((كلمة سعادة الأستاذ الشاعر علي الدميني))
|
فوزية أبو خالد ذات التمرد العذري: كيف استنطقت الجماد واكتشفت أشجانه، كيف طرحت سؤال إلى متى يختطفونك ليلة العُرس بذلك النزق وتلك الرزانة في عمر مبكر، كيف أفلتت الفراشات من حرائق الضوء؟ |
أولاً: تجمع الفراشات المرفرفة حول بريق الضوء، وتذهب أمامها لاقتراف أزهى حالات مقاربات الجمر. |
لا تشتعل وحيدةً بل تأخذنا معها إلى ذلك البهاء، لنشتعلَ معاً قبل أن تتمكن هي من لملمة شظايا فراشاتها عن تلك التهلكة! |
تحلق عالياً وبعيداً وترى أبعد مما تبصره الأجنحة المحتكَّة بالفضاء الواقع والمتخيَّل على السواء. ومثلما تمتطي أفراس المغامرة والسفر إلى التخوم القصيّة في الشعر، فإنها تأخذ خطامها بنفس السلاسة والعنفوان إلى محطات عقلانية في تناول القضايا والهموم الوطنية والاجتماعية، محتفظة، بمكنونها الرائي النقدي، لكل شيء.. |
للذات.. للأصدقاء.. وللكينونة الإنسانية برمتها! |
فوزية أبو خالد سؤال دائم التشكُّل والفوران، لا يهدأَ إلاّ لكي يطلق قدراً أكبر من حيوية الجدل والتأمل والإبداع، فيما يتفق معه قارئها (من مختلف المشارب) أو يختلف! |
وحيث إن مساحة الكلام محدودةٌ بزمنها في هذه الليلة لتكريم الشاعرة والدكتورة "فوزية أبو خالد"، فإنني-مضطراً- سأُشير بإيجاز إلى ملمحين ساطعين من مظاهر تشكيل الخطاب الإبداعي والثقافي الذي تنتجه فوزية،كمثقفة عضوية بامتياز، وكمبدعة دائمة التجدد والتجاوز، وهما "شعرية تشكيل الخطاب"، و "جدل الغنائي والتأملي في إبداعها الشعري". |
وأبدأ بأولهما: شعرية تشكيل الخطاب عند فوزية أبو خالد: |
يتذكر جيلنا، أن فوزية أبو خالد قد بدأت الكتابة الصحفية مبكرةً، في عمودها "قطرات" في جريدة "عكاظ" منذ عام 1970م- رغم محدودية خبرتها وتجربتها الحياتية لصغر سنها فقد أبدت جرأةً أدبيةً ملفتةً في ما تكتبُ من زاوية صبابات واشتعالات ذلك العمر وتلك المرحلة في بعدها العربي والوطني. |
- لكنها استكملت عدة الكتابة الإبداعية والثقافية سريعاً في مرحلة إبداعها لديوانها التأسيسي الأول "إلى متى يختطفونك ليلة العرس" الصادر في بيروت في عام 73م. |
وبذلك الإنجاز وضعت الشاعرة ترسيمة بنيوية لكتابة نصّها الإبداعي في حقل الشعر، ينهض على مقومات بنائية عديدة، منها: |
- الانحياز المبكر والحاسم لكتابة قصيدة النثر (في مناخ ثقافي مضاد لكتابة قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر على السواء) وإنجازها لكتابة نص شعري سك مقدماته رواد كتابة قصيدة النثر، يقوم على رهافة التعبير الشعري، وطزاجته، واقتصاده في الكلام، واعتماد بلاغة اليومي عوضاً عن بلاغة القاموس، واستثمار كتابة الإيجاز والتكثيف لخلق فضاء دلالي للنص متعدد القراءات والتأويلات. |
- تميزت بصدق التجربة الفنية، وحميمية التعبير عن مخاضاتها الكتابية حتى تبدت تلك الحميمية صوراً من صورها الشخصية فكرياً ووجدانياً وشعرياً، لا فرق في ذلك إن اشتغلت على مسائل شخصية يومية، أو قضايا وطنية أو إنسانية أو قومية كبرى. |
- تعميق حضور كاتبة النص "الأنثى" عبر تمظهرات حسية الوجود الأنثوي، في سياق مفردات تشكل الصورة ومرجعياتها الدلالية، ولعلّ شاعرتنا واحدة من أبرز المحتفيات بفضاءات الأنوثة وأسرارها مثل احتفائها بالحياة نفسها، وهو توجه لم يكن حينها في السبعينات متبلوراً بشكل واضح كما نعهده اليوم في ضوء الدراسات النقدية الجديدة في الشعر وفي الأدب عموماً. |
وللتدليل العابر على هذا ذلك الحضور، أشيرُ إلى ما تحتفي به الشاعرة لتأثيث الصورة الشعرية، من مثل: الأمومة وحضور "الأم بشتى الصور الشعرية الخلابة، واستدعاءاتها لحالات شديدة الارتباط بالأنثى، مثل، آلام الحمل والولادة، وحبل المشيمة، وحليب الرضيع، والصدر المترع بالحليب، ومشاغل المطبخ والتزين" حيث طاشت القصيدة مثلما طاشت خميرة عجينة غداء العائلة، ولعب ودروس الصغار وشجاراتهم، والتأجج مع الحبيب، مثلما برزت تلك الهوية الأنثوية في ديوانيها الأخيرين من خلال ما استنطقته من "شجن الجماد"، وما كتبته في "تمرد عذري"، ما يجد مرجعياته، بكل وضوح في عوالم المرأة، ومملكة الأنوثة، كما أن تلك الخصوصية الواضحة تبرز أيضاً عبر الإحالات إلى هموم المرأة وقضاياها، لكي تتضافر كل هذه المكونات في تشكيل مقالات الخطاب الشعري والثقافي الذي أنجزته. |
- فوزية أبو خالد شاعرة خارج النص الشعري وداخل النص. |
- هيمنة كتابة بنية النص الشعري على منجزها في حقول معرفية أخرى اشتغلت فيها على الهموم الإنسانية والوطنية والقومية كبؤرة دلالية، وظلت نواة تشكيل خطابه، جمالياً، منشدّة إلى تلك الهيمنة وذلك الألق. |
- وهنا يمكننا القول بأن "فوزية أبو خالد" لم تبارح محبرة أو مجمرة شعرها الدائمة الاشتعال في كل ما قاربته أو اقترفته من أنواع الكتابة، حيث إن قارئها، الذي يستمتع برهافتها الوجدانية وتدفق سلسبيلها الشعري، بما يسطع في كل جملة شعرية من غنائية شفيفة أو تأملية عميقة، أو مفارقة جارحة، سوف يستمتع، ذاته، بما تكتبه في الحالات العفوية.. في رسالة بريد أو رسالة جوال، أو إهداء، أو تعليق على حوار، مثلما سينفعل بسيمائها ماثلاً في الكثير من عملها المخلص على الهم الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي، بل وحتى دراساتها ورسائلها الأكاديمية لا تخلص للصرامة العلمية أسلوباً على الأقل فنجدها لا بد متلبسة حتى في بحوثها بلغة شعرية ساحرة. |
كما أود التأكيد هنا، على أن "فوزية أبو خالد" قد استثمرت طاقاتها الشعرية الفذّة لتدوين رسالتها الفكرية بقدر ما كرستها لقصائدها، لا لكي تحتمي بشفرة الشعر من أجل تعويم الدلالة، أو الهروب من تبعات الجرأة والصراحة التي تتميز بهما، وإنما لتوظيف فاعلية الجمالي بديلاً عن الوعظي أو الأيديولوجي، لتوصيل محمولاته الوجدانية والتعبيرية والحسية، من أجل استثارة مكامن استقبال النص لدى قارئها، شكلاً وتعبيراً. |
ثانياً: جدل الغنائي والتأملي في إبداعها الشعري. |
الذائقة كينونة شديدة الحيوية، تغتني وتتجدد، مثلما تتمرد وتتغير، وفق مرتكزات عديدة تلعب فيها ثقافة المبدع وقابليته للمراجعة والتجديد، دوراً رئيساً، إلى جانب تأثير متغيرات العصر وأدواته الاتصالية، على المستويين الفردي والجمعي، في آن. |
وحيث لعبت الغنائية دورها الطويل في تشكيل الخطاب الشعري والثقافي لشاعرتنا، فإنها قد انزاحت عن تلك الاستراتيجية النصّيّة إلى أفق آخر لا يقطع حبال وشيجة الصلة بين المكوِّن الأساسي وتفرعاته التالية، وإنما يعمق فاعليتها ويغنيها، حيث نرى إلى تجربة جديدة يمكن توصيفها بتجربة الكتابة التأملية المجددة. |
وفي ديوانها "شجن الجماد" ما يجلي ذلك الانزياح والانحياز، حين ذهبت إلى استنطاق "الجماد" للتعبير عن مخاض شعري مختلف، مثلما نصادف استحضارها أطياف شخصيات حضرت في تكوينها المعرفي والوجداني والشعري، لإبداع قصائد ديوانها الجديد "تمرد عذري". أن يسعى الشاعر بدأب "أيوب" وطيش المغامر، لتجاوز منجزه الشعري، إلى مجاهل غير مألوفة، فذلك قدر المبدع، ولكن أن ينتقل الشاعر من شبكة علاقات دلالية، ونسق كتابة جمالية، وإنسانية معهودة ويترحّل إلى آفاق بكر، ومفاجئة، فذلك هو تحدي الشعر الذي تجترحه فوزية أبو خالد وتنجح في إثارة دهشة التجديد ديوان بعد آخر. |
وهذه الحرية الشعرية الشاسعة اللا محدودة عند فوزية أبو خالد الشاعرة يقابلها صرامة أصحاب المبادئ في الالتزام بكل ما هو حق وجمال عند فوزية أبو خالد الكاتبة والباحثة. |
الأستاذة نازك الإمام: الآن الكلمة لسعادة الدكتورة أميرة قشقري أستاذة اللسانيات بجامعة الملك عبد العزيز في جدة. |
|