شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة الدكتورة مي بنت عبد الله الدباغ))
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إخواني الحضور وأخواتي الحاضرات أحب أن أبدأ بشكري للشيخ عبد المقصود خوجه إذ شملني بهذه الدعوة لكي أكون بينكم اليوم في هذا الحفل الكريم، لقد دعيت اليوم بصفتي ابنة الدكتورة ثريا العريّض، وأستطيع إن أردت أن أحدثكم عنها باستفاضة كونها الأم الحنون التي سهرت على راحة أطفالها، والقدوة لغيرها في تطبيق مفاهيم التربية السليمة وما إلى ذلك، ولكنني أفضل أن أقدم لكم جانباً آخر من علاقتي بأمي، اسمحوا لي أن أعرفكم بنفسي مرة أخرى، فأنا أتحدث عن أمي اليوم وأقدمها لكم بصفتي قارئتها الأولى، أولى ذكرياتي التي تجمع أمي والكلمة المكتوبة تعود إلى عام 1988م، أذكر سماع صوتها وهي تدخل المنزل دوماً عند تمام الساعة الرابعة والنصف عصراً، حين تعود من عملها، وغالباً مع ثلاث أو أربع صحف تضعها على طاولة غارقة أصلاً بأكوام من الجرائد والمجلات والمنشورات من كافة الأشكال والألوان، وبعد بضع دقائق تشق صينية شاي طريقها إلى الطاولة في حين أجلس أنا متربعة على كنبة فستقية اللون مقابل كنبتها في توقع لقطعة شوكولاته صغيرة والتي هي مكافأتي لإنهاء واجباتي المدرسية، وكانت تصب الشاي بطريقة منهجية، دوماً الشاي في البداية ثم كمية سخية من الحليب يتبع ذلك ملعقة واحدة من السكر، وتحركها بحركة مستديرة لتصدر صوتاً مرتفعاً ثلاث مرات على الأقل، قبل أن تضع الملعقة على صحن فنجان الشاي ثم ترفع الفنجان بيدها اليمنى وخنصرها الصغير يبدو غير مرتاح نوعاً ما منحنٍ قليلاً وما امتد نوعاً ما، كنت في العاشرة من عمري في ذلك الوقت عندما بدأت أمي كتابة عمود يومي في جريدة "الرياض" وكان من مسئوليتي في مثل تلك الأوقات عصراً أن أقرأ لها مقالاتها بصوتٍ عالٍ، وذلك غالباً لأنها كانت تريد أن تعرف إذا كانت هذه المقالات مقروءة حيث إنها كانت مكتوبة بخط اليد، وكان عليها أن ترسلها بالفاكس للجريدة قبل أسبوع واحد من نشرها فكنت أقرؤها بصوت عالٍ وكانت تصحح لي إذا ارتكبت خطأً نحوياً ثم كانت تسألني هل فهمت محتوى المقال؟ ما رأيك فيه؟ في العاشرة من عمري كنت أعتقد أنني جمعت أطراف العلم، وكنت آخذ مسؤولية قراءة مقالاتها على محمل الجد، لا سيما أنها كانت تقول لي دوماً إنني قارئتها الأولى، كنت أجد كتاباتها في بعض الأحيان عصية الفهم، فكانت تحاول إرضائي بقولها لي: إنك ذكية بما فيه الكفاية بالرغم من صغر سنك، لذلك أنت تمثلين لي القارئ العادي، لم أكن متأكدة من أنني أوافق على هذه الرؤية وشعرت بالإمتعاض بتسميتي القارئ العادي، حيث إنني وبشكل عام لم أُكافأ أبداً على كوني طالبة عادية أو عادية من ناحية أخرى من حياتي، ولهذا كنت أتلقى تعليقها هذا بشك وحذر خاصة وأنه غالباً ما كان يصحب هذا التعليق نظرة متعاطفة وابتسامة حنونة، وبناء على ذلك صممت أن أرتقي بمستواي من مرتبة قارئة عادية إلى أعظم قارئة قد تقابلها أمي، وذلك بمضاعفة جهودي في فهم محتوى مقالاتها والتفكير فيها، وأصبح طقسنا المسائي أسهل مع الوقت حيث أصبحت أرتكب أخطاء أقل، وقلّت المرات التي أتعرض فيها للتصحيح.
إن جلوسي على تلك الكنبة الفستقية كل يوم فتح أمامي نافذة على مرحلة مليئة بالأفكار والخلافات والإثارة والقوة والخوف والغضب (الساحة) كما كانت تسميها أمي، لم تكن مجرد مجموعة من القرّاء المجهولي الهوية كما كان يعتقد عقلي الطفولي في ذلك الوقت في أواخر الثمانينات، إنما الساحة ساحة معركة للكتّاب الذين يتطلعون للنفوذ والشهرة، وأصحاب القرار الذين لم يكونوا دوماً مسرورين بمعرفة أن هناك من يأخذ موقفاً مغايراً للموقف الرسمي، والأسوأ من ذلك أولئك الذين لم يكونوا ليزعجوا أنفسهم بالقراءة ولكنهم كانوا يشعرون بإهانة شديدة من مجرد فكرة وجود شخص ناهيك عن كونه امرأة تجرأت أن تؤكد وتدافع عن حق التعددية في الأصوات والآراء، في الحقيقة كان من الواضح أن المرأة عندما تصبح كاتبة يصبح وضعها أكثر إشكالية حيث إن النساء كُنَّ وما زلن إلى درجة كبيرة يعتبرن فئة خاصة يجب أن تبقى صامتة وراء الكواليس، أما إذا كتبت المرأة فيعني أنها دخلت الحياة العامة، وسيطرت على نظام رمزي محجوز للرجال عادة.
عندما تقرر امرأة أن تكتب فإنها تتحكم باللغة وتشارك في الحديث المهووس بها كفئة.. كرمز.. كغياب.. ولكن ليس كفاعل، بالكتابة تتحدى المرأة قواعد اللعبة وفي بعض الحالات النادرة كحالة أمي تنجح في تغييرها، وفيما مرت السنين ظللت أقرأ مقالات أمي رغم أنه لم يعد هناك حاجة لذلك، إذ أصبحت المقالات مطبوعة على الكمبيوتر ومقروءة تماماً ولكننا تعلقنا إلى حد كبير بطقسنا واحتفظت بحقي في قراءة مقالاتها قبل أي شخص آخر.
في أوائل التسعينيات أصبح لها عدد هائل من المتابعين معظمهم من المعجبين وبعض من الأعداء معلنين وفي ذلك الوقت تحولت أمي بشكل ملحوظ من مرحلة كانت الكتابة بالنسبة إليها تمريناً إبداعياً وشخصياً إلى مرحلة أصبحت تختلط مع الكتابة انطباعات متوقعة، أو حتى متخيلة، من أطراف أخرى، القراء، المحررين، الكتّاب الآخرين، الأمر الذي تموضع بشكل ثابت في نوعها، كانت تتمتم لنفسها أحياناً عن رد الفعل الذي سيكون على مقال ما يتناول موضوعاً محظوراً أو موضوعاً فيه إشكالية، في معظم الأحيان وبحنية وسذاجة الشباب كنت أؤكد لها أنها عليها أن لا تكترث بل المهم أن لا تتنازل عن القضايا التي تؤمن بها، ألا يجب أن يعبر الكاتب عن نفسه متحرراً من الرقابة سواء خارجية أو داخلية رسمية أو مخفية، وبالرغم من تأكيداتي المتكررة مرت علينا أيام عديدة لم تنشر فيها مقالات أمي أو أنها كانت تُنشر ولكن بحروف صغيرة، بالكاد مقروءة، أو أنها تُنقل من مكانها الاعتيادي إلى زاوية مخفية من الصحيفة فيبدو أن ردود الأفعال التي تخيلتها أمي كان يتوقعها المحررون أيضاً، كانت تنشر أحياناً قصيدة في مكان المقالة وكنت أنتظر هذا اليوم بشغف ومتعة لا حدود لهما لأنني كنت أعرف أن بإمكانها أن تقول شعراً أكثر بكثير مما كانت تستطيع أن تقوله نثراً، كانت اللغة غنية ومرهفة وغير مباشرة وكان عليَّ أن أجاهد كما لو كنت أحل لغزاً، لأفهم ما ترمي إليه، وبالإضافة إلى الإشارات التاريخية للأساطير اليونانية والشخصيات الإسلامية والأدب العربي التي كانت معقدة يستعصي على عقلي الصغير أن يفهمها، كنت أستمتع بالصور الجمالية والاستعارات والموسيقى، أعطيكم مثالاً بسيطاً من قصيدة "رقصة العاطفة":
قرأت ترانيم سافو و تاريس، عشتار، إيزيس، بلقيس..
كل اللواتي توقفن بين التي واللتَيَّ..
مزامير زرياب تبعث فيهن نبض النوار وومض الثريا..
قرأت أساطير ليلى ولبنى، وقيس..
كإخوان عذرة من سمعوا في حداء التضاريس همساً خفيا..
انتهوا بخدور الجميلات وهماً نديا..
يعدن به اللهفة الخائفة قرأت وما كنت أيّا وما مرت العاصفة..
كنت أحياناً أتأثر بالحزن الموجود في القصيدة وأتساءل عما دفعها للكتابة بسوداوية كهذه، أمي التي كانت تجلس في مقابلي بهدوء ترتشف الشاي يبدو أنها كانت نفس الشاعرة المعذبة التي تحمل بؤس العالم على كتفيها وفي قلبها، مثلاً من قصيدة "كلهن أنا":
كل هذه الوجوه أنا... التي الحلم بأعماقها لا يموت..
والتي دفنت حلمها في البيوت
والتي تتأرجح بين الحقيقة والحلم دون زمن..
كل هذه الوجوه أنا.. تحاصرني أينما أتجه بأحلامها.. بجدائلها.. بالعيون يكحلها الحزن كل صباح..
يغلفها اليأس كل مساء.. من يعاتب مَنْ؟.. مَن يحارب مَنْ؟ كلهن أنا..
في ثياب موشاة تنبض آلامهن..
تلهث أنّاتهن بصوتي أنا كلهنّ وجوه مشوهة..
في المرايا القديمة محاصرة بين خوف وظن..
عندما بدأنا نتلقى مكالمات تهديد في منزلنا وفي ساعات متأخرة من الليل أحياناً، أو رسائل غاضبة ترسل من قِبَل أشخاص أو مجموعات تريد أن تعدل أمي عن موقفها، أو تخيفها لكي تتوقف عن الكتابة كلياً، كانت أمي لا تعيرها اهتماماً، وعندها بدأت أفهم أن الحزن في شغلها أحياناً هو في الحقيقة غضب متنكر، وعلى الرغم من أن أمي كانت على وعي متعمق بالقضية النسوية واتخذت منذ البداية موقفاً جريئاً فكتبت كثيراً حول موضوع المرأة بأكبر قدر من الوضوح والشفافية والصدق، كانت كذلك معنية إلى حد الهوس بالانتماء، كنت أجد في كل قصائدها معالم أحلام الوطن المنتظر، وعلى الرغم من أن في معظم كتاباتها نفحة قومية عربية إلا أن لها علاقة وثيقة بالواقع الخليجي وخصوصياته، القلق والخوف من العنف الذي عايشناه أثناء حرب الخليج الأولى عند الحدود، اليوم يتواجد داخل حدود البلد الواحد.
بعد أن أنهيت دراستي الثانوية العامة عام 95 وذهبت إلى الولايات المتحدة للدراسة الجامعية ظلت ترسل إليَّ كتاباتها عن طريق البريد الإلكتروني، وافتقدت طقسنا إلى حد بعيد وغالباً ما كنت أقرأ قصائدها التي كانت ترسلها بالإيميل وأنا أشرب فنجاناً من الشاي، مع كمية سخية من الحليب وملعقة واحدة من السكر، وقررت أن أكتب ورقة بحث حول واحدة من قصائدي المفضلة، التي هي "أين اتجاه الشجر" لأنقل عن تاريخ الشرق الأوسط، مثالاً عن النشاط النسوي السعودي من خلال الكتابة، وأثناء إعداد ورقة البحث أعدت قراءة القصيدة مرات عديدة وأدركت فجأة أنني فعلاً كنت محظوظة لأني عايشت واقع الحياة العامة في السعودية من سن صغيرة، من خلال كتابات وأشعار أمي، بصفتي قارءتها الأولى شاهدت معركة الحياة الثقافية في الثمانينات والتسعينات، ورأيت ما يحدث عندما تقرر امرأة أن تطالب بصوت فاعل وكيف تتناول ردود الأفعال من التشجيع على هذه المحاولات البطولية إلى مكالمات تهديد آملة في إسكات كل من يتجرأ على تشجيع وتعزيز سياسة الاحترام والتعددية، واتضح لي فجأة أنها علمتني من خلال الجلوس على تلك الكنبة الفستقية والقراءة والتقييم النقدي أنه من المهم دوماً التمعّن والتفحّص فيما يقال لنا أنه من البديهيات والمُسَلّمات، وأن على المرء أن يدرك على الدوام أن لديه مسؤوليات تجاه نفسه، وتجاه مجتمعه كي يلعب دوراً فاعلاً حتى وإن لم يكن هذا الدور هو الدور الذي يصفق له أو يشكر عليه، وكلما قرأت أجزاء من القصيدة كلما أدركت ما لم توفره لي سنوات من الدراسة حتى بعد ما نلتُ شهادة الدكتوراه، مثال بسيط من قصيدة "أين اتجاه الشجر":
يطالبني الجمع أن أتغاضى وأنضم صامتة لصفوف الكفيفين..
أو أبتعد.. أأُطفئ عيني!! أأُطفئ عيني؟ وتبقين لاهثة في الضلوع مكممة للأبد..
على الرغم من أني اختلفت مع أمي في أمور عديدة إذ إننا لا نتفق دوماً على طريقة بعضنا البعض، وتعتقد أمي أن السن هو السبب وأن طريقتها هي الصحيحة وأنني سأتعلم ذلك مع الوقت، إلا أننا كنا نختلف لأنها علمتني دوماً أن أُفكر لنفسي، أن لا أكف عن مساءلة ما يبدو أمراً مسلّماً به، وأن أدرك أن لدى كل شخص القدرة على أن يكون عامل تغيير للوضع الذي يعيشه فيبدأ في إيجاد غدٍ أفضل.
الحضور الكرام.. لعلي قدمت لكم شيئاً حميماً عن أمي لم يكن ضمن ما كنتم تعرفونه، وأشكر لكم حسن إصغائكم.
عريف الحفل: إذن الآن ننقل لاقط الصوت إلى سعادة الأستاذ الدكتور جميل مغربي لنرى ما عنده، تفضل دكتور.
الأستاذ الدكتور جميل مغربي: في البدء أعتذر لأبي هاشم السيد عبد الله الدباغ لأنني كنت حريصاً على ذكره في تلك الإضمامة التي قدمتها في استهلالة حديثي أعتذر له ودون أن أخفي إعجابي بتميزه كشخصية اجتماعية وعلمية في حقلها في علوم الأرض، أيضاً هي الليلة ليلة سادة.. ودخلت في كنف سيد أحبه هو أخي الأكبر سعادة الأستاذ الدكتور حسن بلخي وبين يدي الآن كلمة لسيد جليل أيضاً هذا الرجل لم يكن ليضن بالكلمة الطيبة وبالمشاركة الوجدانية وبالمشاعر الرقيقة ولذلك نحن في المجتمع مقصرون إزاءه، فهو في هذه اللحيظات في عوز إلى أن نقف معه معنوياً لنؤازره ومع ذلك آثر أن يشارك في هذه الليلة بكلمة ترحيبية يقدمها إلى ضيفتنا الكريمة الدكتورة ثريا العريّض، أعني به السيد الأستاذ عبد الله الجفري الكاتب المعروف، لم أتعود أن أقرأ كلمات لكن لمحبتي لهذا السيد سأقرأ كلمته:
 
طباعة

تعليق

 القراءات :522  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 51 من 255
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج