((كلمة معالي الأستاذ الدكتور عصام الدين أحمد البشير))
|
أزجي بادئ ذي بدء التحية الرحيبة عبر الأثير لمعالي السيد النبيل الأديب المثقف الأستاذ الكبير عبد المقصود خوجه سائلاً الله تعالى أن يمن عليه بعاجل الشفاء، وأن يسبل عليه ثوب الصحة وأن يعيده إلى وطنه ورحابه سالماً غانماً معافاً إن شاء الله. |
نحن نشهد ثمرة لغراس نبيل مبارك امتد لزمان متطاول في هذه الاثنينية المباركة، غرس بدأ بصالون يلتقي فيه رموز الفكر والثقافة والأدب بمختلف أطيافهم وتعدد مشاربهم يتحاورون في الفكر، ويراجعون القول فيه، فاستحالت هذه الفسيلة إلى دوحة وارفة الظلال تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فأثمرت ثمرات يانعات وقطوف دانيات كرمت أهل العلم والفضل والثقافة والأدب والفكر والفن من مختلف المشارب وتعدد المدارس تنويهاً بقدرهم وإنزالاً بمكانتهم اللائقة بهم، وتنويهاً بجلائل أفضالهم وأعمالهم التي قدموها خدمة لدينهم وأمتهم، فهذا جهد يشكر عليه من بذر هذه البذرة الصالحة، له الشكر موصول غير مقطوع وله التقدير ممدود غير مجذوذ، ويده علينا سابغة ودينه علينا مستحق، يا من بذلتم لنا المعروف دل لكم في القلب مني مكان مشرف عالٍ.. يا من بذلتم لنا المعروف طاب لكم مني الدعاء.. |
حياكم الله ما عشتم وأنعشكم |
لا زال منزلكم في ظل أفضال |
|
ولا يشكر الله من لا يشكر الناس ومن أسدى إليكم معروفاً فكافؤوه.. وليس هناك من ثناء أجزل وأعظم من دعوة صالحة أن يثيب الله تعالى القائمين على أمر هذه "الاثنينية" المباركة، عملاً يزدادون به فلاحاً وتوفيقاً وسداداً في الدارين. |
الأمر الثاني في الحقيقة ارتد طرفي خاسئاً وهو حسير بعد أن تأملت مسيرة التكريم في هذه الرحاب المباركة لأعلام كبار وكواكب دراري وثلة أطهار من العلماء النبغاء النبلاء الفضلاء الصلحاء ممن سلف إلى رحمة الله وممن لا يزال على الميدان يعطي الكثير من فكره وقلمه وجهده وجهاده، تضاءلت نفسي بين هذه الجموع المحتشدة التي وصلت إلى المئين، كل كرم وأدلى دلوه، وأين أنا من تلك الدلاء، فالدلوه قصير وما عسى أن يبلغ الخاطر المكدود، مع عجره وبجره وبضاعته المزجاة التي حقيق بحاملها أن يقال فيه تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، أتقرب إلى الله بأن أكون جزءاً يسيراً من التلمذة عليهم ورحم الله أبا عمر ابن العلاء حين قال: "ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال"، وجدت نفسي بينهم كابن اللبون، وابن اللبون لا ضرع يحلب ولا ظهر يركب، وقديماً قال الشاعر: |
وابن اللبون إذا ما لز في قرن |
لم يستطع صولة البزل القناعيس |
|
فأين السهى من شمس الضحى، وأين الثرى من كوكب الجوزاء. |
أولئك آبائي، فجئني بمثلهم |
إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
|
ولعلّه من حسن الظن بأخيرهم والله أسأل أن يغفر لنا ما لا يعلمون وأن يحسن بنا في مآل الأمور كلها. |
أيها الأحباب إني لأحسب أن هذا التكريم ينصب إلى تكريم يتصل المنهج الذي ظللنا نؤمن به وندعو إليه والذي يعبر عن ضمير الأمة ويتأسّس على هدي الشريعة وعلى منهج النبوة، إنه منهج الحنيفية السمحة، منهج الصراط المستقيم منهج العدل والاعتدال والميزان، منهج السبيل والقوام إنه المنهج الذي يرتبط بالأصل ويتصل بالعصر، هذا المنهج الذي حصر مجراه عبر التاريخ أعلام كبار من لدن صحابة النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، حتى غدا عذباً نميراً سائلاً فراتاً وما زال عطاؤه موصولاً وثماره يانعة وقطوفه دانية. إنه الذي يقدّم الإسلام من خلال حقائقه الكبرى في وحدته وتوحيده عدله وشوراه، كرامته وحريته، أسبقيته وأولويته، إنه تكريم لمنهج الوسطية والاعتدال، هذا المنهج الذي يقدم الإسلام نهجاً يرتبط بالزمان والمكان والإنسان موصولاً بالواقع مشروحاً بلغة العصر منفتحاً على الاجتهاد والتجديد لا على الجمود والتقليد جامعاً بين النقل الصحيح والعقل الصريح مستلهماً للماضي معايشاً للحاضر مستشرفاً للمستقبل، ثابتاً في الكليات مرناً في الجزئيات، محافظاً في الأهداف متطوراً في الوسائل، مرحباً بكل قديم نافع، وينتفع بكل جديد صالح، ينفتح على الحضارات بلا ذوبان ويراعي الخصوصية بلا انغلاق، يلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، يرتبط بالأصل ويتصل بالعصر هذا التيار الذي جاء تعبيراً أصيلاً عن حقائق الدين وليس استجابة لضغوط طرأت على الأمة وافدة عليها ليمنحنا الغرب صك براءة على أن ديننا هو دين التسامح، ودين المرحمة إنما جاء استجابة لهدي رباني ومنهج نبوي، ذلك أن أمتنا اليوم تترنح بين تيار الغزاة وتيار الغلاة وتيار الجفاة، الغزاة الذين أرادوا أن يجعلوا الأمة تتحاكم إلى حضارة مركزية كونية لا تعترف للآخرين بحق الخصوصيات الحضارية، أرادوا أن يفرضوا علينا ثقافة وفنوناً وآداباً واقتصاداً وفكراً ليس لنا فيه من حق يتصل بالهوية أو بالخصوصية الثقافية، هذا التيار الوافد علينا وفي أمتنا من الداخل تياران لأن التطرف عملة ذات وجهين، أحد الوجهين الغلو اللاديني وهو الغلو العلماني، إذا كان الغلو الديني الذي بدأ بالتكفير وانتهى بالتفجير، سوبر انتحار فإن سوبر ستار وهو الغلو اللاديني الغلو العلماني، الذي بدأ بالتخدير وانتهى بالتدمير، هذا الذي يريد أن يقيم قطيعة مع موروثنا الحضاري، يريد الإسلام عقيدة بلا شريعة يريده دعوة بلا دولة، يريده حقاً بلا قوة، يريده قوة بلا جهاد، يقابل هذا التيار تيار الاستلاب والتغريب والتبعية والذيلية تيار التكفير والتفجير الذي لم يصن الحرمات ولا الدماء ولا الأنفس ولا الأعراض فروَّع الآمنين، وكفَّر المخالفين وضلّل وفسّق وبدّع كل من حمل رأياً يخالف تلك الراية، وضاعت الأمة بين هذين التيارين الغلاة والجفاة وبين التيار الغازي الوافد إلينا، ولعل تيار الوسطية محاولة لأن يقدم هدياً يخرج لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، فهو ليس بدعة ابتدعها أهل هذا العصر، إنما هو منهج أصيل لهذا الدين المبارك، أحسب أن هذا التكريم لشخصي الضعيف، الذي تتضاءل نفسي لهذا المقام وهذا الترحيب إنما هو تكريم لهذا المنهج وهو منهج لا يرتبط بشخص ولا بمدرسة ولا بحزب ولا بجماعة ولا بطائفة، بل هو تيار دافق بالحيوية ودود ولود، اجتمع فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر وعزائم ابن مسعود وأثرية ابن حنبل وفقه أبي حنيفة ومقاصدية الشاطبي وظاهرية ابن حزم، إنه يشكل هذه المدرسة الإسلامية الكبرى بتنوع آفاقها، وتعدد أطيافها، إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، هذا هو التكريم الحقيقي لهذا المنهج الذي نحسب أنه يضرب بسهم وافر في مسيرة هذه الأمة المباركة. |
أيها الأحباب لا أود أن أطيل عليكم في هذا وإنما أشير إلى بعض المحطات نزولاً عند رغبة القائمين على هذه "الاثنينية" لأن المقصود فيها توثيق لرحلة بضاعتها مزجاة ولكن نشير فيها إلى بعض المعالم عسى أن يكون فيها ما يفيد، السودان بيئة يمكن أن نقول عنها أنها وطن في قارة وقارة في وطن، وهو أشبه بقوس قزح، فيه جميع الألوان، للثقافات والعرقيات واللغات واللهجات، وهذا النسيج يشكل بيئة صالحة تؤمن بهذه التعددية وهذا التنوع وبيئته قامت على ما لخصه الفقيه ابن عاشر، أنه قام على مكونات ثلاثة، على عقد الأشعري ومذهب مالك وطريقة الجنيد السالك، هذه مكونات التدين التي نشأ عليها المجتمع السوداني ووفدت عليه وافدات من دعوات إصلاحية في هذه البيئة، نشأنا وترعرعنا والتحقت بفترة مبكرة في العمل الإسلامي الذي قادته صحوة مباركة، كان أحد أساتذتي من المصريين وكنت معجباً بالشعر، ولربما يحسب كثير من الناس أنني لي ملكة شعر، أقرض الشعر ولكنني في الحقيقة لست شاعراً ولا شويعراً ولا شعروراً، وإنما متطفل على مائدة الشعر، أحبه منذ الصغر ولكن كانت تستغلق عليَّ بعض المفاهيم والعبارات والألفاظ التي أجدها في المعلقات والمفضليات والأصمعيات وكانت تلك الحكمة البالغة، أنت مالك أنت تحفظ وبس وبعدين تفهم لأن العمر في هذه المرحلة يستقبل بذاكرة تتجلى في قدرتها على الحفظ دون إدراك المعاني فكان لابد من الحفظ ثم استيعاب المعاني من بعد ذلك وأذكر في السنة السادسة من عمري وأنا أتنقل في القطار مع أسرتي من مدينة تسمى "الأبيض" في غرب السودان إلى قريتنا مدينة تندلتي التي يمر بها القطار. كان الحكم العسكري آنذاك للفريق عبود، فكان هنالك فريق من دار الإذاعة فاستجوبونني وأنا طفل في السادسة وقالوا لي هل تعرف عبود؟ قلت لهم لا أعرف عبود.. هل أنت أفضل أم عبود؟ ذكرت نفسي بالفضل وأهلي كذلك، وخرجت مني عبارات لا تليق في حق الفريق عبود، فلما وصلت قرية تندلتي كان أحد المرافقين لهذا الفريق يخبرني بأنني ووالدي عليه رحمة الله علينا أن نأتي في اليوم الثاني لمقابلة القاضي في مدينة كوستي، فجئت في اليوم التالي وقد احتشدت ساحة القضاء، لمحاكمة هذا الطفل الذي لم يتجاوز عمره الست سنوات، حيث فضل نفسه على الفريق عبود، ولصغري لم يرنا الناس الذين احتشدوا في تلك القاعة، فأصعدني القاضي إلى منصته ووجدت بعض البسكوت لابنه فالتهمته، فسألني فقلت له الحقيقة وكان القاضي حكيماً وبّخ أولئك الذين استجوبوني وأداروا معي ذلك الحوار، ثم اعتذر لي ووالدي وأخذني إلى السوق واشترى لي قميصين وبنطالين، وكان كثير من الكبار في السن في تلك القرية يقولون صاحب عبود صاحب عبود، في ذلك العهد. |
ومن الأشياء التي أخذناها كثيراً في السودان، أن السودان فيه طاقة كبيرة من الأدباء والمثقفين وقد أشار الأخ الكريم المتحدث عنهم ولكن لعلّه يعني قربنا من الشقيقة الكبرى مصر التي هي قبلتنا في العلم كما أن مكة قبلتنا، فهي تشكل القبلة الروحية، كان جسر العبور للتعريف بالأدباء أن يردوا إلى تلك الحياض فينهلوا منها ويكون ذلك باباً للتعريف بهم، الشاعر محمد سعيد العباسي ذكر الأستاذ الكريم جملة من هؤلاء الشعراء، فالشاعر محمد سعيد العباسي، كان لا يقل عن محمود سامي البارودي ولكن الكثير من الناس ربما يطلعون إلى المنتديات الثقافية والأدبية ولا يعرفون شيئا عن هذا الشاعر الفحل، الذي درس في الكلية الحربية في مصر ثم نهل منها ثم عاد إلى السودان وكان حنينه يشتد إلى مصر وكان من دعاة وحدة وادي النيل، وأنا معجب بشعره وأحفظ منه الكثير وقد تتلمذت على ديوانه وأشعاره، ولما عاد إلى مصر زائراً لها وقد بلغ السبعين من عمره، قال: |
أقصرت مذ عاد الزمان فأقصرا |
ورضيت لما جاءني مستغفرا |
ما كنت أربى يا زمان لو أنني |
لم ألق منك الضاحك المستبشرا |
مصر وما مصر سوى الشمس التي |
بهرت بثاقب نورها كل الورى |
ولقد سعيت لها فكنت كأنما |
أسعى لطيبة أو إلى أم القرى |
فارقتها والشَّعر في لون الدجى |
واليوم عدت به صباحاً مسفرا |
سبعون قصّرن الخطى وتركنني |
أمشي الهوينى ضالعا متعثرا |
من بعد أن كنت الذي يطأ الثرى |
زهوا ويستهوي الحسان تبخترا |
يا من وجدت بحبهم ما أشتهي |
هل من شباب يباع فيشترى |
ولو أنهم ملكوا لما بخلوا به |
ولأرجعوني والزمان القهقرى |
|
وهو من الشعراء الذين أرّخوا لمحطات في عمره وحياته عندما بلغ الخمسين قال: |
ما أنسى لا أنسى إذ جاءت تعاتبني |
فتّانة اللحظ ذات الحاجب النون |
يا بنت عشرين والأيام مقبلة |
ماذا تريدين من موعود خمسين |
|
وعندما بلغ الخامسة والستين من عمره قال: |
وأنكر القلب لذّات الصبا وسلا |
حتى النديمين أقداحاً وأحداقا |
أحبو إلى الخمسة والستين من عمري |
حبواً وأحمل أوراقاً وأقلاما! |
|
ثم ذكر السبعين في الأبيات التي أشرت إليها.. |
كان هذا من كبار فحول الشعراء وكثير من الناس لا يعرفونه، ذهب إلى مدينة "النهود" بناقته وعلى طريقة الشعراء العرب في الغزل وفي النسيب في بداية القصيدة قال: |
باتت تبالغ في عزلي وتفنيدي |
وتفتضيني عهود الخرَّد الغيد |
وقد نضوت الصبا عني فما أنا |
في إسار سعدى ولا أجفانها السود |
سئمت من شرعة الحب اثنتين هما |
هجر الدلال وإخلاف المواعيد |
|
ثم بدأ يصف رحلة الناقة: |
أثرتها وهي بالخرطوم فانتبذت |
تكاد تقذف جلموداً بجلمود |
تؤم تلقاء من نهوى وكم قطعت |
بنا بطاحاً وكم جابت لصيخود |
نجدُّ يرفعنا آل ويخفضنا |
آل وتلفظنا بيد إلى بيد |
وشد ما عانيته في الليل من عنت |
يضني ومن حيث أخدود فأخدود |
حتى تراءت لحادينا النهود وقد |
جئنا على قدر حتم وموعود |
معالم قد أثارت في جوانحنا |
شوق الغليل لمهضوم الحشا الرود |
استغفر الله لي شوق يجدده |
ذكر الصبا والمغاني أي تجديد |
إن زرت حياً أطافت بي ولائده |
يفدينني فعل مودود بمودود |
فكم برزن إلى لقياي في مرح |
وكم ثنين إلى نجواي من جيد |
لو استطعن وهن السافحات دمي |
رشفني رشف معسول العناقيد |
|
أيضاً تتلمذت في الشعر على الشاعر السياسي والأديب والمحامي السيد محمد أحمد محجوب وكان رئيس وزراء السودان في الستينات، وكان حاضر البديهة، صعد قمة جبال الألب في وقت الشتاء وكان في منفاه وقد علا الشيب رأسه، فقال على البديهة: |
شاهقات الجبال في الأفق سكرى |
صاعدات مع الشعاع شعاعا |
كلَّل الثلج هامها فتراءت |
كشيوخ خاضوا الزمان صراعا |
ليت شيبي كشيبها موسميٌّ |
يرفع الصيف عن صباه القناعا |
|
كانت من أحاديثه الماتعة وحواراته الجميلة، في الجمعية التأسيسية كان زعيماً للمعارضة وكان رئيساً للوزراء أنه كان يتحدث وقد ضاع قلمه الذي أخذه أحد النواب فقال على البديهة: |
ماذا صنعت به وكان إذا جرى |
نفث البيان الحر غير مقيّد |
قلم تحرر من قيود زمانه |
ومضى طليقاً لا يدين لسيِّد |
كالحية الرقطاء ينفث سمه |
أما غضبت على أثيم معتدي |
وإذا رضيت فما أرق سطوره |
حسناً وأبهاها عقود زمرد |
كم غادة خلدت بسحر بيانه |
وغدت تتيه بحسنها في المشهد |
صاحبته زمنا فأحسن صحبتي |
وودت يبقى لو يقاسمني غدي |
يا سارقاً قلمي جهلت مكانه |
لا يعمل الصمصام إلا في يدي |
|
تربينا على هذا التراث من شعراء التجاني يوسف بشير، إدريس جماع، محمد سعيد العباسي وشعراء أيضاً من الفحول المعاصرين في الأدب أستاذنا البروفيسور عبد الله الطيب-يرحمه الله- فكان موسوعة تسعى بين الناس، كانت أول باكورة إنتاجه "المرشد إلى فهم أشعار العرب"، والذي قدم له عميد الأدب العربي طه حسين وهو ألفه ولما يتجاوز الثلاثين من عمره، وكان آية من آيات الله، وإتقانه للغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي واستدراكه على شعر شكسبير وغير هؤلاء وله تلاميذ أخذنا منهم، وأذكر هنا في هذا المقام ممن أفدت منهم كثيراً الأستاذ الجليل الدكتور الحبر يوسف نور الدائم وهو يعتبر خليفة الدكتور عبد الله الطيب في السودان وهو شاعر فحل وله ديوان اسمه "أنفاس القريض"، وكلمة أنفاس القريض أخذها من بيت لقصيدة البروفيسور عبد الله الطيب قالها في حق أستاذه مطلعها:- |
مر العشي وكرّة الإصباح أودى برونق عيشنا يا صاح |
ذهبت بشاشة لذة مسحورة والزهر صوّح أيّما تصواح |
خمسون أنهكت القوى وتصرمت لم تبق غير تعلق بفلاح |
|
ثم ذكر فيها أستاذه الجليل البروفيسور عبد الله الطيب: |
من لي بتهنئة المجاذيب الألى |
نالوا العلا وتفردوا بجناح |
أستاذنا وذخيرنا وحبيبنا |
وآه له من سيد جحجاح |
كم راقني من فيه عذب حديثه |
وشفا بأنفاس القريض جراحي |
|
والعالم الجليل صاحب أضواء البيان الشيخ الشنقيطي في رحلته رحمه الله، له قصائد كثيرة، السودان محطة، من موريتانيا إلى الحج في المملكة العربية السعودية، وقد مر بالسودان، ووقف عند أهلها وناظر علماء المعهد العلمي واستضافه العالم الكبير الشيخ يوسف إبراهيم النور، من كبار علماء السودان ومن كبار أشياخنا، وعقد له حلقة علم حتى يستفيد منه أهل السودان. ومن عادات إخواننا الشناقيط أنهم يخلعون السراويل ويلبسون أمام الناس، فالشيخ يوسف خشي أن الشيخ الشنقيطي بعد أن غسلت له الملابس أن يفعلها أمام المشايخ فأراد أن ينبه الشيخ بطريقة لطيفة، والمعروف أن كلمة سراويل ممنوعة من الصرف لأنها جاءت على صيغة منتهى الجموع، فالشيخ يوسف قال له: يا شيخ محمد، فقال له: نعم يا شيخ يوسف، فقال له: |
ولسراويل هذا الجمع شبه اقتضى عموم المنع |
|
فقال له: |
اطمئن سوف لا نصرفها لك قبلاً ولا بعدا |
|
هذه البيئة التي جمعت بين روحانية التصوف؛ جمعت أيضاً بين التسامح المذهبي، وجمعت بين الثراء الفكري، وبين نتاج أدبي وثقافي. فقد نهلنا وترعرعنا على يد بعض العلماء والمشايخ ثم أكرمني الله عز وجل، بأن جئت إلى هذه البلاد الطيبة الكريمة ولسان حالي يقول: |
نزلت بجدة فشددت رحله إلى جداء طيبة البجاد |
وهزك منظر فذ فريد إلى بيت الله والحجر السواد |
فطفت ملبياً أسعى مجيباً وأبسط ضارعاً كف الجهاد |
وأرمل بين والدة وزوج وأزحف في الرباوة والوهاد |
إلى جبل الصفا أسعى مجداً منيراً خافقي سلسلاً قيادي |
وعاودني الحنين إلى حبيب بصير بالقلوب لهن حادي |
|
عليه الصلاة والسلام. |
عشنا في هذه البلاد الطيبة، وكانت المملكة تضم في جامعاتها كوكبة من خيرة علماء العالم الإسلامي، من مصر ومن بلاد الشام ومن الهند ومن باكستان منهم نهلنا هذا العلم، وكان من علماء المملكة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، الشيخ بن حميد، الشيخ بن الغيان، الشيخ الفوزان، الشيخ البراك، الشيخ عبد العزيز الراجحي، فقد درّسونا العقيدة والحديث ومن علماء الشام شيخنا الشيخ العلامة الكبير عبد الفتاح أبو غدة، وكانت لي مع هذا الشيخ خصوصية، بالإضافة إلى الدراسة التي درستها نظامياً في الجامعة، كنت أتلقى عليه العلم في بيته، كان يدرّس صحيح مسلم والأدب المفرد للبخاري وكان يجمع بين الأدب وبين أطايب تراث السلف الصالح مع الشرح الحديث، كانت لنا معه ذكريات طيبة، جئته يوماً أودعه في زيارة إلى السودان، فبعد أن نهلنا من علمه خرج يودعني وكان الجو مقمراً والليل صافياً فأخذ بيدي. وقال: |
سألت الله أن تسمو وأن تعلو علو النجم في أفق السماء |
فلما أن علوت بعدت عني فكان إذن على نفسي دعائي |
|
لقد كان الشيخ يربطنا دائماً بمعاني السلف الصالح وأذكر من عباراته، التي دائماً يجدد بها همة الطلاب: من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة، كان يذكرنا بالهمة في طلب العلم ويقول لنا: |
إذا كان يؤذيك حر الصيف |
وكرب الخريف وبرد الشتا |
ويلهيك حسن زمان الربيع |
فأخذك للعلم قل لي متى! |
علم العليم وعقل العاقل اختلفا |
من الذي منهما قد أحرز الشرفا |
فالعلم قال أحرزت غايته |
والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا |
فأفصح العلم إفصاحا وقال |
بأينا الرحمن في فرقانه اتصفا |
فبان للعلم أن العقل سيده |
فقبل العقل رأس العلم وانصرفا |
|
وغير ذلك من اللطائف التي كنا نجنيها من حديثه العذبَ. |
رأيت الطين في الحمام يوماً |
بكف الحب أثر ثم نسم |
فقلت أذاك مسك أم عبير |
لقد صيرتني بالحب مغرم |
أجاب الطين أني كنت ترباً |
صحبت الورد صيرني مكرم |
ألفت أكابراً وازددت علماً |
كذا من عاشر العلماء يكرم |
|
كان سمته يذكر بسمت الصالحين، وكان دائماً ينشد لنا هذه الأبيات: |
إذا سكن الغدير على صفاء |
وجنب أن يحركه النسيم |
بدت فيه السماء بلا افتراء |
كذاك الشمس تبدو والنجوم |
كذاك وجوه أرباب التجلي |
يرى في صفها الله العظيم |
|
وجدنا من أمثال هؤلاء كما قلنا مشايخ في داخل المملكة والقادمين من الشام، رحابة كبيرة جداً أتاحت لنا فرصة كبيرة. وبفضل الله بعد أن انتهيت من المرحلة الجامعية أتاحت لي جامعة الإمام فرصة أن أكون معيداً وكنت الطالب الوحيد من غير السعوديين نلت درجة المعيد، ثم ابتعثت لأشرف على المركز الإسلامي في مدينة بيرمنجهام في بريطانيا، وفي ذلك الحين كنت أحضّر لدرجة الماجستير وكانت جلسات مناقشات الرسائل متعة أدبية، فيها اللغة وفيها الأدب وفيها النحو، وأذكر أحد الطلبة كتب كلمة "المشايخ" كتبها بالهمزة فنبّهه أحد المشايخ فقال له الشيخ عبد الفتاح أبو غده، اتق الله يا بني ولا تهمز المشايخ أما علمت أن همز المشايخ لا يجوز، ثم عدت وأكملت درجة الماجستير ثم بعد ذلك محاضراً في كلية الدعوة والإعلام ثم عدت إلى السودان وأنشأنا جامعة أفريقيا المرحلة الجامعية، ثم أنتدبت في عام 1986م للإشراف على المركز الإسلامي في مدينة توسان بولاية أريزونا في أمريكا ومكثت عاماً ثم عدت بعد ذلك إلى بريطانيا لتأسيس الكلية البريطانية التي أسسناها، لأننا أدركنا أن ثمة حاجة للمسلمين الذين بدأت أعدادهم وجهودهم تتعاظم في تلك البلاد، لأن الداعية الذي تبعثه البلاد الإسلامية، وهو جاهل بلغة القوم وبعادات الأوروبيين، أو الغربيين لا يستطيع أن يقوم بالدعوة ولذلك لا بد أن نؤهل من أبناء المسلمين القاطنين في تلك البلاد من يحمل الدعوة ويحمل واقع القوم، ويدرك التحديات، وكان أن أنشأنا الكلية الإسلامية في فرنسا، والحمد لله خرجت أكثر من ستة أجيال وأصبح لها الآن فرعٌ في باريس، وفي باريس وحدها يوجد قرابة مليون مسلم، ثم أنشأنا القسم الثالث في الكلية الإسلامية في ويلز، وأصبحت ثلاث كليات وأنشأنا لها مجلساً علمياً ثم أنشأنا المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث لكي نوجد مرجعية شرعية تعالج قضايا الأقليات المسلمة. وفي هذا الباب، شاركنا في العديد من هذه المؤتمرات، لعل هذه من أبرز المحطات ثم بعد ذلك عدت في العام 1992م إلى السودان عضواً في البرلمان لمدة 14 سنة، وكنت أزاول مهنة الخطابة منذ المرحلة الثانوية وكانت من فوائد النظام التعليمي السوداني أنه يعلم من المرحلة المتوسطة أن يرتجل الإنسان ويخطىء وينبهه زملاؤه ثم بعد ذلك يتعلم. وواصلت مرحلة الخطابة في المرحلة الثانوية، حتى عندما كنت في الوزارة لم أنقطع عن خطبة الجمعة، والآن اعتز بالدعوة الكريمة التي تلقيناها من صاحب السمو أمير دولة الكويت الحبيبة لنتولى المركز العالمي للوسطية، والذي بفضل الله خلال عام ونصف أقمنا ثلاثة مؤتمرات، مؤتمران للأقلية المسلمة والمؤتمر الثالث كان حول الفتوى لنعالج قضية الطوفان الإفتائي والفوضى في عالم الإفتاء الذي نعاني منه في القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت، وشارك فيه أكثر من 196 من المفتين والعلماء في العالم الإسلامي وحضّرنا أكثر من 700 إمام وأصدرنا أكثر من 20 إصداراً باللغة العربية واللغة الإنجليزية وأكرمنا الأمير بأنه وافق على تخصيص قناة فضائية تكون خادمة لقضية الوسطية فجزاه الله عنا خير الجزاء، وأنا لا أريد أن أطيل عليكم فالحديث ذو شجون. |
ولعلي أهديكم قصيدة ليست لي ولكني أعتبرها قصيدة الحاضر والماضي والمستقبل وهي لشاعر مغمور هو مصطفى حمام. كان معاصراً للشاعر عباس محمود العقاد ألقاها في جمعية الشبان المسلمين ثم أجهش بعدها بالبكاء وأوردها شيخنا الشيخ الغزالي رحمه الله في كتابه "جدد حياتك". |
|