للواقع الذي أنتج الهزيمة على المستوى العربي مع حس "قومي" عام "يشرعن" هذا الرفض بما لم يتوار بعد من الزهور بما أنجزته نضالات جيل جميلة بوحيرد في الجزائر وبتباشير صعود المقاومة الفلسطينية في لفت نظر العالم إلى ما كان يعتبر قضية الوطن العربي وهو الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي لأرض فلسطين والبعد العربي والإسلامي الذي اتخذته القضية خاصة بعد سقوط القدس في أيدي الاحتلال.
وكانت المرحلة على المستوى العالمي مرحلة متأججة بمد الحركة الطلابية بفرنسا عام 68م وبأصداء التنظيرات الوجودية على المستوى الفلسفي وطروحات اللامعقول والعبث على المستوى الأدبي والمسرحي وبالتجريب السريالي على المستوى التشكيلي بما عكسته الترجمات العربية لأهم أعمال منتجيه حينها مثل سارتر ودي بوفوار وكولن ويلسن وكامو وألبرتو مورافيا وصمويل بيكيت، وأشعار لوركا ونيرودا. وبما اختصرت به صيحة "أنظر إلى الوراء بغضب" للكاتب الإنجليزي جون أوزبورن مجمل التعبير بالعالم الغربي عن موقف مخالفة المسلَّمات السابقة وسلطاتها الفكرية والاجتماعية. هذا بالإضافة إلى ما حملته الرياح الغربية من أشكال الكشوف العلمية الوصول إلى القمر، زراعة أول قلب بشري، التمرد الحياتي لحركة الهيبز الشبابية بأوروبا وأمريكا سواء في الأساليب المعيشة أو الذائقة الجمالية كما انعكست في التثوير الموسيقي كظاهرة البتلز وظهور رومانسية جديدة مثلّها فيلم قصة حب. وبدايات إشراقات الواقعية السحرية ممثلاً في أدب أمريكا الجنوبية.
ولم يكن الوطن العربي وقواه الشبابية بمنأى عن ذلك المد الفكري/الثقافي والاجتماعي العالمي في تداخله مع مد التمرد السياسي الذي تمثَّل لاحقاً في هزيمة حكومة واشنطن وانتصار شعب هانوي. وقد انعكس المناخ العالمي لتلك المرحلة على تيارات الفكر والأدب بالوطن العربي. وقد أدى ذلك مع تبلور مد تيار أدب وشعر المقاومة الفلسطينية إلى خلق موجات ثقافية جديدة في الإنتاج الفكري والأدبي. لم تتمثل فقط في ظهور أسماء فكرية وأدبية تطرح طرحاً جديداً يشكّل إضافة إلى التيار الفكري والأدبي والشعري الحديث لما قبل حزيران 67 مثل ما أضافته أعمال غسان كنفاني وغادة السمان والطيب صالح وعبد الرحمن منيف على المستوى الأدبي العربي العام ومحمود درويش وسميح القاسم وأمل دنقل وقاسم حداد على المستوى الشعري وهشام شرابي وحليم بركات على مستوى الفكر الاجتماعي ولكنها تمثلت أيضاً في بعض الأعمال اللاحقة لمنتجين ضالعين مثل أعمال لنجيب محفوظ كروايته "ميرامار وثرثرة فوق النيل" وكظاهرة مسرح الجيب وتجارب فرج فوده ولينين الرملي المسرحية بمصر، ومسرح محمد الماغوط "غربة" و "تشرين" ببلاد الشام.
كما كانت المرحلة على المستوى المحلي بداية لتبلور أجيال جديدة من المتعلمين تعليماً نظامياً يشمل العلوم الحديثة والتعليم الجامعي بالمملكة وخارجها بالنسبة للشباب كما كانت بداية لبزوغ نجم الأفواج الأولى من خريجات التعليم الجامعي للبنات. هذا بالإضافة إلى ما ضخّه ارتفاع أسعار النفط بعد حرب أكتوبر 73م في حياتنا الاجتماعية من تغيرات توزعت اتجاهاتها بين منجزات وكبوات.
وقد كان حال جيل الكتّاب الجدد وقتها على ساحة الثقافة المحلية موزعاً بين التواصل والتقاطع مع الرعيل الأول أمثال العمالقة أحمد السباعي ومحمد حسن عواد وحمزة شحاته وعبد الله عبد الجبار ومحمد حسين زيدان وعزيز ضياء والآشي والأنصاري وفوده وسرحان بمنطقة الحجاز والجهيمان وبن خميس وبن إدريس وسواهم بنجد وكذلك مع الرعيل الشبابي وقتها كعبد الله جفري ومشعل السديري ومحمد عبد الواحد وسباعي عثمان والصافي وسعد الحميدين ود. محمد عبده يماني وهشام ناظر ومحمد سعيد طيب، وبين التلصص على ذلك المد العربي والعالمي واستراق السمع إليه من خرم الباب.
فبينما كانت الكتب والصحف بمختلف تياراتها تباع على الرصيف في بيروت مثلاً، كانت أمي تضطر وهي حامل أن تتحزم ببعض تلك الكتب لتلك المرحلة لتمر بها لي عبر حواجز المطارات في رحلتها العلاجية. على أن الاستثناء في ذلك الحضور الذكوري المستنير كان لثريا قابل وسلطانة السديري في الشعر وفاتن شاكر إعلامية وكاتبة جريئة متميزة وكذلك نجاة محمد حسن عواد وشرين حمزة شحاته، وخيرية السقاف كاتبة جادة ومحررة مجددة وسميرة بنت الجزيرة روائية، حيث بدأن تاريخ مشاركات تنشغل بالهمّ الاجتماعي والأدبي ولا تقتصر على هموم الطبخ والبيت والأزياء. وبذلك قامت تلك القامات بردم الفجوة التي كان يجسرها الأديب أحمد السباعي يرحمه الله بتوقيع بنت الحجاز في صحيفة أم القرى قبلها بعقود قليلة.
مددت رأسي في تلك المرحلة حيث تدلت جدائلي المدرسية وتطايرت شبراتها الأورجنزا البيضاء تشاغب القرّاء بمحاولة طرح الأسئلة.
في تلك المرحلة كتبت بعض أسئلة عن واقع الحال ليس إلاّ والتي لم يمر بعضها بسلام.
كان ذلك على مستوى تجربة الكتابة في الصحف أما على مستوى تجربتي الشعرية فقد كنت أكثر جرأة وطيشاً حين غافلت حراس الشكل الشعري الواحد المتمثل في الشعر العامودي الذي كان وقتها وحده المتربع على الساحة الثقافية بالمجتمع السعودي وسرقت شعلة الشعر لأنفخ فيها الشرارات الأولى لقصيدة النثر على مستوى المملكة دون أن أعلم أي خبية من خبايا المخلوقات القارصة أدخلت يدي فيها حين طرحت في عنوان ديواني الأول ذلك السؤال "إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟".
مرحلة ثانية:
وفي تجربتي الشخصية عندما تخرجت من مرحلة الدراسة الثانوية كنتُ قد جربت عدة أشكال بسيطة من الأشكال الشائكة للكتابة. كنت قد كتبت عامودي اليومي، مقالات وقراءات كتبت بمجلة "اليمامة"، تحقيقات عن القضايا الطلابية والاجتماعية بجريدة "البلاد" وتحرير صفحة أسبوعية كاملة بجريدة "عكاظ" جذبت بشقاوتها مزيداً من أسماء الشباب كعبد الله باخشوين وإبراهيم الفوزان. وكنا قد بدأنا في تشكيل لغة وتساؤلات ورؤى أولية تشتق نفسها من ذلك المد العربي والعالمي الفوّار خارج أسوار المملكة أكثر من ارتباطها بالسائد المحلي لمعظم الكتابات. وإن كان عبد الله منّاع وعبد الله جفري والشدي والماجد والعبد الواحد والصافي والحارثي والسديري وسباعي عثمان وفاتنة شاكر وخيرية السقاف وسواهم من أسماء كان لهم الفضل في إعداد المناخ لمزيد من الاجتراحات.
وأثناء دراستي بالخارج لم أتوقف عن الكتابة وإنما بدأت آخذ اتجاهات أكثر تجريباً وحرية. فقد كانت بداية دراستي الجامعية بالجامعة الأمريكية ببيروت وكانت بيروت عاصمة الثقافة العربية والموطن والملاذ لأسماء لامعة مما كان التعرف عليها لفتاة لم تبلغ العشرين خارجة للساعة بملحها وأشواكها ووحشها من أجاج البحر ومفاوز الصحراء ضرب من الأحلام. فبالجامعة هشام شرابي وحليم بركات يعلّمان فصلي في العلوم الاجتماعية، خليل حاوي يُشرّح "مدام بوفاري" لفلوبير و "أزهار الشر" لبودلير، إحسان عباس أحضر محاضراته عن اتجاهات النقد العربي القديم والحديث. وغير بعيد عن شارع بلس الذي تقع فيه الجامعة محمود درويش بالدولشفيتا أو مجلة شؤون فلسطينية أو في أمسية شعرية على مسرح كلية البنات بقريطم، أمسية لنزار قباني، قراءة لكوليت خوري غادة السمان بالكافيه دوباريس، أدونيس يتخطف أفراس الشعر بالهورس شو، قاسم حداد وعلوي الهاشمي يقرآن شعرهما برابطة طلبة البحرين بشارع عبد العزيز، بيت الشاعرة أمل جراح وزوجها الروائي ياسين رفاعية في آخر شارع الحمرا حيث مكتبتهم المتكنزة بالأدب الحديث مضافتي الدائمة بما لا تقل عن مكتبة الجامعة. أما مكتب العلامة حمد الجاسر ففي مبنى العازارية في وسط بيروت حيث واظبت لأشهر على زيارته أسبوعياً والارتشفاف من معين غزارة علمه السخي. وبذلك أكون ربما أول فتاة تتلمذت على يد ذلك العملاق وقد أجريت معه حينها عدة حوارات نشرت بمجلة "اليمامة" ومجلة "الطلاب".
مرحلة ثالثة:
تمثلت تلك المرحلة في بعدها الشخصي بالرحلة إلى أمريكا في بعثة دراسية لاستكمال ما قطعه اشتداد أوار الحرب اللبنانية من دراستي الجامعية. وقد كانت الدولة السعودية وقتها فتحت باباً واسعاً لابتعاث الشباب السعودي للدراسة بأمريكا شمل عدداً محدوداً ومحظوظاً من الشابات. ومع أن تجربتي التعليمية بأمريكا لم تبتعد بي عن مصبات الكتابة إلاّ أنها أيضاً أخذتني إلى وجهة تجريبية جديدة حيث استغرقت في كتابة كان أجمل ما فيها أنها لم تكن للنشر بصحفنا فلم أكن أخضع فيها لتوجّسات الرقيب. كنت في تلك الفترة أتعاطى نوعين من الكتابة خارج تدريباتي البحثية بالجامعة. كان النوع الأول كتابة رأي حيث كنت أشارك في مجلات الطلاب في كتابة تحليلية للواقع العربي تتوجه للشعب الأمريكي وتنتقد العلاقة الفوقية للإدارة الأمريكية بقضايا العالم العربي وكانت كتابتها بحد ذاته تجربة تشكّل تحدياً كبيراً لغوياً وفكرياً. أما النوع الآخر من الكتابة فكان تجربة أكثر حميمية أرهفت حسي الشعري بكتابة قراءات تحليلية لقصائد عدد من الشعراء الأمريكيين ومنهم وليم وسلفيا بلاث ورستالا وروبرت فروست، فيما كنت أدرسه من مقررات شعرية اختيارية.
ولما تخرجت من الجامعة وعدت للوطن بالثمانينات وجدت مفاجأة الأصوات الجديدة التي دخلت الساحة الثقافية والصحفية بعنفوان الشعر والنثر المجدد. كان المربد الملحق الثقافي لجريدة اليوم الذي كان طلاب من جامعة البترول ومنهم الشاعرين علي الدميني ومحمد الدميني بعض أعمدته. وبمشاركة صالح العزاز وعدد آخر من المجددين منهم أستاذنا الكبير محمد العلي والروائي المبدع عبد العزيز المشري (رحمه الله)، وجبير المليحان وسواهم. ثم كان ملحق أصوات لمجلة اليمامة وكان هناك الكتابات الجديدة بجريدة الرياض وعكاظ وجريدة الجزيرة. وتلك الملاحق الثقافية كانت رمزاً لولادة حركة كتابة جديدة متعددة سواء كانت كتابة رأي أو كتابة فكر أو كتابة صحفية أو أدبية أو شعرية. فكانت أصوات متوهجة مثل فوزية البكر، دبيب الفوزان، حمد المرزوقي، جهير المساعد العبد الكريم، غيداء المنفى، محمد علوان، عبد الله الصيخان، محمد جبر الحربي، خديجة العمري، سعد الدوسري، والكولييت، صالح الأشقر، وعبد الله بامحرز، ليلى الأحيدب، هدى الدغفق، أميمة الخميس، بدرية البشر، علي بافقيه، أحمد عايل فقيهي، الثبيتي، جار الله الحميد، نجوى هاشم، السريحي والغذامي والبازعي وعدد آخر منهم.
غير أن ذلك المد ما لبث أن خفت على مستوى ساحة الثقافة المحلية أو لنقل أنه تعرض لنوع من البيات الإجباري آخر الثمانينات الميلادية وإن كان بعض ذلك يعود لمواجهة عدد من التحديات فيما لم تكن في جوهرها تحديات إبداعية أو فكرية بقدر ما كانت تحديات تتعلق بموازين القوى الاجتماعية بين التعددية والآحادية والتي مع الأسف لم تكن عادلة بما يكفي لإقرار ثقافة التعدد والاختلاف على أسس حضارية.
محطات ليست عابرة وتحولات مفتوحة:
- الكتابة بين الهوية والهواية:
أذكر، أو بالأحرى لن أنسى في موقف مُساءلة عصيب في استجواب عن الكتابة. كان أحد أسئلة ذلك الموقف سؤال: ما هي هوايتك؟
وحين أجبتُ أن هوايتي هي صنع الحلويات. استشاط المتسائل غضباً وقال هل تستهزئين بنا. وحين أكدتُ له بأنني أدرك تماماً أن الموقف ليس موقف هزل وبأنني أجيبه بكل جدية.
قال، بصوت نافذ الصبر إذا كانت هوايتك الطبخ فماذا عساها إذن أن تكون الكتابة بالنسبة لك.
حينها انبريت لأقول: لا شك أنك يا سيدي تخلط بين الهواية والهوية. فالكتابة بالنسبة لي هويتي وحياتي وليست هوايتي وإلاّ لما طلبتني لأمثل هنا ولما كنا في هذا الموقف.
هذا لم يكن مجرد التباس عارض من موظف مدرب على شأن أبعد ما يكون عن الشأن الثقافي ولكنه في رأيي يشكّل تمثيلاً أميناً لذلك الالتباس العام في موقع الكاتبة بالصحف المحلية سواء من قبل بعض رؤساء التحرير أو بعض الزملاء أو شريحة من القرّاء أو من قبل بعض الكاتبات أنفسهن. وإذا كان أحد الأبعاد الجمالية للكتابة أن تمارس كهواية وليس كاحتراف قد يطفئ وهجها الروتين، فإن "غي أو كيف الكتابة" إن جاز التعبير يصعب الخلط فيه بين عملية الكتابة نفسها وبين منجز الكتابة كتعبير عن الهوية والانتماء إلى وطن وإلى الحق والجمال بالانحياز إلى الإنسانية جمعاء.
- الكتابة بين برزخ الماء وبرزخ النار:
من خلال انتسابي إلى عالم الكتابة العلمية كأكاديمية وانتمائي إلى عالم الكتابة الإبداعية كشاعرة أستطيع أن أقول إن تجربة كتابة الرأي بالصحف العربية عامة والمحلية خاصة هي التجربة الأشرس، ليس لأني كنت أعيش التشظّي بين برزخ الماء وبرزخ النار وهوة الرمل المنصوبة بينهما ولكن لسبب آخر لا يقل تركيباً أترك الخوض فيه للأسئلة.
- ريش الكتابة في رياح التحديات:
حين كنت في طريقي إلى معرض الكتاب الدولي بالرياض لأوقع لأول مرة كتاب من كتبي الشعرية على أرض وطني، كان مكر الذاكرة يستعرض لي موكباً حافلاً بالمحطات التي لم تخلُ من انكسارات فتقفز بالمقابل تلك الانتصارات اليومية الصغيرة التي كان تراكمها التاريخي والشخصي والاجتماعي يكيد لسلطة الجاذبية الأرضية بريش الكتابة لتشرئب من جديد إلى طرقات غير آهلة إلاّ بأشواق الكشوف.
فيلوح الفضاء الإلكتروني وفضاءات متخيَّلة أخرى تدعوني لاستكناه مغاليق غامضة أو لا زالت غفلاً لتزين لي المضي في مخاطرة الكتابة بأنواعها.
- شركائي في فتيل المشكاة:
على إن تجربتي في الكتابة لم تكن لتكوِّن التجربة نفسها لولا أن الله شرَّفني بالانتماء إلى شموخ الكعبة وجذور النخل وبروق الصحراء لهذه البلاد. ومن مزايا هذا الانتماء ذلك الإرث المضيء لتاريخ كفاح النساء من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن عائشة وأم سلمة وزينب وحفصة والأخريات إلى سمية وفاطمة وأسماء والشفاء إلى سكينة ونفيسة والخنساء وليلى الأخيلية وولاَّدة وسواهن. كما أن تجربتي لم تكن لتكون لولا أن شد الله أزري وأزرها بعدد لا يحصى من الزمالات والصداقات لأجيال متعددة ممن أعرف وممن لم أقابل قط كالأستاذ عبد المقصود من شركاء شرك الكتابة ومشاغلها النبيلة من الرجال والنساء المستنيرين. بما لا يجعلني أستطيع أن أدعي بأن تجربتي في الكتابة كانت تجربتي وحدي بل تجربة عدة أجيال في الجمع بين عشق الوطن وحنين الحرية.
ولا يكون حديثي عن تجربتي في الكتابة إلاّ ناقصاً إذا لم أنوّه وإن باختصار مخل بتضحيات أبي عبد الله أبو خالد كما ذكرت ود. غسان حسين العقبي ابني فهو صديقي وبصيرتي وبصري في الكتابة والحياة معاً. ولا بد أيضاً أن أشير باعتزاز إلى أجمل ما قد تعرفه امرأة من أخوة الرجال فأذكر دور شقيقي محمد يرحمه الله وأشقائي الشيخ فيصل بن عبد الله وأ. حسن وأ. أحمد وأ. عبد الرحمن وأ. مشاري وأبناؤهم عبد الله وإبراهيم ومحمد بن فيصل وتركي وبدر بن أحمد ومهيار بن حسن في شد خصري بحزام من ذهب الحب ووهج الرأي والمعاضدة بما كنت ولا زلت أصلب به ظهري عند جلوسي الممض لساعات لا تحصى لحظة الكتابة. وكذلك أخواتي الدكتورات نوال، ونهى، وأنوار، وحسناء، على وقوفهن معي ومع نساء الوطن بما أحرزته كل منهن من نجاحات صبورة في مجال تخصصها وحياتها الأسرية وأيضاً ابنتي طفول التي منذ طفولتها قبلت بالكتابة كشريكة لها في وقت أمها إلى أن صارت هي نفسها شريكتي في الكتابة.
أما الشريفة نور الهاشمي أمي تلك السيدة على مد النظر فإن كل حرف تنفسته لم يكن ليكون لولا أن سحبت هواءً نقياً له من رئتها وكل كلمة كتبتها لم تكن لتكون لولا استليت زيتها من ضوء عيونها. فهي التي علمتني أن الإنسان الحر لا يكتب كلمة ملوثة أو منافقة بل لا يكتب إلاّ كلمة حرة شريفة. وهي نفسها اليوم تقف كرمز من رموز عمل المرأة بكونها من أوائل السيدات السعوديات اللواتي حصلن على سجل تجاري للانخراط في سوق العمل النزيه قبل 35 عاماً. فتحية لأمي ولجميع الأمهات والآباء أيضاً.
كلمة وفاء:
وأعتقد أنه لا يفوتني في هذا اللقاء أن أعبر عن كلمة وفاء بسيطة للأستاذ عبد المقصود خوجه على ما يقوم به من جهد واعٍ والعاملين معه في جمع قلوب وعقول المفكرين والأدباء والناشطين في حب الوطن أمثاله على اختلاف أطيافهم. فالاثنينية أصبحت معلماً من معالم الحياة الثقافية بمجتمعنا وهي نافذة ومؤثرة من نوافذ العمل الثقافي بالمعنى المدني والوطني للكلمة. وهي بتجربتها النادرة عربياً وعالمياً لتكريم العاملين في الحقل الثقافي أو الاجتماعي وهم بعد أحياء وبعضهم لا يزال في عنفوان العطاء تسجل مخالفة جميلة لتلك العادة البائسة التي كانت تنتظر موت الكاتب لتفكر في تكريمه. وهذا بالإضافة إلى توجه طباعة المؤلفات الرصينة عمل لا يستحق صاحبه الشكر المعتاد أو الأطناب فوعيه المعرفي يغنيه عن ذلك ولكنه بكل جدارة يستحق وسام وفاء لاستعادته مستحيل الوفاء من الأساطير وإرساله حراً طليقاً يعيش بين الأحياء.
الأستاذة نازك الإمام: شكراً لسعادة الأستاذة الدكتورة فوزية أبو خالد على هذه الإضاءة الجميلة وبهذه الكلمات التي أسعدتنا بها كثيراً، قبل أن نبدأ بطرح الأسئلة الشاعرة بديعة قشقري لها كلمة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :717  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 154 من 255
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .