شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((الحوار مع المحتفى به))
عريف الحفل: نفتح باب الحوار مع معالي ضيفنا الكبير، سؤال من الدكتور محمد عطوي من جامعة الملك عبد العزيز يقول:
طالعتنا جريدة الأهرام المصرية منذ عقد من الزمن بصورة للأزهر الشريف وتحتها مبنى الأزهر بالمواصفات نفسها كأن كل عمود فوق عمود من الأرض وكل قبو تحت قبو بالمساحة العليا نفسها فهل هذا صحيح وما رأيكم؟
معالي الدكتور شبوح: تجري أعمال حفريات كثيرة في الأزهر وتقوم عمليات إصلاح بسيط تتم بين الحين والآخر، وعلى كل حال فإن مخطط المساجد يقوم على الفكرة نفسها، فكتاب الأزرقي نشر عن جامع المدينة كيف المهدي أسسه، وهذه الطريقة التي جاء رسمها البدائي في كتاب أخبار مكة أعانتني كثيراً على تفهّم ما تم في جامع القيروان. وأمّا جامع القيروان فهو الجامع المسجد الوحيد الذي احتفظ بكل عناصره المعمارية ثم تداعت سقوفه وأنذرت بعض أجزاء سقوفه بالسقوط لأنها أثقلت فيما بعد بقسم من الخرسانة الأسمنتية فأصبح التوازن مختلاً لذلك كشف عن الأسس، فتبينا، المسجد يخطط على الطريقة الآتية: تحفر ممرات أو مخطط في الأرض بشكل تقاطع وتبنى جدران بعمق بحيث يسمح بحمل الأثقال التي فوقها وفي نقطة التقاء كل عقد وعقد يرتكز العمود فالأعمدة ليست هكذا موضوعة على الأرض أو على قاعدة مستقلة وأنما هي مرتبطة بما يسمى "الشيناج" أو عنصر الربط المشترك الذي يتم داخل الأرض، فهذا التصّور الذي يقوله هو لم يتم كما رأيته كما أعلم بالفعل ولكنه هو حقيقة في بناء كل المساجد وشكراً.
الأستاذة نازك الإِمام: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أصحاب المعالي أصحاب السعادة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرحب نحن السيدات بسعادة ضيفنا الكريم، والسؤال من السيدة آسيا عبد الله حرم القنصل اليمني للشؤون الإعلامية في جدة.
هل تفضلتم بزيارة اليمن، وبالذات صنعاء القديمة التي تمثل الفن المعماري القديم ومدينة حضرموت، فهاتان المدينتان تمثلان الفن المعماري القديم وهما أول ناطحتَي سحاب في العالم؟
معالي الدكتور شبوح: شكراً للسيدة آسيا، وأعلمها بأنني قد حالفني الحظ وزرت اليمن في أواخر السبعينيات ونظمت عندما كنت مسؤولاً عن قطاع التراث في مؤسسة الأليكسو، وتنظيم المؤتمر التاسع للآثار في مدينة صنعاء وهو مؤتمر فريد حاولت أن أركز فيه على الآثار الإسلامية وأن أنشئ وأجتذب أغلب الآثاريين الذين اتجهوا اتجاهات تتصل بالحضارات الغربية وليس بالحضارة الإسلامية، كان هذا المؤتمر مخصصاً لذلك، وفيه اتخذت قرارات مهمة ولكنها لم تتابع كالعادة وبمناسبة هذا المؤتمر كلفني معالي سيادة رئيس الدولة في ذلك الوقت لإعداد معرض لمخطوطات الرقع التي اكتشفت في جامعة صنعاء وهو أول مرة عرضت فيه هذه الوثائق المهمة واستقدم لها بعد ذلك خبير ألماني قام بتأسيس مركز للترميم هناك، واقتبسنا هذا الجهد الذي أقيم في صنعاء لإقامة نظير له في القيروان.
عريف الحفل: سؤال من الأخ منصور الشامي يقول:
أرجو التعريف بكلمات موجزات جداً بالعلاّمة المفسّر التونسي الطاهر بن عاشور.
معالي الدكتور شبوح: أستاذنا أستاذ الأجيال ولا يمكن اختصار حياته الطويلة الغنية بالمآثر الطويلة في كلمات لكن ما يمكن أن يقال عنه أنه نشأ في قصر جده الذي كان وزيراً أوّل وقد رعاه رعاية كاملة وكتب له المتون والكتب التي يعتمد عليها في دراسته ولقّنه هذه الثقافة الإسلامية في زمن مبكر. فنعلم أنه تولى القضاء في العام 1919م وأدركناه حتى وفاته في السبعينيات رحمة الله عليه، وأنا شخصياً كنت على موعد معه في اليوم نفسه الذي توفي فيه، وهو رجل جرئ قليل الكلام يتحدث معك كما لو كنت تفتح قاموساً لا يجيب إلاّ بقدر ما يسأل عنه، كثير الحياء والوقار في الوقت نفسه، واشتهر بالنسبة للجيل الذي درسه وقد عاش طويلاً إنه يتبحر طويلاً في علم التفسير الذي ظهر فيما بعد في كتابه التحرير والتنوير، وفي قصره توجد له أربعة مقاعد متباينة ومختلفة أخبرني ابنه شيخنا محمد بن عاشور أن لكل مقعد جو خاص يباشر فيه عملاً مخصصاً وهنالك جو لدراسة الشعر وقد نشر ديوان بشار، وفي ديوان بشار على ما تعلمونه، ونشر تحقيقاً وشرحاً لقصيدة الأعشى، وفي الوقت نفسه كان يتحول إلى المركر الثاني في كتابة التفسير وكان يكتب في مقاصد الشريعة في مكان آخر ويباشر الاتصال في هذا الموضوع إلى آخر حياته، فالرجل كان قد تعرض إلى محن كثيرة كما يتعرض الكبار للمحن دائماً، وهذه المحن كلفته العزلة أكثر من مرة، ومن مآثره أنه أدخل الحيوية إلى جامعة الزيتونة، وأنه وسّع فروعها في وقت جعل الاستعمار الثقافة الإسلامية منفصلة ومتقوقعة فأصبحت للزيتونة فروع في كل مدن المملكة في ذلك الوقت وبلغ عدد الطلبة حوالي ثمانية عشر طالباً كانوا فيما بعد في عهد الاستقلال هم نواة لكل التعريب في كل الوزارات وفي التعليم خاصة رحمه الله.
الأستاذة نازك الإمام: سؤال من الدكتورة أفنان الريس:
ما رأيكم في الآثار العربية والإسلامية التي يتم سرقتها وهل هنالك من حل للحد من ذلك؟
معالي الدكتور شبوح: هذا مشكل مستعصٍ وقديم وله أوجه، أما هل يسرق حالياً فهذا مسؤولية كل دولة وكل جهة قائمة على هذا التراث وعلى كل بلد أن ترعى في حدودها مراقبة دقيقة لمثل هذه الأشياء لقد رأينا أنهم يتجرأون حتى على شواهد القبور ومنحوتات يصل وزنها إلى الطن والطنين. ونعجب كيف تخرج وكيف توجد بعد ذلك في مكان آخر، لا بد أن هناك طريقة وأن مؤسسات التراث يجب أن تقوم بتسجيل تراثها بالتصوير والتوثيق وتحفظ فيه هذه المستندات لاستردادها في أي وقت يؤخذ منها أنا شخصياً كلفت من طرف سيادة الرئيس بإجراء بيع لصفحة مهمة من مصحف مهم يكون من المصاحف المنسوبة لسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه تباع لدى "كريستي". فذهبت وأنا لا أحسن الإنجليزية، رافقني من سفارتنا محام ومترجم، وفي "كرستي" لمست عقلية غريبة وهي أنهم يتكلمون بأسلوب متعالٍ. أحضرت معي فهرست القيروان الذي كتب في القرن الخامس الذي كتب فيه وصف لهذا المصحف وأحضرت معي أوراقاً متصلة بهذا المصحف وقدمتها لهم فرأيت من برود الإنجليز كما تعلمون فاضطررت لاستعمال لغة أخرى وخرجت بها عن الطرق الدبلوماسية المعروفة قلت له أرجو أن تترجم أنك لست تقف الآن أمام فرد إنك تقف أمام دولة سوف نسخّر كل الإمكانات لنعلن في العالم أن "كريستي" هي أكبر مركز لسرقة تراث الشعوب ولبيعها والاتجار بها، فقال لي انتظر قليلاً، طبعاً لم يهتز، دخل وخرج، وقال لي نحن فقط تكلفنا عملية صيانة هذه الورقة وترميمها فقلت له إن السارق لا يجازى على ما فعل، لا يعنيني من فعل هذا، جمع هذه الورقة ووضعها في جعبتها وقدمتها للسيد نائب السفير الذي كان معي يرافقني وعدت بالورقة إلى بلادي.
الشكل الثاني، يتحدث الناس عن تراث موجود في متاحف العالم وهو في الغالب ذهب بطرق غير شرعية، كما نصنع الآن تحفاً وتباع في الأسواق قد نشتري تحف تراث صيني، لا يأتي الصيني ويقول لي ذات يوم بعد ما تنقرض الحضارة المعاصرة إنه يوجد عندك شيء مسروق، هذه أشياء نشكرهم على الحفاظ عليها وعلى حسن عرضها وعلى المحافظة عليها وهي ألسنة ناطقة بشكرنا وبدورنا في بناء الحضارة المعاصرة يقومون هم على العناية به وصيانته.
عريف الحفل: سؤال من الدكتور محمد أحمد ناصر من جامعة الملك عبد العزيز يقول:
منذ فترة قريبة أعلنت لجنة عالمية لتعديل عجائب الدنيا السبع وفيها تم إلغاء بعض الآثار ووضع آثار مكانها، هل ترى يا معالي الدكتور أن أهرام مصر لا ترقى إلى هذا؟
معالي الدكتور شبوح: عجائب الدنيا السبع أو العشر لا يعنيني هذا التعداد. هذا التعداد يصطلحون عليه ولا أدرى لماذا يرتبطون برقم سبعة هل هو جزء يغوص في هذا الموضوع، دائماً الرقم سبعة يكون مشكلة في تاريخنا الفكري، فالأهرام لا شك أنها إنجاز إنساني هائل، ما هي الأعجوبة؟ إنها الشيء الذي يجعلك تقف أمامه مشدوهاً متعجباً، أما البتراء فهي فعلاً من أعاجيب الكون عندما تذهب إلى مناطق جبلية مرتفعة وتجد نفسك في واجهات محفورة في الصخر يجب أن تدرس مع ذلك كيف استطاع هذا المهندس أن يضع خطوطها وأن يتصورها ولا يخطئ في نحتها على هذا المدى الواسع وفي هذا الارتفاع، وكيف يتابعها ويحقق الأعمدة، ثم يضع الواجهة ثم يضع بعد ذلك هذ الكرات الضخمة التي تعلوها. هذا فعلاً عمل هندسي من أرقى ما يمكن أن يتم من أعمال. وقد رأينا في إنقاذ آثار النوبة عدّ من العجائب أن ينقل معبد النوبة المشهور عندما قطع ونقل، بينما لا يتعجب الناس ممن صنعه وجعله على هذا الشكل المدهش.
الأستاذة نازك الإمام: سؤال من الأستاذة ملكة حسين نائبة رئيسة لجنة التدريس بالغرفة التجارية بمحافظة جدة.
هناك آثار في الدول العربية والإسلامية لم يتم التنقيب عنها حتى الآن فما هو مصيرها؟
معالي الدكتور شبوح: حسب تجربتي عندما كنت مسؤولاً عن الآثار الإسلامية فإن الآثار التي تحت الأرض هي في الغالب معالم مندرسة ولكن بقيت أسسها، لأن الأرض لم ترتفع بالنسبة التي تغمر فيها هذه الآثار أو ترتفع عليها أو تطمس تلك الآثار. أولاً إن تلك الآثار ليست من القوة والصلابة بحيث تصمد أمام الأثقال وإنما هي آثار انقرضت ونقل الناس أحجارها إلى مبان أخرى، أو استعادوا استعمال هذه الأحجار في معالم أخرى ثم بعد ذلك تبقى أسسها تدل عليها. والعمل الهندسي يستطيع من خلال هذه الأسس أن يستعيد شكل البناء كما كان، يستعيده لأنه يستطيع أن يقدِّر امتدادات الجدران وفتحاتها للإضاءة وأن يقدّر السقوف إن كانت من الخشب، ثم يعثر في الأتربة المطموسة على قطع متعددة وهذه القطع هي عبارة عن بقايا الفخاريات التي كان يستعملها الإنسان وبعض التحف الأخرى إن غفلت عنها عين الزمان، لكن ثبت بالتأكيد أن كل أثر من هذه الآثار أو من هذه المعالم التي يعثر عليها تتطلب صيانة وعناية وحراسة وترميماً مستمراً حتى تصمد مرة أخرى ويمكن أن نقدّمها للناس. ومن الخير أن يحفظ الموقع وأن تظل هي مطمورة وليس هنالك ما يضيرها، وهل يمكن الكشف عن خطوط هذه المباني تحت الأرض بواسطة الصدى الجيوفيزيائي بأن توضع أعمدة من النحاس وفيها طاقات ترسل إشارات إلى الأرض، فعملية الارتداد تستطيع أن تتصور ما هو تحت الأرض بسهولة.
عريف الحفل: الأخ عاطف الدسوقي:
أرجو إعطاءنا نبذة مختصرة عن تسقية الأغالبة في القيروان من ناحية تاريخية ومن ناحية تصميمها المعماري؟
معالي الدكتور شبوح: متأسف لأنني لم أحضر معي صوراً لموضوع الآثار والاهتمام بالقديم، وتسقية الأغالبة، طبعاً مدينة القيروان هي مدينة تقع على منبسط من الأرض ومصادر الماء فيها شحيحة بحيث إن في كل بيت من بيوتها بئر وماجل وهو ما يسمى عندكم بالصهريج، تتجمع فيه مياه الأمطار، وهذه هي وسائل سقاية الناس، ولكن هنالك نهر يمر بجانبها وهو نهر زروج، لكن السيل يأتي بعد هطول الأمطار، وقد تشح هذه الأمطار لسنوات طويلة أربع أو خمس سنوات، ففي مجرى هذه الأمطار تدل النصوص على وجود ست عشرة بركة أقيمت في أيام الخليفة هشام بن عبد الملك، لا نعلم عنها غير الحفرية التي أقمناها واكتشفنا فيها بركة من هذه البرك، ثم بركة الأغالبة الواضحة على الزمن، وقد قمت شخصياً بدراستها وترميمها وتشتمل على حوضين، حوض صغير والآخر كبير، الحوض الكبير قطره 127 متراً، وهو مبني بناءً دقيقاً في مضلّعات مترابطة تشبه حالة الدائرة من دون خطأ، مبني بالحجارة ومغطى ببلاط دقيق لا ينفذ منه الماء حتى يستطيع الحفاظ على كل ما تجمّع فيه من مياه النهر وتتصل به من ردهة الممر بركة صغيرة وبينهما فتحة تفتح الأولى على الثانية والصغيرة هذه تتلقى مياه الأمطار بسد صغير أعمق من الكبيرة حتى تترسب الأتربة وتنتقل إلى البركة الكبيرة وفي وسط البركة الكبيرة يوجد عمود كبير تذكر النصوص أنه كان عليه كشك وهو نوع من الجوسق، وكان الأمير الأغلبي يتجول في هذه البركة في زورق ويقضي بعض الوقت في هذا الجوسق، والحقيقة إن التفاصيل ودراسة هذه البركة من الناحية المعمارية ومن ناحية بنائها ومن ناحية دورها في سقاية المدينة كبير، ويتصل بها مخرجان صغيران مخفيان طول الواحد حوالى ثلاثين متراً وفي داخل هذه الصهاريج عقود ويستطيع الذين يتجهون نحو مدينة تونس أن يتزوّدوا من الماء من هذه الآبار المتصلة بالبركة والمغطاة المحفوظة، ولصيانة الماء توجد عندهم طريقة هي أنهم يلقون فيها بين الحين والآخر قطعاً من الجير البلدي الذي يحدث حرارة تقضي على الحشرات والبكتيريا التي يمكن أن تقع وقد تم ترميمها أخيراً منذ عدة سنوات لتكون كمركز سياحي مهم.
الأستاذة نازك الإمام: سؤال من الإعلامية في جريدة البلاد ومجلة "اقرأ" الأستاذة منى مراد:
الحروب التي تحدث في دولنا العربية والإسلامية طمست معالم آثارنا، وأبرز مثال على ذلك الحروب المستمرة في لبنان والعراق وغيرها من الدول العربية، ما هو دوركم في محاولة إيقاف ما تبقى من تراثنا وآثارنا في تلك الدول؟
معالي الدكتور شبوح: حسب علمي لا أذكر أن لبنان قد طمست معالمه، بل أن هنالك حفريات كثيرة في منطقة البرج (الوسط التجاري) كشفت عن آثار قديمة ترجع إلى العصر الفينيقي، وهناك بقايا عمران إسلامي، ومدينة صور وغيرها هي على وضع ثابت بالنسبة للحفاظ على ما فيها، أما في العراق فإن ما بلغني هو مأساة المتحف عند دخول الأمريكان وما وقع فيه من تخريب، وأذكر أن الأردن قام بدور كبير في مصادرة كل ما هرّب إليه، وهنالك تعاون كبير لاسترداد ما سرق من هذا المتحف. ومثل هذه الأمور تحتاج إلى آليات للمحافظة عليها.
عريف الحفل: سؤال من الأستاذ غياث عبد الباقي يقول:
هل هناك كتاب جامع لتاريخ تونس الحضاري يجد فيه القارئ خيرة الرواد العلماء كـ عبد العزيز الثعالبي وطاهر بن عاشور وغيرهما؟
معالي الدكتور شبوح: تونس ساهمت بدور كبير في الثقافة الإسلامية منذ نشأتها، والقيروان بالذات لأنها كانت العاصمة حتى القرن الخامس ورجالها كثر، ودورها في نشر الإسلام وفي الانتقال به إلى سائر المغرب العربي والأندلس. وظلت مدرسة القيروان الفقهية هي المرجع لكل الجانب الغربي لشمال أفريقيا والكتب التي تناولت هؤلاء كثيرة، ومن أهمها وأوسعها بالنسبة للعصور الأولى إلى القرن الثامن الهجري كتاب "معالم الإيمان في طبقات علماء القيروان" لابن ناجي والدباغ، وتوجد أشياء أخرى ومجموعات أخرى كالحلل السندسية وغيرها، أما العصور الأخيرة فهناك ما يعرف بالتراجم التونسية فيها سير بعض هؤلاء الرجال وفيها تراجم لبعض المعاصرين وما كتبه الشيخ محمد بن عاشور رحمة الله عليه في مجلة الثريا ثم جمعت في كتاب واحد.
الأستاذة نازك الإمام: سؤال من الأخت آمال عبد المقصود خوجه:
من خلال دراستكم للتاريخ والآثار الإسلامية ما هي أعظم دولة تشتهر بآثارها الاسلامية؟
معالي الدكتور شبوح: يجب أن نفهم أن الآثار الإسلامية هي المستوى الحضاري لذلك، فبقدر ما تتسع الموارد وبقدر ما تدر على الدولة ريعاً كبيراً مثل الزراعة والجباية وغيرها تنجز الدولة مجموعة من الأعمال الكبرى في العمارة خاصة ثم في الأدوات التي تتناقل ويتعامل بها الناس في بيوتهم وفي المعادن التي تستعمل في هذه الأدوات، لا شك أن هناك أشياء تقال وأخرى لا تقال، العراق كان يشتمل على مستوى من الحياة ضخم ومهم ومدينة سامراء حينما يزورها الزائر ويلاحظ شوارعها واتساعها والأنهار التي فيها يدرك فعلاً مستوى الحضارة التي كانت تتمتع به هذه المدينة، بالإضافة إلى ما يقرأه عنها، لكن المواد الهشة التي استعملت في هذه الأبنية جعلتها الآن أثراً بعد عين بحيث إن لم يكن لك من الخيال متسع فأنت لا تستطيع أن تجد أمامك شيئاً مبهراً، يكفي أن تعلموا أن تونس مثلاً وهي دولة إسلامية كان حكامها الأغالبة يتبعون الدولة العباسية فيها من الآثار المعاصرة للدولة العباسية أهم وأقدم مما يوجد الآن في بغداد، توجد المدرسة المستنصرية من القرن السادس الهجري، تونس فيها رباط ابن أعين الذي أقامه بأمر من الرشيد سنة 198 للهجرة، وآثار الأغالبة تبدأ من سنة 206هـ وعليها تواريخها، جامع سوسة 248هـ؛ أسوار سوسة الشيء نفسه، جامع القيروان مؤرخ، إذن فإن أكبر دولة نعتبرها من المراكز الكبرى للحضارة الإسلامية لما بقي فيها من عمائر وما بقي في متاحفها من نماذج تدل على مستوى راق للحياة في تلك البيئة الإسلامية يمكن أن نعدد على الترتيب: مدينة القاهرة، لأن القاهرة كما تعلمون لم تكن مدينة عندما أسست لأن الفاطميين الذين أسّسوها لم يؤسّسوا المدن، بل أسّسوا المهدية كحصن، وهي أول عاصمة للفاطميين، هم أسسوا العاصمة الثانية لهم لإقامتهم وهي عاصمة مستديرة وهي صبرا المنصورية سنة 236هـ واستقروا فيها وخاصة المعز لدين الله فقد ذهب مباشرة إلى القاهرة، وفي رحلته إلى القاهرة نجد الشعراء الكبار وخاصة ابن هانيء وهو يصف عملية الخروج هذه:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع
فعلمني آي العلا كيف تصنع
أو عندما يرد الخبر يقول:
يقول بني العباس قد فتحت مصر
فقل لبني العباس قد قضي الأمر
لأنها صراع بين خلافتين كبيرتين، فالقاهرة إذن هي حصن ولم يسكنها الناس إلاّ في القرن السادس لأن الفسطاط كانت أولاً ثم كانت العسكر ثم كانت القطائع وكلها معسكرات متحدة متلاصقة ثم جاءت القاهرة ثم جاء الأيوبيون وبنوا القلعة إلى آخره، وأصبحت كل هذه المجموعة اسمها مصر القاهرة، وهي مدينة كبيرة وغنية بالنعم والزراعة لذلك كانت آثارها متصلة سواء أكانت في العصر المبكر نجد جامع عمرو بن العاص وهو بناء بني في العصر العباسي وحالته رثة من ناحية المستوى المعماري، لكن في العصر الفاطمي بدأ ثراء مدينة القاهرة ثم العصر الأيوبي ثم العصر المملوكي الذي نجد فيه مدرسة السلطان حسن، بعظمتها وأدوارها العشرة، وتعتبر فعلاً من الأشياء المبهرة، ثم من المدن الأخرى تبقى بصورة أكثر تواضعاً مدينة دمشق. فقد عملت فيها وأعرف محتواها ومتحفها فيه الكثير من الفن والذوق بفضل المرحوم أبو الفرج العش، ثم مدن المغرب لأن الدولة التي جاءت خلّفت من القصور ومن الأبنية الفخمة وتقاليد النقش ما توارثته عن طريق الأندلس، وهنالك نظرية أخرى تقول إن الأندلس هي أثر المغرب وليس العكس لأسباب يمكن شرحها في مناسبة أخرى، الأندلس ولدت متحضرة بفضل التأثير بما تجمع لها من بلاد المغرب، وفي العصور الأحدث نجد مدينة استنبول بمساجدها الفخمة التي تدل على عظمة الخلافة والتي بنيت بمواد صلبة ثابتة. ويجب أن نذكر أن أي حضارة إسلامية بما فيها اليمن قد بنيت بمشاركة فنيين من أكثر بلاد العالم الإسلامية، فعندما يسمعون بمثل هذا الإنجاز يرحلون ونجد وصفاً جميلاً على أن معلم البناية يركب على فرس ومن هو أقل منه يركب على بغل ثم على حمار ثم من يمشي على قدميه من العمال العاديين، فكانت لهم هيئة وما يسمى بنقابة البناء.
عريف الحفل: الحقيقة هناك سؤالان في موضوع المخطوطات سؤال من الأخ خالد الأصور يقول:
مراكز المخطوطات المبعثرة في مختلف الجامعات ومراكز البحوث والدراسات في العالم العربي هل من سبيل لتنسيق جهودها تحت لواء رعاية المخطوطات بجامعة الدول العربية؟
وسؤال الأخ عبد الرحمن بن مصطفى يقول:
هل ترى أن أمتنا العربية في مستوى الدول الغربية في الاهتمام بالمخطوطات؟
معالي الدكتور شبوح: شكراً على هذين السؤالين المهمين، أولاً العناية بالتراث المخطوط ظهرت مع تكاثر عدد الجامعات، وخاصة في هذه المناطق التي تملك وسائل الشراء والوسائل العلمية أيضاً بفضل علمائها ما يتيح لها مثل هذه الملاحقة، فهذه المجموعات خير ما يقدم لها من خدمة هو فهارس مفصّلة حتى يستطيع الباحث أن يعرف كما يعرف عن فهارس أوروبا، أي مادة يريدها ويستطيع بيسر أن تمتد يده إليها بواسطة صورة أو قرص، فهذه الفهارس رغم وجود مؤسّسات وخصوصاً مؤسّسة الفرقان التي امتد نشاطها إلى أفريقيا وفهرست الكثير، في منطقة مالي وفي منطقة موريتانيا وغيرها، هذه الفهارس هي الشيء الوحيد الميسَّر الذي يمكن أن يعرّف الناس بالتراث، أما صيانة المخطوطات فهذا موضوع آخر وهو موضوع خطير، عندما نقارنه بما يوجد في مكتبات أوروبا من مخطوطات مرممة ومصانة، صينت جلودها ورمم الورق وغسل من الباكتيريات ومن الرطوبة ومن التعفنات وأصبح مادة صالحة لا يؤثر على الجلد ولا يسبب حساسية لها، كنت في مكتبة عامرة بالمخطوطات مؤخراً فراعني ما رأيت عليها من حال فهي كالمناخل مخرمة عاث السوس فيها في جميع الاتجاهات وتحتاج إلى دراية وعناية كبيرتين حتى تستطيع أن تلحق ببقية الكلمة واتجاه الحرف وهي حالة مفزعة. وهذه الحشرات التي تلتهم المخطوطات هي من الأصناف الكبيرة، لعل من أردئها ما رأيته في مدينة جربة في تونس، يمكن لهذه الدودة أن تحدث خرقاً قطرة 4سم، بحيث يعد المخطوط طعاماً لوجبة واحدة تأتي عليه كله، وهذه حالات مزرية وعلينا أن ننقذ هذا التراث بالإكثار من مخابر الترميم والصيانة ونحن نبخل على هذا القطاع ونعده مكلفاً ولكن في الحقيقة هو أساسي لا يمكن أن نتحدث عن جمع المخطوطات وحفظها بدون أن يكون لها هذا الجانب المهم.
عريف الحفل: سؤال السيّد حسن بلخي:
هل الأفلام والمسلسلات الإسلامية تمثل تاريخنا المجيد؟
معالي الدكتور شبوح: الأفلام والمسلسلات الإسلامية أكثرها تجاريّة تحاول تقريب الموضوع مع سطحية وعدم التزامٍ بدراسة التفاصيل الماديّة مثل اللّباس وأدوات الحياة وهذا يحتاج إلى دراسة ما يوجد في المتاحف من بقايا تلك العصور ومخلفاتها وهو غير متوفّر.
وهذه الأفلام تحاول محاكاة الأفلام الدينية الأجنبية التي تطلبت أبحاثاً معمقة وانتهت بفضل الإخراج المُبْهر إلى نقل الماضي ودلالته ورسالته إلى الأجيال الحاضرة واستقر في أذهان الناس المحاولات الجادة الوحيدة تقريباً هو ما صنعهُ المرحوم مصطفى العقاد يرحمه الله.
عريف الحفل: سؤال السيد فوّاز النهاري:
ما رأيك في تزيين ميادين جدة وقد زينت بالسنابل وبالحديد وبالقلم والبواخر؟
معالي الدكتور شبوح: أعرف أكثر ما زينت به ميادين جدّة، ولديّ ألبوم عنها تسلمته من البلدية عندما كلّفتني منظمة المدن العربية لبحث ما حققتهُ البلدية للمدينة العتيقة خاصّة لترشيحها لجائزة المنظمة للحفاظ على التراث المعماري للمدن، وقد استوعبت الشروط وأتقنت عملها واستحقت الجائزة.
أمّا تلك المواد الزخرفية للميادين من بقايا مصانع قديمة ومنحوتات ورموز ثقافية هندسية وغيرها فهي معالم حضارية متميزة ومبتكرة ودلالة معبّرة عن مستوى هذه المدينة العظيمة التي تستقبل كل المسلمين للانتقال منها لأداء المناسك.
عريف الحفل: سؤال السيد منصور سيد أكرم:
هل ابن خلدون صادق في جميع الوقائع التي سطرها في كتابه؟
معالي الدكتور شبوح: كتب ابن خلدون كتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر.. وهو ثلاثة كتب، الأول في العمران البشري وهو ما يعرف بالمقدمة، والثاني في تاريخ الأمم والدول القديمة والإسلامية.
وهذا يشمل أكثر الكتّاب الذي نقل مادته التاريخية كلها تقريباً من تاريخ هرشيوش والطبري وابن الأثير وبعض السير الخاصة، ودوره في هذا القسم الكبير التلخيص والانتقاء وتناول تدافع الدول وإزالة بعضها للبعض والإشارة إلى أسباب تحلّلها. ومن هذا القسم في اعتقادي استمدّ أكثر ملاحظاته التي أودعها المقدمة.
والكتاب الثّالث هو أخبار البربر وهذا القسم من الكتاب كله تقريباً مادة جديدة ووثيقة انفرد بها وهي منطقية ولا تقبل التكذيب بحكم المقارنات مع غيرها من المصادر.
عريف الحفل: سؤال السيّد منصور عبد الله المبارك:
لماذا لا يكون هنالك مجمع للعمارة الإسلامية للحفاظ على هوية وآثار المخطوطات؟
معالي الدكتور شبوح: المحافظة على تراث العالم العربيّ مسؤولية كل دولة من دُوله، وبواسطة مؤسسات الآثار والمكتبات التي تحمي كل قطاعات التّراث الثابت والمنقول والمخطوط، ويكون ذلك بواسطة أجيال المؤرخين، والأنثربيين الذين يُنَشَّأون على مناهج البحث العلمي في البحث والتنقيب والصيانة، ويحملون أمانة أُمّتهم بالحفاظ والتفسير لما تكشف عند خبايا الأرض، ويصبح هذا التراث عنصراً مهمًّا في جذور الهويّة الوطنية.
وعندما تغطى رقعة العالم العربيّ بالكفاءات القادرة والحاملة للمسؤولية، يصبح تعاون هذه النخبة وتلاقيها أمراً ممكناً ومفيداً، وقد تحقق بعض ذلك في السنوات الماضية ثم حالت ظروف دون استمرار هذا التعاون وتطوره.
الأستاذة نازك الإمام: سؤال الأستاذة زاهدة:
نأمل الإشارة إلى عمارة المساجد في استنبول وتأثيرها على العمارة الإسلامية؟
معالي الدكتور شبوح: عمارة المساجد التركية تمثل مدرسة مختلفة ومستقلة عن مدارس العمارة الكبرى المعروفة. وتقوم تلك العمارة على ما يعرف بالطراز البيزنطي الّذي جاء استمداداً من نموذج مهمّ عُرف في القسطنطينية هو كنيسة أياصوفيا، التي استطاع مهندسها أن يغطي أكبر مساحة بالقُبة المدعومة خارجها بأنصاف القباب ثم بالدعائم الكبرى.
وعلى ذلك النسق بنى العثمانيون مساجدهم الكبرى وعدّلوا في نِِسبها وأبعادها بما جعل منها طرازاً ثابتاً التُزِم في أكثر منجزات العصر العثماني مع إعداد هندسة زخرفية داخلية مرموقة استخدمت الكتابة ووزّعت الإضاءة بفضل الفتحات الفوقية التي أبرزت جماليات الداخل وأخرجته من جوّ الانقباض.
عريف الحفل: سؤال السيّد محمد أحمد بيت المال:
من الملاحظ أن الغالبية من الباحثين في العمارة الإسلامية يركِّزون حول الزخارف ويهملون الواجهات الهندسية والتوزيعات الصوتية والإضاءة، أرجو التوضيح أكثر.
معالي الدكتور شبوح: البحث في العمارة الإسلامية مجال جديد، أنشأه غير العرب وعنهم أخذ العرب وغيرهم، والدراسات المعمارية التاريخية بدأت بروّاد كبار درسوا المعالم التاريخية في العصور الكلاسيكية الأمويين والعباسيين والفاطميين والمماليك، وأهمهم الأستاذ كريسول Creswell وإلى جانبه عدد كبير من جنسيات مختلفة بعضهم من تلاميذهم العرب.
عريف الحفل: نعتذر للأخوة الذين لم نستطع طرح أسئلتهم لضيق الوقت ولأننا أثقلنا على ضيفنا الكريم، ولكن سوف تحال لمعالي الدكتور للإجابة عنها ومن ثم تطبع في كتاب الاثنينية.
الأستاذة نازك الإمام: سؤال من شقين من الأستاذة ثريا زكري عضو بنادي مكة تسأل:
عن آثار مدائن صالح شمال المدينة المنورة هل زرتها وما رأيك فيها؟
وسؤال مني:
ما زال جيلنا الجديد يعاني من ضعف شديد في معرفة تراث الأجداد ومعالم الدول الإسلامية القديمة فإلى ماذا نعلل ذلك وما هو البديل لذلك؟
معالي الدكتور شبوح: آثار مدائن صالح بدون شك من آثار الأنباط المهمة جداً، والأنباط تدين لهم ثقافتنا بالكثير ويجب أن نعلم أن الحرف العربي الذي نستعمله الآن هو من أصل نبطي، وأن النصوص الخمسة التي بقيت لنا إلى اليوم دليل على أصول الكتابة العربية المنتمية إليها، وهي ما يعرف بنقش النمارا ونقش حرّان ونقش زبد ونقشين آخرين من البلاد السورية، ونجد فيها الألف والباء والحروف المترابطة التي نستعملها اليوم، في حالة بدائية تطورت بعد ذلك بفضل المصحف الشريف الذي خرج بمصحف عثمان إلى الآفاق وخرج معه الحرف العربي واللغة العربية وغير ذلك. ومن دون شك فإن آثار مدائن صالح مهمة وأعلم الناس بها فيما أعلم هو أستاذنا الدكتور عبد الرحمن الأنصاري وقد قام ببحوث وحفريات في مناطق مشابهة وهذه حقبة من التاريخ يستطيع هو أن يتحدث عنها بكفاءة واقتدار. وأعتقد أن رؤية هذه النماذج المعمارية للمهندسين بصفة خاصة تقدم لهم من الحلول ومن التجارب ومن استخدام مواد لم تكن في تقديرهم لأن بناءنا القديم الذي بنى بيوتنا البسيطة بمواد بسيطة وتعامل مع الطبيعة بمواد كانت متاحة بين يديه قد انقرضت وأصبحنا بالنسبة للمدن المعاصرة نعيش عالة على تقاليد ليست منا، نبني بالإسمنت ونصرف من الطاقة ما لا يدفع الحرارة إلى غير ذلك من الوسائل التي دخلتنا لأننا استعملناها من غير روية وفهم، يمكن لبعض الحلول بالنسبة لبعض المساكن والمساكن الشعبية والبسيطة بصفة خاصة ثم الأنماط الجمالية ونسب الأشياء بعضها لبعض كأن العمارة هي خلاصة ثقافة الأمة، عندما ترى مبنى يدلك على نوع صاحبه وعلى مستواه وعلى ثقافته وذوقه، قد تجد أشياء مهمة كبيرة ولكن عندما تراها تخرج فوراً بفكرة معاكسة أن صاحبها له وسائل وليس له ذوق يجعل هذه الوسائل متقدمة، فالعمارة هي مادة مهمة جداً، أنا لست مهندساً ولكني اشتغلت في العمارة الإسلامية كعاشق وكإنسان لاحظ هذه الأنماط والنماذج ثم دخلت إليها من باب أذكره باختصار، في وطني لاحظت وأنا صغير السن أن الآثار الرومانية الفخمة بفسيفسائها وبذخها وعظمتها هي السند الثقافي للفرنسي المستعمر يعتبرها تراثاً أوروبياً صنعه أجداده في بلادنا وتلك وثيقة حضور، ويستعملها كوثيقة لتبرير حضوره وعلى أنه أكثر رقياً بينما نحن بنينا الأكواخ وبنينا بالطوب وبالمواد الهزيلة الرثة المهترئة، هذا جانب كان يصدم الإنسان ويستفزه لذلك كان تراث العالم الإسلامي الكبير هو الغذاء المقابل الذي أشعرنا بأننا فعلاً أمة أبدعت وصنعت وشاركت في بناء التاريخ وشاركت في تحويل ثقافتها وحضارتها إلى العصر الحديث. وإذا سمحتم لي بملاحظة بسيطة أذكرها على طريقة أننا فعلاً أدّينا دورنا. فقد أقمت معرضاً للمخطوط العربي في دار الكتب الوطنية عندما كنت مديراً عاماً لها وهذا المعرض أسميته: المخطوط، أربعة عشر قرناً متصلة من حضارة الإسلام في تونس والمخطوط هوية وحضارة، وتصورته وتخيلته ونفذته، تصوراً وتنفيذاً، وصنعت له كتاباً أسميته المخطوط، ولأول مرة يزور رئيس الدولة دار الكتب الوطنية وزارنا أربعة من رؤساء الجمهوريات هم الرئيس ميتران وضعت بالقصد خزانة زجاجية صغيرة خططت لها وصنعت خصيصاً لهذه المناسبة ووضعت فيه نسخة من كتاب القانون لابن سينا كتبت سنة 530 والناسخ لهذا الكتاب هو الشافعي كتبه لأبي الكرم يوسف بن كذا الإسرائيلي أمتعه الله طويلاً، إذن صاحب الكتاب شيعي إسماعيلي وهو ابن يوسف والناسخ شافعي مسلم سني، والمنسوخ له طبيب يهودي، واستعمل في الدعاء له المعنى القرآني وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ (البقرة: 96) ثم وضعت بجانب هذا المخطوط بعد أن شرحت هذه الجزئيات نسخة من كتاب ابن سينا طبعت في مدينة روما المحمية سنة 1596م بحجمها الكبير الواضح، وإلى الترجمة اللاتينية للقانون في مجلدين ضخمين، تاريخ هذه الترجمة 1603م وكان الأوروبيون يضعون على الصفحات الأولى رسوماً غرافية باليد، أحد هذه الرسوم الوسطى يمثل هيكل الحكمة وعلى يمينه أبقراط وعلى يساره ابن سينا. الرئيس ميتران ظل مندهشاً بعد أن شرحت له هذه القضايا وهو يكتشف هذا المعبر أولاً في نفسية المسلم أن ثقافته فيما عدا مقدساته لا يفخر بها عن أي جنس وعن صاحب أي دين، كان النصارى يعيشون بيننا ومنا وهم يعتبروننا جزءاً من حضارتنا ونعرف مساهماتهم ثم نجد إلى جانب ذلك كيف أصبح الكتاب هو مادة التعليم في جامعات روما وفي جامعات إيطاليا ثم نجد هذه الترجمة وكيف ينظرون إلى مؤسّس هذا العلم ابن سينا ليوضع إلى جانب أبقراط المرجع التقليدي المعروف، فنحن نحتاج إلى تبصّر وإلى الانفتاح نحو هذا التراث وإلى حسن تجليته، ومعذرة على الإطالة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :552  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 110 من 255
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.