(( كلمة الأستاذ محمد الحساني ))
|
ثم أعطيت الكلمة لسعادة الأستاذ محمد أحمد الحساني، فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
- أيها الحفل الكريم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
- بداية: أشكر لأخي الوجيه الأستاذ عبد المقصود خوجه دعوته لي - في آخر لحظة - للمشاركة بكلمة في هذه المناسبة الطيبة، التي نحتفي بها برجل كريم وأستاذ جيل يستحق - ضمن قلائل من الرجال - مثل هذه الحفاوة والتكريم..؛ وكان في نيتي المشاركة في الحديث عن المحتفى به بلا دعوة، لأني أعتبر نفسي من أهل البيت، أو هذا ما ظللنا نشعر به منذ أن بدأت علاقتنا بهذا الصالون الأدبي الرفيع، الَّذي أصبح من المعالم الثقافية لمدينة جدة، فلما تلقيت الدعوة أصبح الواجب فرضاً. |
- أيها الحفل الكريم عندما أمسكت القلم لأكتب هذه الكلمات، وجدت أمامي شريطاً من الصور والذكريات النبيلة التي عرفت من خلالها الأستاذ حامد مطاوع عبر تعامل وثيق استمر عشرين عاماً، ورأيت أن أختار من هذه الصور ما يجسد الجانب الإنساني لديه، لأنني توقعت أن يتحدث غيري عن جوانب أخرى تتصل بالأستاذ مطاوع صحفياً وكاتباً وصاحب فكر سياسي عميق؛ ولأن الجانب الإنساني عند الرجال هو الأكثر نبلاً وخلوداً في النفس، على أنني في معرض حديثي بهذا الجانب يجب أن أمرَّ على علاقتي الشخصية به كرئيس تحرير لصحيفة يومية، عملت بها محرراً متعاوناً تحت رئاسته مدة تزيد على عشر سنوات، تعلمت خلالها الكثير من فنون وأسرار هذه المهنة الخطيرة؛ لقد كان حامد مطاوع - ولا زال - أحد الَّذين ينطبق عليهم قول الشاعر: |
وأفضـل الخلـق مـن بين الورى رجـل |
تُقْضَى على يده للناس حاجات |
|
- فقد كان من أصحاب الشفاعات الحسنة، يوظف علاقاته مع ولاة الأمر والمسؤولين لخدمة من حوله، ومن يطرق بابه من أصحاب الحاجات، حتى أنَّ مكتبه في الجريدة كان يتحول كل مساء إلى مكتب خدمات للمحتاجين، الَّذين يستلمون - بيد الشكر - خطاباته النبيلة الحاملة لشفاعاته الحسنة، وهم متفائلون بنجاح مساعيهم وأن التوفيق سوف يكون حليفهم، لأن صاحب الشفاعة لا يريد منهم جزاءاً ولا شكوراً، وكنا نرى الفرح يشع من عينيه عندما يبلغه أن حاجة من سعى إليه قد انقضت، ويهتف قائلاً: الحمد لله رب العالمين. |
- وأذكر أن مواطناً رقيق الحال جاءه ذات يوم وانفجر أمامه باكياً، لأنَّ ابنته البالغة من العمر ستة عشر عاماً قد أصيبت بتليف في الكبد، وأنَّ عملية زراعة كبد لها في أميركا تكلف نصف مليون ريال، وأنَّ الأطباء قد حددوا لها موعداً لا يزيد عن عدة أشهر لتدارك حالتها، وإلاَّ أصبح بقاؤها على قيد الحياة أمراً غير ممكن من الناحية العلمية، يومها رأيت الرجل الكبير وقد اغرورقت عيناه بالدموع، ثم أخذ الملف الخاص بالفتاة من والدها ووعده خيراً، وقد علمت فيما بعد أنه أخذ الملف معه خلال رحلة صحفية مع سمو ولي العهد لأسبانيا - كان موفداً لها - ووجد هناك فرصة لأخذ موافقة سموه لعلاج الفتاة على حساب الدولة، ولما عاد رأيت البشر يطفح به وجهه وبشرني بما جرى، وطلب مني إبلاغ والد الفتاة أن يعدها للسفر مع مرافق، وهكذا كان. |
- وعلم مرةً أنَّ شاباً سعودياً في مقتبل العمر أُصيب بشلل نصفي في حادث سيارة، فكتب خطاباً مؤثراً لأحد الأخيار الَّذين يثق فيهم ويثقون فيه، فوصله شيك - باسم الشاب - يحمل مبلغاً محترماً من المال قل أن يجود به إلاَّ كريم واثق من شفاعة الشفيع، فأخذ الشيك في ليلته وأصر على أن يعود الشاب في منزله الواقع فوق أحد جبال مكة العتية التي لا تصلها السيارات، حتى أنَّ زميلاً في الجريدة رافقه قال لنا في اليوم التالي: إنهما بعد بلوغ السيارة أقصى مسافة ممكنة صعدا الجبل مشياً لمدة تزيد عن نصف ساعة، حتى يدخل الفرحة على قلب ذلك الشاب المسكين. |
|
- وكان بعض الضعفاء من الناس العاملين في الجريدة أو في الحي الَّذي يسكن فيه الأستاذ، يسرهم دعوته إلى أفراحهم، فيقول لمن حوله: ذكروني بمناسبة فلان فإنَّه أحق من غيره بالمشاركة؛ وكنت معه ذات يوم نحضر مناسبة زفاف لأحد المستخدمين بالجريدة، يسكن مع أسرته بالدور السادس والزواج في السطوح وليس في العمارة مصعد، ونبهته لذلك فأبى إلاَّ المشاركة مع الإجهاد، وكان يفعل ذلك مع إحساس منه بالارتياح، حتى أنَّه بقي في ذلك الحفل يسامر أهل المناسبة، وكلما نظرت في ساعتي تبسم وقال لي: يا حساني هؤلاء هم الَّذين يستحقون أن نفرح لهم، وندخل السرور إلى أنفسهم. |
- أما في تعامله مع مرؤوسيه وزملائه في الجريدة، فقد كان تعاملاً إنسانياً راقياً، فقد جربناه واختلفنا معه في الرأي، فلم يحدث أن احتد علينا أو مزق أوراقنا كما نسمع عن أن غيره يفعل؛ وكان يسره فتح حوار مع الكُتَّاب المتعاونين مع الجريدة لإيجاد قناعة مشتركة حول ما ينشر وما لا ينشر، لذلك ظلت جريدة الندوة في عهده صحيفة رأي محلي وسياسي مميز، واستطاعت أن تستقطب أبرز الكُتَّاب المكيين، على الرغم من أنَّ إدارتها لم تكن تقدم للكُتَّاب إلاَّ دراهم معدودة، مقابل ما يكتبون إذا ما قورن الأمر بما تقدمه الصحف الأخرى، مما أكسب الجريدة في عهده آلاف القراء المحترمين، حتى بلغ المطبوع اليومي منها في عهده ما يزيد على خمسين ألف نسخة برجيع لا يزيد عن عشرين في المائة؛ وهذه حقائق يمكن مراجعتها مع شركات التوزيع؛ وبذلك تعتبر فترة رئاسته للندوة - بحق - العهد الذهبي لهذه الجريدة، وكان المأمول أن يواصل من أتى بعده البناء، ولكن ذلك لم يحصل للأسف الشديد. |
|
- كان من مزايا الأستاذ مطاوع حرصه على مصالح من يعملون معه، والتزامه بحمايتهم، والذود عنهم، وعدم تعريضهم لما يسوؤهم..، فإذا حدث أن كاتباً محرراً كتب موضوعاً أدى إلى مساءلته من جهة معينة، فإنه يقف رجلاً ليقول للجهة السائلة: إن رئيس التحرير هو المسؤول عن كل حرف منشور، ثم يجري اتصالاته لينهي الأمر بلباقة وكياسة، وإذا رأى الكاتب الَّذي جرت المساءلة حول موضوعه قد ارتج عليه، ربت على كتفيه بحنان وهوَّن الأمر وطمأنه. |
|
- وهكذا كانت جميع المواقف تمر بسلام، يجعل من يتعامل معه واثقاً أنَّه يتعامل مع رجل مسؤول ومحترم، وليس مع جبان رعديد غير قمين بتحمل مسؤولية الكرسي الَّذي يجلس عليه؛ وظلت الندوة في عهد رئاسته لها - ذلك العهد الطيب الَّذي امتد ما يزيد على العشرين عاماً - مدرسة راقية تخرج منها العشرات، الَّذين أصبح بعضهم رؤساء تحرير في الصحف والمجلات المحلية، وبعضهم الآخر من ألمع الكُتَّاب الصحفيين والكُتَّاب البارزين، الَّذين يواصلون اليوم عطاءهم باقتدار عبر صحف ومجلات البلاد..، ولذلك فإنَّ تاريخ الصحافة السعودية سيظل يذكر اسم رجل اسمه حامد مطاوع، لأنه رجل لا ينسى، فلم يزل أبناؤه الأوفياء الَّذين تعلموا منه يذكرونه بالخير في كل مناسبة يرد فيها اسمه الكريم، وإن تناساه بعضهم أو تنكر له.. فذلك لؤم لا نملك إزاءه إلا الحوقلة..، أما هو فلن يضيره تنكر أو تناسٍ، فقد سجل اسمه مضيئاً في عقول جيل كامل، وقد سعدنا أن كنا بعض ذلك الجيل، وعندما تذكر الندوة يتذكر الناس الأستاذ، وربما قلب بعضهم وجهه في السماء متذكراً البدر الَّذي فقدته تلك الصحيفة الذاوية. |
- شكراً للمحتفي وللجميع على هذا الإصغاء.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|