((كلمة سعادة السفير كامل عزت مفتي))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
يطيب لي بداية أن أتوجه باسمي ونيابة عن معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي بخالص الشكر وجزيل الامتنان لسعادة الأخ الفاضل راعي الاثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجه على تفضله بالدعوة إلى هذا اللقاء الكريم تكريماً لفضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه، أمين عام مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة بمناسبة انتهاء فترة عمله في المجمع بعد حقبة من الزمن دامت خمسة وعشرين عاماً كانت حافلة بالجهد والعطاء والإبداع. |
ولقد كان معالي الأمين العام للمنظمة البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي يتوق إلى مشاركتنا الاحتفاء بفضيلة الدكتور ابن الخوجه في هذه الأمسية الجميلة التي تفيض بعبير الفضل والوفاء لفارس الاثنينية اليوم، لولا قيامه الآن بجولة على عدد من الدول الأفريقية للالتقاء برؤساء وقادة تلك الدول بناءً على مواعيد مسبقة بغرض البحث والتحضير لانعقاد مؤتمر القمة الإسلامي القادم في العاصمة السنغالية دكار. |
وانطلاقاً من العلاقة المفصلية بين منظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي الدولي باعتباره واحداً من أهم المرافق المتفرعة للمنظمة وذراعاً على جانب كبير من الأهمية في وضع أهداف المنظمة وقراراتها الفقهية والشرعية على الطريق الصحيح، فإنه يجدر بي أن أعبّر بشيء مما يمليه المقام تجاه مكانة وعطاء وعلم فضيلة شيخنا الجليل معالي الدكتور ابن الخوجه. |
وإنني قبل أن أسترسل في حديثي فإنني أستحضر في هذا المقام مقولة لمعالي فضيلة الدكتور الشيخ صالح بن حميد، رئيس مجلس الشورى في إجابته يوماً على سؤال لرئيس تحرير جريدة البلاد التي كانت تعد للنشر ريبورتاجاً عن مكانة وعلم الشيخ علي الطنطاوي بقوله: "إنني أكن لفضيلة الشيخ الطنطاوي كل الإكبار والتقدير. أما الخوض في التعريف بمكانة وعلم الشيخ فإنني أتركه لمن هو أعلم مني". |
وهذه بلا شك مقولة استوقفتني يومها ملياً بما تنمّ عن مدى التواضع الجمّ الذي يتحلى به فضيلة الدكتور بن حميد وشعوره الفيّاض بمكانة واحترام العلماء. |
وإنني إذ أستهدي بهذا المعنى البليغ لمقولة الدكتور بن حميد، فإنني أعترف حقاً بأنني مهما اجتهدت فإنه لن يكون بوسعي أن أفي فارس الليلة وعالمها الجليل الدكتور ابن الخوجه حقه من التقدير. |
ولكنني من منطلق ما لا يدرك جله لا يترك كله، فإنني سوف آتي على شيء مما يستحقه المقام ويحسن فيه المقال في توديع أخ كريم وعالم جليل نعتز بزمالته وصحبته ونفتخر بمعاشرته ومعرفته. |
ومن هنا أقول بأن معالي الشيخ ابن الخوجه غني عن التعريف فقد أفنى حياته في خدمة مصالح بلاده وعقيدته وثقافته، وأثرى الشريعة الإسلامية بواسع علمه، فقد لمع نجمه منذ غرة صباه إذ نهل من الثقافة ما جعله يرتفع في معارج الرقي والنبوغ وأكرمه الله بالبيان وبلاغة اللسان فصار منذ حداثته علماً من أعلام تونس، بل علماً من أعلام الإسلام خاض معترك العمل الفقهي المستنير فأفاد وأجاد، وبسط الله كفه في علوم الشرع والأدب والثقافة واللغة، فشب فقيهاً ومفكراً وكاتباً مبدعاً. وعيّن عميداً لكلية الزيتونة للشريعة وأصول الدين عام 1970 ثم عيّن عضواً مؤسساً لبيت الحكمة بتونس عام 1993، وأنشأ الدار التونسية للنشر والتوزيع ذات الهدف الثقافي ونشر المعرفة. كما أسند لفضيلته منصب مفتي الديار التونسية حيث أبان عما أودع الله فيه من فكر صائب ورأي ثاقب في أصول الفقه وفروعه إضافة جديدة إلى ما عرف عنه من كونه حجة في التصرف في فنون اللغات ومعاني الكلم والعبارات. |
وفي تلك الأثناء كان الشيخ ابن الخوجه أحد أبرز رجالات المجامع الفقهية والعلمية ومراكز الأبحاث والمؤتمرات في العالم الإسلامي على مدى سنين طويلة. |
ومنذ تلك الفترة من تاريخ سيرة حياة الشيخ ابن الخوجه المديدة بحول الله ربطت بين معالي البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي وبيني وبين معالي الدكتور ابن الخوجه علاقة نقية من الأخوَّة الحميمة والزمالة الصادقة لحمتها الاحترام والإجلال وسداها التعاون المشترك لما يحقق خدمة الهدف وأمانة الأداء. وكانت لنا مع معالي الدكتور ابن الخوجه صولات وجولات في العمل المشترك سواء في المملكة العربية السعودية حيث مقر المنظمة والمجمع أو في العديد من الدول العربية والإسلامية، وكان معالي الدكتور ابن الخوجه نجماً ساطعاً في هذه الاجتماعات كافة ويحظى باحترام رأيه وتقدير حكمته بدون منازع. |
وفي تلك الفترة التي كان يزخر فيها فضيلة الشيخ بالتألق والعطاء الفقهي والعلمي انتدب ليكون أميناً عاماً لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة، فاستطاع بما حباه الله به من مواهب متعددة بالمساندة والدعم الذي لقيه من معالي رئيس المجمع الدكتور بكر أبو زيد شفاه الله أن يبني للفقه الإسلامي في الزمن المعاصر كياناً فقهياً راسخاً يعتمد الفكر المتنور المعتدل الذي بات العالم الإسلامي أحوج ما يكون إليه، فأحاط نفسه بصفوة العلماء وجلتهم، فاستطاع أن يرقى بهذا المجمع إلى مستوى رفيع حتى أصبح المجمع بفضل الله ثم بجهود فضيلة الشيخ ابن الخوجه محجاً لروّاد العلم وطالبي الأحكام الشرعية في النوازل المختلفة بما يتفق مع مقاصد الشريعة. |
وقد كان لنداء خادم الحرمين الشريفين الذي وجهه حفظه الله في كلمته البليغة والمقتضبة لإخوانه ملوك وقادة الأمة الإسلامية في القمة الإسلامية العاشرة في بوتراجايا في ماليزيا، وما أكدته قمة مكة الإسلامية الاستثنائية في نهاية 1425هـ من ضرورة تطوير المجمع تحت اسم "مجمع الفقه الإسلامي الدولي" بحيث يصبح مظلة فقهية ومركزاً إسلامياً جامعاً لتنسيق الفتاوى الإسلامية ووضع شروطها الفقهية الصحيحة، ومحاربة تعدد الفتاوى غير الملتزمة بهذه الشروط إضافة هامة لدعم ونشر تعاليم الإسلام الصحيحة القائمة على الوسطية والاعتدال والتسامح ومحاربة الغلو والتطرف والعنف لأهداف وواجبات المجمع. |
واستجابة لنداء خادم الحرمين الشريفين وإخوانه من قادة ورؤساء الدول الإسلامية نهض فضيلة الشيخ الدكتور ابن الخوجه بهمته العالية وبمؤازرة ودعم من معالي الأمين العام للمنظمة البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي لترجمة توجيهات خادم الحرمين الشريفين وقرار قادة ورؤساء العالم الإسلامي في مؤتمر القمة الإسلامية الاستثنائية الثالثة إلى واقع ملموس حيث سعى إلى عقد العديد من الاجتماعات العاجلة والمكثفة بمشاركة أعضاء المجمع من العلماء وخبراء من الأمانة العامة بما هيأ إلى وضع التصور المناسب والخطط الطموحة والكفيلة بتطوير المجمع واستقطاب عدد من علماء العالم الإسلامي للإسهام في تحقيق النظرة المستقبلية للمجمع والارتقاء به إلى المكانة التي تمكنه من مواجهة التحديات والتأثير فيها، وبما يعكس الصورة الناصعة لمبادئ الإسلام وسماحته والتصدي للمحاولات المغرضة التي تسعى من وقت لآخر لتشويه صورة الإسلام والنيل من مبادئه. |
وهنا يجدر بنا ونحن نذكر الفضل لأهله أن نذكر بكل الإجلال والتقدير ما تلقاه منظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي من أيادٍ بيضاء ودعم لا محدود من قيادات المملكة العربية السعودية على مر عصور قيادتها بداية من المغفور له الملك فيصل والملك خالد وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمهم الله، وانتهاء بدعم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أطال الله في عمره، ما كان له الأثر البالغ في ترسيخ أعمال المجمع ودعم أركانه وأهدافه على مر السنين ما يتوجب علينا أن نتوجه بخالص الشكر والتقدير لخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين على ما يحظى به المجمع ومنظمة المؤتمر الإسلامي من دعم ومؤازرة لا محدودة وفاء للواجب وأداء للأمانة التي يستشعرون واجبها نحو الدين والأمة. |
ويقول معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الحفل التكريمي الذي أقامه على شرف فضيلة الدكتور الشيخ ابن الخوجه في الشهر المنصرم: |
"ورجل جليل رفيع المنزلة تقلد هذه المراتب العلية وقدم هذا العطاء الفكري الثر الحميد الذي سيبقى على توالي الأحقاب سيكون ماثلاً في وجداننا وفي ذاكرتنا على مدى الأيام وسيطول تلفتنا إليه وسيدوم التواصل مع علمه وأثره على مر السنين". |
وأقول في كلمتي التي تفضلت جريدة "عكاظ" بنشرها في وقفة الوداع مع فضيلة الدكتور ابن الخوجه: |
"في يوم من الأيام وقبل خمسة وعشرين عاماً حظي الكثيرون ممن عرفوا مكانة وفضل الدكتور الشيخ ابن الخوجه في المملكة العربية السعودية بقدوم عالم إسلامي جليل بينهم عرفوا فضله ومكانته وقد غادر وطنه تونس وهو في ذروة المراكز العلمية والفقهية في وطنه الأول ليحل ضيفاً جليلاً بين ظهرانينا ليتبوأ مركزاً علمياً وفقهياً مرموقاً بانتخابه أميناً عاماً لمجمع الفقه الإسلامي ويبدأ مرحلة جديدة أبعد هدفاً وأكثر عمقاً وأوسع نطاقاً بترشيح من الدول الإسلامية ولينزل ضيفاً مكرماً في وطنه الثاني المملكة العربية السعودية وقيادتها الكريمة باعتبارها دولة المقر". |
وأقول وإذا كانت المراكز الهامة تتميز عادة بقيمها وأهدافها وتاريخها فإن الرجال الأغنياء بقيمهم وإيمانهم وعزيمتهم هم الذين يصنعون المجد والنجاح بعون من الله لهذه المراكز، وهم الذين يثرون بعلمهم وجهودهم تاريخها وأمجادها بما يرضي الله وينفع الناس. وهذا ما كان لفضيلة الشيخ ابن الخوجه الذي كان يمضي الساعات الطوال من سحابة يومه وبعضاً من ساعات الليل لعقد الاجتماعات والتحصيل والبحث والنقاش مع إخوانه من علماء العالم الإسلامي ليقدم المجمع خلاصة أفكار أعضائه وفتاواهم خدمة للإسلام والمسلمين. |
وهكذا ومنذ أن حل عالمنا الجليل بيننا في هذه الديار المقدسة قبل خمسة وعشرين عاماً ألفه الكثيرون ممن عرفوا مكانته وألفهم وأحبوه في الله وأحبهم حتى نسوا أنهم سيودعونه في يوم من الأيام بسلامة الله إلى وطنه الحبيب تونس. |
واليوم ونحن نلتقي مع فضيلة الدكتور ابن الخوجه في محطة الوداع وفي هذه الأمسية الجميلة أمسية الوفاء التي أتاحها لنا سعادة الأخ الكريم رائد الاثنينية ورمز الوفاء الأستاذ عبد المقصود خوجه، لا يسعني إلاّ أن أكرر الشكر له على عنايته وتفضله ورعايته، ولا أقول لفارس هذه الاثنينية معالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه وداعاً ولكن أقول له إلى لقاء قريب في رحاب العلم والخير والعطاء خدمة للإسلام والمسلمين. داعياً الله العلي القدير له بطول العمر وترادف الصحة والعافية ومزيد من البذل والعطاء، فالأمة لا زالت بحاجة إليك وإلى ثمار فكرك ووافر عطائك. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|