(( فتح باب الحوار ))
|
فتح باب الحوار بسؤال من محمد صفائي زهراء، يقول: |
- لا شك أن هناك كثيراً من الأدباء الَّذين تأثرتم بهم في الأدب والفكر، خصوصاً في الدراسة الثانوية، بثانوية ابن خلدون، أو في جامعة دمشق، فهل لنا في ذكر بعض هذه الأسماء؟ |
وأجاب المحتفى به قائلاً: |
- طبعاً الشاعر عندما يأنس في نفسه موهبة الشعر، يسأل أساتذته والشعراء الَّذين أرسخ قدماً منه في الحلبة، لا يمكن لشاعر أن يصبح شاعراً بدءاً من الموهبة فحسب، لا بد لهذه الموهبة من ضياء الشمس والريح والتربة..، وتربتنا نحن كشعراء سواء كنا مجددين مبدعين أو قدماء على المنهج القديم، تراثنا وخميرتنا هي شعرنا القديم بدءاً بالمعلقات؛ لذلك نصحني أساتذتي باستيعاب قدر ما أستطيع، من الشعر، ومن النثر، القرآن الكريم والحديث، وأنا طفل في عالم الشعر، يعني أول شعر قلته كان عمري 15 أو 16 سنة، أخذت أحفظ شعر القدماء وأستهدي به، لكي أعطي لموهبتي شكلاً فنياً مرةً يحتذي بالقديم، ومرةً يغامر فيأتي بشيء جديد. لكن الّذي أذكره أنني حفظت المعلقات عن ظهر قلب كلها، وحفظت قدراً كبيراً من الشعر الإسلامي الأموي والعباسي والأندلسي، فأنا مدين بما ترون من لغتي الشعرية إلى هذه الجذور، ولكنني أريد أن أصدمكم نقدياً طبعاً. |
- إن هؤلاء يشكلون خميرة الخبز، ونحن عادة لا نأكل الخمائر، وإنما نأكل الخبز؛ فشعراؤنا عليهم أن يقدموا لنا غذاء من الخبز، لا أن يكتفوا بمحاكاة النماذج الأصلية أو الخمائر الكامنة في تربتنا وفي ذاكرتنا، وقليل من الخميرة يعطينا خبزاً طازجاً شهياً، لأن علاقتنا مع الشعر هي ما نضيفه كمبدعين إلى ما قاله أسلافنا، وما حاجتكم بي إذا عارضت المتنبي أو أبا تمام أو طرفة، وجئتكم طيلة حياتي بقصائد هي معارضات لهؤلاء القدماء والأصول عندكم؟ فأنا ظل لهذه الأصول، ولكن الإبداع يقتضي مني أن أستوعب هذه الأصول، أن أختمر بها، وأن أتشكل من خلالها إبداعاً يتصل بالحاضر، ومعاناته، ولغته، وقضاياه؛ وهذا تلخيص لسيرتي الشعرية. |
- الأسباب كثيرة طبعاً..، يعني أنا قابلت نزار قباني وكان عمري 18 سنة باعتبار أننا من مدينة واحدة، وقابلت عمر أبا ريشة - أيضاً - في مثل هذه السن، واجتمعت معه طيلة عام كامل في واشنطن، لأنه جاء سفيراً أيام كنت أنا هناك؛ المعاصرون اجتذبوني ولكن لم أستطع أن أنتمي إلى ما قيل من معاصر في زمني طبعاً.. في حياتي، ولا إلى ما قيل في الماضي. إبداعياً، هويتي العربية تتطلب مني أن أضيف على هؤلاء وأولئك، وهذا ينطلق من معاناتي ومن التجربة، والشاعر بدون معاناة وبدون تجربة لا يمكن أن يصنع شعراً، يمكن أن ينشئ إنشاءاً ولكنه لا يمكن أن يصنع شعراً، لذلك سوف ترون من يوافق شعري سيرى نماذج متعددة طيلة 50 سنة تقريباً؛ أنا الآن عمري 64 سنة تقريباً، قلت الشعر نصف قرن، نصف قرن وأنا أصارع الذاكرة الشعرية وأمتلئ بها، وأنني أفرغها من خلال معاناتي الحاضرة، أو بمعنى آخر أتمثلها وأستوعبها فتصبح عافية في جسدي الشعري، وتصبح دماء دفاقة حارة سخية كريمة، لكنها تختار شكلها الفني الَّذي يتصل بالذائقة المعاصرة. |
|
وسأل الطالب محمد أمين كردي قائلاً: |
- حينما يترجم الشعر من لغة إلى لغة أخرى، هل يفسد جماله وأخيلته وإيماءاته، أم أنه يحتفظ بهذه الشاعرية؟ |
ورد المحتفى به على السائل بقوله: |
- لقد جربت ترجمة الشعر من الإنكليزية إلى العربية ومن الفرنسية إلى العربية، الشعراء الَّذين أحبهم فقط، لا مطلق شاعر، إذا أحببت شاعراً وتعاطفت مع عالمه الشعرى ومع قرينه الشعري - إذا صح التعبير - أجد في شهوة القول لتجسيد ما قرأته باللغة الأجنبية بلغة عربية، وترجمت من العربية إلى الإنكليزية بحكم أني أستاذ في أميركا لمدة عشرين عاماً، وجربت طريقتين من الترجمة، الترجمة الأولى نسميها بالترجمة الأدبية، وهي أن تنقل الشعر بلغته، وصوره، وبيانه، ونبضه، إلى اللغة المترجم إليها، متخلياً عن الوزن؛ فكنت أرى في طلابي أنهم - طبعاً - يفهمون الفكرة، والصورة، والمعنى، لكنهم لا يهتزون لمثل هذه الترجمات، فجربت ترجمة أخرى تسمى بالإنكليزية Transcreation يعني نقل الإبداع و Transposition تحويل القصيدة من صيغة عربية أو صيغة إنكليزية إلى صيغة عربية مبدعة، وهذا يقتضي مني أن أعيش معاناة الشاعر، وأن أعبر عنها بما يؤمن لي التوصيل الإبداعي إلى المتلقي العربي، وهذه الطريقة هي طريقة معروفة طبعاً في الغرب. |
- فيتزجرالد ترجم الخيام بهذه الشاكلة، حتى أن النقاد قالوا: إن فيتزجرالد - هو شاعر إنكليزي - أشعر في ترجمته منه في لغته، مع إنه لم يكن أميناً في ترجمته للخيام؛ أحمد رامي نفس الشيء في القصيدة التي غنتها أم كلثوم في رباعيات الخيام، أيضاً عاش تجربة الخيام وسكبها سكباً عربياً..؛ وأنا وجدت في الغرب أن الطلاب الأميركان بوجه خاص عندما أسكب لهم القصيدة سكبة أميركانية - إذا صح التعبير سكبة إنكليزية - يتذوقونها، أما إذا عريتها من الوزن والأوزان مختلفة طبعاً، بالإنكليزي في أربعة أوزان وبالعربي في ستة عشر وزناً مع المجزوءات إلخ.. هذه التجربة طبعاً معروفة عند كثير من المعنيين بالشعر وترجمته في العالم كله، لذلك ينصحون لا يترجم الشعر إلا شاعر، أما ترجمة الوثائق وترجمة الأبحاث، فهذه أشياء يمكن أن يترجمها أي حرفي يتقن اللغتين. |
|
وطرح الدكتور سامي حمود سؤالاً بالشعر، وقرن سؤاله بطلبه من النقاد عدم التعرض لشعره بالنقد، وقال: |
أنت حر يا نذير |
ليس في قولي قصور |
أنت في الشعر هزار |
صوته أبداً يفور |
هل ترى الشعر انقياداً |
أم ترى الأقوال نور؟ |
ليس للنور حدود |
أو قيود أو قبور |
|
|
وعودة إلى رياض الشعر، حيث ألقى الدكتور بعض أشعاره، فقال: |
حلماً على الريف |
أمر ببعض العواصم |
كأرجوحة الطفل كالوعد بين المواسم |
وأسأل عن لهفة الناس كيف تصير رمادا |
وجوه موشمة بالحمام مشعشعة كالنجوم |
ولكنها لا تضئ الظلام |
وإن مر في زحمة السوق وجه أليف |
تبسم لكنه لا يعبِّر أي ابتسام |
ويسرع في طلب الخبز يرفع كفيه نحو السماء |
بوجه تكسر فيه السلام |
تخبأ في سحنة لا تغير وجه الهزائم |
تموت المعاني على شفتيه ويبقى الكلام |
ويذوي الهديل ويبقى الحمام |
ظلالاً بلا لغة، وجه بئر معطلة أو غلال |
تمر القوافل تدهنها بالمراهم تقرأ كل التعاويذ |
تجرح قلب الرمال بصمت يموت الكلام لديه ويفنى السؤال |
وهل درَّ نبع أو ابتل كف بلا معول في اليمين |
بلا حجر في الشمال |
لأن التمائم لا تصنع الفجر |
إنَّ فم الصمت صنو الزوال |
ألا أيها السادرون أفيقوا ضعوا الجمر في قلبكم والحلال |
وقوموا كما النخل من ألق الرمل |
قوموا كما الشمس خلف التلال |
خلوا العواصم مثل العواصم |
تعلق حلماً على الريح تصنع فجر الأنام |
يغير وجه المحال ووجه الهزائم. |
|
|
|
ووجه الدكتور غازي زين عوض الله سؤالاً إلى المحتفى به، قال فيه: |
- هل يوجد مسرح سعودي، وما هو مستواه باعتباركم أحد المتخصصين في هذا المجال دراسةً ونقداً، وأحد الذين قدموا دراسة عنه؟ أرجو الإجابة على هذا السؤال بكل تجرد بعيداً عن المجاملة؟ |
وأجاب الدكتور العظمة قائلاً: |
- أحيل السائل إلى كتابي المسرح السعودي الّذي نشره نادي الرياض الأدبي إذا أراد التفصيل، التجربة السعودية في المسرح عمرها تقريباً ثلث قرن وهي تجربة حقيقية؛ لقد أحصيت خمسين نصاً مسرحياً كتبه سعوديون، ومثَّله سعوديون، وأخرجه سعوديون..، ثم تأتي لتسألني هل هناك مسرح أولاً؟ |
|
- فهذه مشكلة أخرى، طبعاً المسرح مسرح رجالي لا وجود للمرأة فيه، ولكن في المقابل هناك مسرح نسائي للنسوان، وقد ذكرت ذلك في فصل من فصول الكتاب، النساء، أيضاً يأخذن النشاط المسرحي مكانه في الجمعيات النسائية، والمدارس، وفي الكليات الخاصة بالنساء، ويقمن بعملية التمثيل؛ لكن الممثلين الّذين فرضوا وجودهم على المجتمع، وقاموا بشيء من الحوار مع الشريحة الفقهية والشريحة الفنية، وتأثروا بما جرى من تطورات اقتصادية في المملكة، أبدعوا لنا مسرحيات لم تستطع المقالات أن تعطينا شيئاً من مضمونها، لذلك المسرحيون يجب أن لا نقلل من قيمتهم، جريئون ويعالجون القضايا التي تتصل بالمواطن وبالمملكة. |
|
- قضايا مهمة جداً لم نجد حتى الأجناس الأدبية الأخرى من رواية، أو مقالة، أو قصيدة تتعرض لها؛ وإذا بالمسرحية تتعرض لمثل هذه المشاكل، وذلك لأن المسرحيين يتصلون بالحياة اليومية، فالمسرح لا يستطيع أن يتغرب عن هذه الحياة، ومن هنا جاءت أهميتهم حتى أن الدولة تبنتهم، رعاية الشباب وهم يمثلون المملكة في كل المهرجانات التي تقام في كل العواصم العربية، ويجب أن يكون هذا مصدر فخر لكم أنتم السعوديين، لأن ما نسميه بالمملكة الحديثة أفرز أشكاله، أفرز قصيدته، ومقالته، وصحيفته، وبحثه النقدي، ثم أفرز مسرحيته.. وهذا أمر طبيعي؛ لماذا نتوقع من كل الشرائح الفكرية أن تعطي أشكالها الجديدة، ونقف عند جنس من الأجناس ونقول: هذا لا يحظى بوجود شرعي، فعلينا أن نعيد التفكير في ما ينتج في المملكة، لا على صعيد المسرح بل على صعيد النقد وعلى صعيد الشعر لأنه موجود، وشامخ، وحقيقي..، لكن زَمَّار الحي لا يطرب؛ ماذا نصنع بكم أيها العرب، لا كرامة لنبي في وطنه.. ولماذا أنا هاجرت ولماذا تغربت؟ ولماذا يهاجر ويتغرب الكثيرون؟ لماذا يكسرون قيثاراتهم أو رباباتهم ويصمتون، ويجلسون مع عجائز الحي؟ ذلك لأن زمار الحي لا يطرب. |
|
وسأل الأستاذ غياث عبد الباقي، فقال: |
- هل تتكرمون علينا بكلمات تتحدثون فيها عن وضع الحركة العربية الأدبية بصورة عامة وخاصة وضع الشعر العربي؟ فأنتم - كما نعلم - أستاذ وناقد حقيقي.. |
وأجاب سعادة الدكتور العظمة قائلاً: |
- الحقيقة هناك تراجعات في الشعر لحساب الرواية والأجناس الأدبية الأخرى المسرحية، وهذا شيء - طبعاً - يحزنني قوله، لأنني أنا أصلاً وفي الجوهر شاعر، لكن الحق يجب أن يقال، قديماً كنا نسمع القول المأثور الشهير: الشعر هو ديوان العرب، لكن - مع الأسف - في العشرين سنة الأخيرة الرواية هي ديوان العرب، ذلك لأن الرواية متصلة بالحياة اليومية أيضاً؛ صحيح أنها تسلط المخيلة على الواقع، لكن الواقع يظل محورها؛ بمعنى آخر: إن الشعر الَّذي طلبنا منه أن يتخشب في نماذج معينة، ولم نكن مرنين مع الحركات الحديثة، فزندقناها وخرجناها خارج المدينة، ورفضنا أن نستمع إليها..، جعل من الشعر صيغاً مكررة سمجة لا تحمل أي مضمون حركي معاصر؛ من هنا الثورة هي نفس ثورة الإقطاعيين على الجاهز والآني والطارىء والمعاصر لك كمبدع؛ أنتم تعرفون البيتين الشهيرين
(1)
: |
ضربتُ البابَ حَتَّى كَلَّ مَتْنِي |
فَلَمَّا كَلَّ مَتْنِي كَلَّمَتْنِي |
قالت أيا اسماعيل صبراً |
قلت أيا اسمى عيل صبري |
|
|
- فالنماذج الشعرية عندما لا تتصل بالحياة وحرارتها وتيارها.. تصبح إنشاءاً، وهذا يستدعي ثورة الأجيال الحديثة على مثل هذا الإنشاء، ولكن مع الأسف - كما قلت - بعد أن سجلت حركة الشعر في الخمسينات والستينات وجزء من السبعينات انتصارات مذهلة في الشعر، حتى أنَّ نقاداً مثلي ومثل جبرا إبراهيم جبرا، وربما الدكتور عبد الله الغذامي يوافقني على ذلك أَنَّ شعرنا أفضل من الشعر الأوروبي والشعر الأنجلوسكسوني المعاصر، لأن عندنا شعراء كباراً، لكن لماذا كبار؟، لأن خلفهم خلفياتهم تقوم على خمسة عشر قرناً من الإبداع المتراكم؛ فالتحدي بين المبدع والتراث تحدٍّ متوتر وكبير، فإذا أردت أن أكون شاعراً مبدعاً اليوم علي أن آخذ بحسباني ذاكرتي الشعرية، وذاكرتي الشعرية عمرها ليس أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة.. مثل أوروبا، بل ثلاثة أضعاف هذه المدة. |
|
- من هنا الوعي الشعري عند المبدعين العرب وعي متوتر وحقيقي، ووعي يعرفون التراث ويهتمون به، ولكن الخلاف كما قلت: أن أبدع بالمحاذاة.. أن أحاذي هذا التراث ولا أضيف شيئاً طبعاً، النماذج موجودة؛ أو أبدع بالتجاوز، أن آخذ النماذج القديمة وأتمثلها وأهضمها، ومن ثم أتصل بالعصر الَّذي أنا موجود فيه، العصر هو الَّذي يُعَيّن هويتي الإبداعية، كما أن اللغة تُعَيّن هذه الهوية، وبين اللغة والعصر يقوم تركيب إبداعي، الإنسان هو صاحبه، لا يقوم من نفسه، والإنسان بهذه الناحية له أهمية التراث، لأنه الناحية الحية، وإذا تنكرنا للإنسان وصممنا التراث، قتلنا الحياة؛ الإنسان هو حامل التراث، الإنسان هو المبدع، هو المعطي..، وإذا امتلأ بالتراث فاض بالإبداع؛ لاحظوا كيف النقطة الأساسية هنا، إذا امتلأ بالتراث، فاض بالإبداع.. هذه هي الحقيقة. |
|
ووجه الأستاذ عبد السميع محمد راضي السؤال التالي: |
- هل هناك علاقة بين العربية كلغة والعرب كجنس؟ |
وطرح الأستاذ نور حسين السؤال التالي: |
- ما هي الأسباب الرئيسة التي أدت إلى ضعف اللغة العربية في هذا العصر، بالرغم من أن التقدم العلمي الَّذي نشاهده في هذا العصر لا مثيل له؟ |
وأجاب الدكتور نذير العظمة على السائلين بقوله: |
- طبعاً: اللغة العربية هي لغة العرب.. لغة 250 مليون عربي، لا أحد يجادل في هذه الحقيقة، ولكنها بالتالي لغة مليار مسلم، لأن العقيدة المفروضة على كل مسلم بالصين، والهند، وأندونيسيا، وجنوب شرق آسيا، وفي إفريقيا، وفي أوروبا، لأني عندما كنت في أميركا جاءني بعض الراغبين في أن يعلنوا إسلامهم فدللتهم على الطريقة الصحيحة، وهي أن يكاتبوا المركز الإسلامي في واشنطن ويحصلوا على أوراق، ويأتوا بشهود؛ وأنا أوضب هذه العملية لتكون رسمية، وإلاَّ ستضع نفسك تحت طائلة العقاب إذا مارست مثل هذه المسائل خارج السياق الرسمي؛ على كل حال كانوا يسألونني، طبعاً لا يعرفون العربية، يريدون أن يقرؤوا القرآن، فأهديهم معاني القرآن مترجمة إلى اللغة، وأنصحهم بدراسة العربية ليستطيعوا أن يعودوا إلى النص الأصلي. |
- اللغة العربية - كما قلت - هي لغة مليار مسلم في طول العالم وعرضه، لأن العقيدة تقتضي من هؤلاء المسلمين أن يقرؤوا القرآن أصلاً باللغة العربية، ولا مانع لدينا نحن كمسلمين أن نتساهل في المرحلة الأولى للَّذين لا يستطيعون أن يقرؤوه باللغة الأصلية، فبإمكانهم أن يقرؤوا معانيه بلغتهم الأصلية حتى يعم الإسلام، وينتشر نوره في الخافقين. |
- أما ضعف اللغة، فمرده ضعفنا، فقد اتجهنا إلى التقليد لا إلى الإبداع في كل شيء، وأسلافنا كانوا خيراً منا في كل شيء؛ لقد قامت هناك نهضة بين القرن السابع الميلادي والقرن الثاني عشر، وإن كان المستشرقون يقولون بين السابع والتاسع، وهذه النهضة أعطتنا معرفة عربية إسلامية لا مثيل لها في تاريخ الأمم، في الفلسفة، في الفقه، في الأدب، في العلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية؛ واستطاعت اللغة أن تحمل كل هذه المعارف ببيان عربي سليم، فكيف لا تستطيع ذلك اليوم؟ بلد عربي يدرس العلوم بالفرنسية، بلد آخر يمثلها بالإنكليزية، بلد آخر ربما يدرسها بالعامية..، ومن يحتقر لغته إلى هذا الحد يحتقر هويته وشخصيته؛ وأنت عندما تحبس في دورة دموية، أن تقول: إنَّ اللغة العربية تلائم القلب ولا تلائم الفكر؛ بعض المستشرقين يقولون ذلك؛ أو أن تقول الأمم متقدمة أكثر منا، وعلينا أن نقتدي بهذه الأمم فتنسخ لغتك وتنسخ شخصيتك ووجودك، وتحبس اللغة عن مجال حيوي مهم. |
- اللغة كرأس المال، وبينكم تجار، رأس المال ضعه في السوق ينمو، خبيه تحت المخدة يذوب، وحتى في البنك يذوب، فاللغة تنمو بالاستعمال والاستخدام، وتضمر بالجمود والتوقف؛ كائن حي، وأنا أؤمن أن اللغة العربية لها قيمة حضارية، لكن إنساننا المعاصر إنسان منافق جبان يتهرب من مسؤوليته، ويحاول أن يكوع على القضايا الأساسية، فيتلهى بالزبد عن الماء. |
- هذه حقيقة صحيحة، إلاَّ من عافاه الله، ووضع نوره في قلبه كي يجادل، ويناقش، ويعلن عن رأيه؛ وربما سوف يجني ما يجنيه عن إعلان رأيه هذا في الوسط الاجتماعي الَّذي يتقلب فيه. |
ووجه الأستاذ الدكتور محمود حسن زيني السؤال التالي: |
- كيف تنظرون إلى الشعراء في هذه المملكة الرائدة، وقد عشتم بين ظهراني الأدباء والمفكرين في عقر دارهم، وهل اختلفت نظرتكم النقدية عن نظرة الناقد اللبناني مارون عبود في مختبره ومحكه؟ |
وأجاب سعادة الدكتور العظمة قائلاً: |
- في المملكة شعر.. وشعر حقيقي ينتمي إلى كافة الشرائح الاجتماعية؛ هناك شعر تقليدي ما يزال يحتفظ بنظرية الأغراض الشعرية، ولغتها، وصورها البيانية، وبحورها..، وهو شعر مقبول عند الدارس؛ أنا أتكلم الآن كدارس وكناقد موضوعي، لا أتكلم كشاعر؛ وهناك - أيضاً - شعراء تأثروا بالمذهب الرومانسي موجودون في الساحة أنتم تعرفوهم أكثر مني، العواد، والسرحان، وشحاتة..، وكثير غير هؤلاء أعطوا للشعر - في المملكة - دفعة قوية جداً، من حيث تجديد لغته، ومصطلحه، وموضوعاته، وطريقة الانفعال الشعري..؛ ولكن الجيل الَّذي حقق نقلة واسعة في المملكة هو جيل الشبان المتمردين، ولا أخفيكم ذلك، فما الشعر إلاَّ عبارة عن شفرة، ليس الشفرة التي نحلق بها، وإنما الشفرة اللغوية؛ هو شفرة بين مرسل معلوم ومتلقي مجهول؛ لكن الشعر يعني خصوصية لغوية، وخصوصية إيقاعية، وخصوصية بيانية، وخصوصية تصويرية؛ وكل عشر سنوات يفاجئنا الشعر بشفرة جديدة حتى أن تياسل - الناقد الإنجليزي المعروف - قرر ذلك، وطلب من المترجمين أن يغيروا شفراتهم اللغوية كل عشر سنوات، حتى يستطيعوا أن يصلوا إلى الَّذين يخاطبونهم. |
- الشباب عندكم، عندما أقول شباب أغلبهم الآن فوق الأربعين، هؤلاء حققوا نقلة مهمة بأنهم ابتكروا شفرتهم الشعرية، وقاموا بما قام به الشعراء في المناطق العربية الأخرى، هضموا القديم واستوعبوه وتمثلوه، وحاولوا أن يتميزوا بعطاءاتهم الشعرية، فأعطونا قصائد جميلة وصلبة، تستطيع أن تقف وتنهض بنماذج الإبداع في العالم العربي. |
|
وسأل الأستاذ ماهر محمد عبد الوهاب قائلاً: |
- تعد أسرة العظمة من أعرق الأسر في دمشق، حيث أنجبت مشاهير الأدباء ومشاهير الفنانين؛ ما هي صلتكم بهؤلاء؛ وهل كان لعراقة أسرتكم في دمشق علاقة بإبداعكم الأدبي؟ |
وأجاب سعادة الدكتور على ذلك بقوله: |
- أنا أعتقد أن الأسرة شيء جميل، في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة هوجمت الأسرة العربية بواسطة أنظمة لا تتمنى أن يكون المواطن مرتبطاً بها، والأسرة هي حاملة قيم، وحاضنة تقاليد وعقيدة؛ ونحن تعلمنا لغتنا - أول ما تعلمناها - في الأسرة، وتعلمنا عقيدتنا - أول ما تعلمناها - أيضاً في الأسرة؛ فلا نفرط بالأسرة، ولكن الأسرة كمتمم أو كنواة لوطن كبير، فالوطن جزء منها، وإذا تضاربت مصلحة الوطن مع مصلحة الأسرة، فعلينا أن نأخذ بمصلحة الوطن؛ ولكن على ما أعلم أنا في أسرتي منهم عبد الرزاق العظمة محام، ولدينا فرع في مكة جاء مع الملك فيصل وما زالوا هناك ويوجد بعضهم هنا. |
- الأسرة تشعر أنَّ وجودها الحيوي واستمرار هذا الوجود لا يكون إلاَّ من خلال مزيج اجتماعي مشترك، تشترك فيه كل الأسر جميعاً، أنا عندما كنت صغيراً كان والدي (رحمه الله) يفخر بي ككل الآباء، كما تعلمون: المال والبنون زينة الحياة الدنيا، لكن كنت أسمع منه - دائماً - العبارة التالية: ستكون أنت خليفة يوسف العظمة.. طبعاً يوسف العظمة كان وزير دفاع، واستشهد في معركة ميسلون في مجابهة غورو، فكيف لطفل صغير؟ عندما عدت للكتب المدرسية لأبحث عن يوسف العظمة فذهلتُ، كيف يمكن لي أن أخلف يوسف العظمة؟ وثبت في ذهني أنه يجب أن أذهب للكلية العسكرية، لكن رحمة الله على أمي لم ترغب أن أذهب إلى الكلية العسكرية، وربما هذا أثَّر علي، وذهبت طبعاً للكلية العسكرية، فحصوني - وكنت في السنة الثانية الجامعية - كان بطني محروقاً منذ كان عمري أربع سنوات، وامتلأ قلب الطبيب رعباً، وقال ما هذا؟ قلت هذا آثار حريق منذ كان عمري أربع سنوات.. قال: أنت غير صالح؛ قلت: شكراً وانصرفت؛ فذهبت لأمي وشرحت لها القصة وقدمت لها الورقة، إنني غير صالح، فانبسطت وقالت لأهلي: إنني غير صالح للعسكرية، وعلى هذه المسألة تحضرني قصيدة سوف أقولها لكم: |
- طبعاً أنتم عالمون منذ الخمسينات وبعد المأساة التي أصبنا بها في فلسطين، هذه أدت إلى نشوء أنظمة جديدة، قالت بأنها سوف تنقذ فلسطين، ولكن إنقاذ فلسطين أبعد من أن يدرك بهذا الشكل، والحياة العربية - للأسف - صودرت في كثير من الأقاليم العربية.. الحياة صودرت كلياً..، أنت عامل حالك دكتور في الجامعة، أنا هنا عندي نجمتين يسووا كل الدكترة تبعك..، وهذه هي الحالة؛ لذلك أنا عندما كنت في الجامعة ككل الشباب أحب أن أتزوج، وأرافق زوجتي في هذه الحياة، وقد اتفقنا معاً في الجامعة، وفوجئت ذات يوم بها تأتي وخاتم ماس في أصبعها، وزنار لولو على خصرها، وشال جميل جداً، من الَّذي خطبها؟ نجمتان..، لذلك كتبت هذه القصيدة التي اشتهرت في سوريا وكسرت الخطبة، هذه القصيدة كسرت خطبة، اسمها على اسم مجموعة شعرية عنوانها: "غداً تقولين كان". |
فديتك إذ تبسمين |
وتنشق غمازتان |
ويشرق إشراق الجبين وتضحك لي مقلتان |
كأنهما طفلتان تنتف من ياسمين وتلهو |
فيلهو الزمان |
اسمعي.. |
تدفق نهر الحنين لدى أضلعي |
وحسون قلبي يرف على بيلسان |
يغني معي |
إلى أين.. إلى أين يا مقلتان؟ ألا غردي |
أيمحو ضباب الغد على كتف نجمتان |
وخاتم ماس وزنار لولو؟ |
أنا لك دن وكاس وارزال حب جميل |
أنا ليس عندي حرير ولا نغمات لآلىء |
ولكن أشهى وأحلى |
فلي همسات الغدير وبوح الجمال وحقل وكوخ |
من القصر أغلى |
وموال فلاحة تغتذي وراء الكروم |
تلم الشذا الندى |
وتشكل مجدولها بالنجوم |
وخاتم حبي ترى.. أمن نجمة كسرا |
تعالي إليَّ أوشحك بالثريا |
فكل الَّذي أستطيع فمن أضلعي ومن مقلتيا |
حملت إليك الربيع فهل تقبلين؟ |
وتنشق غمازتان |
اسمعي.. تدفق نهر الحنين لدى أضلعي |
وحسون قلبي يرف على بيلسان |
يغني معي |
غداً وفي اللاوعي تقولين.. كان |
|
ثم تقدم الأستاذ محمود مرسي من جريدة السياسة الكويتية بالسؤال التالي: |
- الحضارة العربية في التصور الأميركي الشائع هي حضارة عمل، ولكن هناك - أيضاً - مفكرون وأدباء مثاليون، مثل: شارلز بيرسي، جورج سانتيانا، بيرسون؛ كيف تشربت الثقافة الأميركية ببعديها المتجادلين، واكتسبت منها مذاقاً جديداً بطعم عربي في قصائدك؟ |
وأجاب المحتفى به قائلاً: |
- أنا علمت في أميركا خمسة عشر عاماً بالإنكليزي، عن التمدن الإسلامي أو عن الأدب العربي، وهذا في إطار الأدب المقارن مقبول في أميركا، لا ينتظرون حتى يتعلم طلابهم العربي ليدرسوا الحضارة الإسلامية أو الأدب العربي، يدرسونهم هذه المناهج باللغة الإنكليزية؛ ولأنني تخصصت، طبعاً لغتي العربية بنيتها في الجامعة السورية ولبنان، كنت كاتباً مناضلاً وأستاذاً، وشخصيتي انبنت قبل أن أهاجر، وما هاجرت إلاَّ لأنني تعرضت للحكم بالإعدام ثلاث مرات لأمور سياسية، وهجرتي كانت قسرية، هذا مما دعاني أن أعبئ الجهود لأبني نفسي - مرةً أخرى - في المهجر، وتعلمت في المدارس والمعاهد الأميركية، وأخذت ماجستير بالأدب الإنكليزي، وأخذت دكتوراة في الأدب الحديث والمقارن من أنديانا أيضاً. |
- كنت أُدرِّس وأدرُس، لعدم وجود نقود معي، فكنت أعمل أستاذاً في النهار، وأستاذاً في الأصياف، وأذهب إلى الجامعات حتى قيض الله لي في نهاية المطاف دكتوراً تعاطف معي، وسمعني في أحد منابر جمعيات الاستشراق وهو د. وديع جويدة - أمد الله في حياته - وعرض عليَّ لماذا لا تأتي وتدرس دكتوراة في جامعة أنديانا؟ فقبلت لأنه يسر لي تفرغ سنتين، فطلبت من الجامعة التي أدرس فيها أن آخذ سنتين بلا راتب، فذهبت ودرست الدكتوراة في سنتين، وكان زملائي يضحكون علي عندما أقول إنني أريد أن أخلص في سنتين، لأنه صعب والدكتوراة تحتاج إلى خمس سنوات؛ لكن الواقع أنا عندي ماجستير بالإنكليزي، وعملت دروس الماجستير بالعربي في بيروت أثناء إقامتي في لبنان، فمهيأ لكي أتم مرحلة التعليم العالي في الأدب الحديث والمقارن في أنديانا. |
- الشيء الَّذي أخذته من المجتمع الأميركي يأتي من ثلاثة مصادر: المصدر الأول: قراءاتي، وهي واسعة جداً، يعني التجربة الثقافية عندي هي الجوهر، وقد بدأتها في الوطن وأنا شخص جدي في حياتي، أطالع وأقرأ وأختزل وأكثف إلخ..؛ فهذا المصدر هو المصدر الأساسي، وهو الَّذي قادني للجامعة وللتعليم العالي، فدرست ماجستير وماجستير ودكتوراة، بعد الليسانس، وكلها في جامعات غربية مكنتني مما يسمى بالبحث، بدءاً بالجامعة الأميركية في بيروت التي خلصت كل المنجزات فيها، ولكن قبل تقديم الرسالة صدر حكم بالإعدام، فهربت إلى أميركا عن طريق سوريا والأردن، وأخذت جواز سفر لاجئ سياسي وذهبت إلى أميركا ودرست هناك، وربي وفقني ووصلت. |
- المصدر الثاني: هو الجامعة، الجامعات التي درست بها؛ والمصدر الثالث هو تعليمي طلاب أميركيين، على مستوى عالٍ، فتشكلت شخصيتي تشكلاً جديداً. |
|
- خرجت من سوريا ولبنان مناضلاً ورجعت، كنت شاعراً مناضلاً، لكني كتبت - أيضاً - بعض المسرحيات في سنين مبكرة، وعندما عدت إلى الوطن عدت وأنا ممتلئ بتجربتي الثقافية، إما عن طريق الجامعات التي درست فيها، وإما عن طريق المصادر الثقافية والمصادر الإنسانية التي جئت على تماس معها؛ ولا أكتمكم أنني انتُخبت سكرتيراً لجمعية الاستشراق الدولية بأميركا وكندا، ومركز منتخب وليس تعيين، يعني ينتخبك زملاؤك لكي تقوم بهذه المسؤولية، تقديراً لما نشرته بالإنكليزية، أكثر من عشرين بحثاً نشرتها بالإنكليزية، منها ستة أبحاث موجودة في المجلات الاستشراقية الدولية الكبيرة؛ فتقديراً لإنجازاتي في هذا المجال انتُخبت لهذا المركز الحساس. |
|
- ولكن في يوم من الأيام استيقظت ووجدت شعري أبيض، وأنني صرت بروفسور في الجامعة، فانتبهت إلى أن هذه المرآة تخاطبني وتهيب بي أن أعود إلى الوطن، وخير لي أن أدفن في ترابه من أن أدفن في تراب المنفى؛ وهذا جعلني آخذ خطوة جنونية، فتركت المهجر وعدت إلى الوطن مناضلاً من جديد، والنضال معروف ماذا قصته في لبنان والخروج بالسفن، وقد عانيت كل ذلك، لكن كان عليّ بعد العودة بالسفن مع المناضلين أن أعود إما إلى أميركا أو إلى أيَّةِ جامعة عربية، وفضلت قبل أن أنفصل عن جامعتي - وأنا في الملاك هنا - خير لي أن ذهب إلى جامعة عربية قريبة من أهلي، ولا سيما أمي بشكل خاص. |
|
- ومعي هنا الدكتور عبد الرحمن الهدلق الَّذي ذكراه في قلبي لا تزول، وهو الَّذي جاء إلى دمشق وأبرم معي التعاقد، وجئت إلى جامعة الملك سعود، وفضلت جامعة الملك سعود على الكويت وعلى البحرين، وكنت قد تلقيت منهم طلبات، طبعاً كنت على أهبة أن أقبل، ولكن عندما جاء قبول جامعة الملك سعود، ولها في فكري الجامعي مكانة مهمة، لا سيما الجو الجاف جو نجد جاف يناسب صحتي، وكنت أشكو من نوع من الأزمة، وجئت هنا وتحسنت صحتي الجسدية والفكرية، وعادت مخيلتي الشعرية، وأصبحت شاعراً غريداً من جديد. |
|
وعَوْداً على بدءٍ، فقد طلب المحتفي من المحتفى به أن يسمع الحاضرين بعض قصائده، فلبَّى الطلب وقال قصيدة مهداة إلى المحتفي سعادة الأستاذ عبد المقصود خوجه، وكذلك الحاضرين؛ عنوان القصيدة هي: |
مداي البعيد |
من لهذا المكرَّمِ الموؤد |
في ثنايا المنى ولحد الوعود؟ |
من ترى يكسر القماقم حتى |
تَثِبُ الروحُ في دماء القصيد؟ |
فلكم غَمَّهُ الغمامُ فأضحى |
فَلَكاً لا يدور دون نشيد |
فأجرني يا أيُّها القاصد الشهم وطَوِّقْ بالوردِ سامقَ جيدي |
إيه عبدَ المقصود بورك مسعاك حميداً والدهر غير حميد |
يا أخا المكرماتِ بوركَ دوحٌ |
غرستها يداك للتغريد |
هزني منك نخوة جنحتني |
وأزاحت عني حدود الحدود |
في زمانٍ الفكرُ فيه طريدٌ |
من رآه يشب غير طريد |
من تُرى عَلَّمَ العصور انحناء |
ما لأُسدٍ تصيرُ غيرَ أسود؟ |
يا وجوداً مكبلاً بهوانٍ |
لست في عابس الزمان وجودي |
في شؤون الضلع فيها يراعي |
وشجونٍ الحِبْرُ فيها وريدي |
يحلف الدم أن أموت كما |
عشتْ أبيّاً والكبرياءُ حصيدي |
ما جديدي إلاَّ جوادٌ أصيلٌ |
وأصيلي إلاَّ جديد جدودي |
سائلي النبع عن نقاوة نبضي |
واسألي النخل عن حلاوة بيدي |
ما دَرَتْ هَبَّةُ الرياحِ أَمِسْكٌ |
لفها حين غلغلت بورودي |
أم جراحٌ يفوح منها إباءٌ |
حملتْ عطره خيولُ البريد |
يا أخا المكرماتِ هل عَزَّ فكرٌ |
راسفٌ في عماوة وقيود؟ |
من ترى يصهرُ الحديدَ بروحٍ |
من تُرى يوقظُ الحنينَ بعود؟ |
رحم الأرض عَقَّمَتْه أيادٍ |
تتمنَّى بقاءَ نَسْلِ العبيد |
والولاداتُ أجهضتها الوصاياتُ لتُخْفِي هويَّةَ المولودِ |
عُمَرٌ لو غفا بجفنٍ قريرٍ |
كانت القدسُ مربطاً لليهود |
ما غوى تائهٌ بغير غويٍّ |
واهتدى راشدٌ بغيرِ رشيد |
آه يا جدةَ النَّدى ما لقلبي |
يتمطَّى بشقِّ صبرِ الحديد |
يمتطي البرقَ في سوادِ الليالي |
ويضحي لفجره الموعود |
لابساً غَرَّةَ السحاب جبِيناً |
بفؤادٍ قيثارة للرعود |
حسب قلبي إذا تنفَّضَ قلبي |
وملاذي بوابة التوحيد |
غَنِّ يا نابضاً بجمرٍ وعطرٍ |
لشراعٍ ضِدَّ الرياح عنيد |
واملئي يا مجامر الند صدري |
واستعيدي نشيده وأعيدي |
واقبلي يا مواسمَ الشِّعرِ صوتاً |
عبقريّاً يسيلُ من عنقود |
واهدري يا عواصفَ الموج عصفاً |
يتوالى فلَن تخرَّ بنودي |
زبدُ الهولِ هاهنا يتداعى |
فوقَ عزمي فيا سحائبَ زيدي |
المناراتُ في الشواطئ مَدَّتْ |
يدَهَا في المدى تُطَوِّقُ جيدي |
تجعلُ الضوءَ لي جبيناً وصَدْراً |
ثم تكسو بالشمس عُرْيَ زنودي |
حَرَّرَتْ عقدةً تغلُّ جناحي |
وهبتني إلى مدايَ البعيد |
|
|
ثم طلب المحتفي سعادة الأستاذ عبد المقصود خوجه من ضيفه الكريم، أن يتفضل بإلقاء قصيدة الفاو ليختتم بها هذه الأمسية. |
فاستجاب المحتفى به وقال: |
- للفاو ثلاث قصائد، ففي أول زيارة لي عام 1406هـ قلت بأن العربي لو كان هكذا منذ خمسمائة سنة قبل المسيح، فهل يمكن أن يموت يا أخي؟ إذا كان يحيا قبل خمسمائة سنة قبل المسيح نظيفاً، ومواطناً في دولة ذات نسق ومؤسسات، وبيوته موجود فيها حمامات، ففي بعض البلاد العربية - في الوقت الحاضر - بيوت ليس فيها حمامات؛ وفي هذه الزيارة خرجت بهذه القصيدة؛ وفي الزيارة الثانية سنة 1412هـ تمخضت الرحلة عن قصيدة أخرى، والقصيدة الثالثة تتويج لهذه القصائد الثلاث، فكانت تتويجاً قيلت تكريماً للدكتور عبد الرحمن الأنصاري؛ وسأنشد لكم القصيدة الأولى. |
- الفاو عندي هنا ربطت تدمر وزينب التي قهرت الرومان فقهروها طبعاً؛ واستعاد إلى ذهني بعلبك، وكل الدول العربية التي قامت لتقاوم أطماع روما ولم تَنْصَع لهذه الأطماع؛ فهذا جعلني أرى كل هؤلاء توائم مع بعضهم البعض؛ هنا في الجزيرة الفاو، هناك في تدمر، وفي بعلبك، وفي البتراء كلهم نفس الشيء؛ جاءت روما بالأباطرة لتحطم ملكاً مثل زينب، أو مثل كليوباترا، أو تدمير البتراء مرتين في القرون الأولى للمسيحية؛ قتلوا حارث، وضعوا تحت وصايتهم المنطقة، واصطنعوا الحيرة واصطنعوا المناذرة؛ وهؤلاء طبعاً كانوا يشكلون تروساً أمام القوى الدولية في ذلك الزمان، وكانوا يدركون أنهم لن يستطيعوا أن يثبوا عليها حتى موقعة ذي قار، فتبين لهم أن تقرب الفرس وتقرب البيزنطيين منهم لا رغبة بخدماتهم بقدر ما هي خوف منهم. |
- وجاءت كندة من الجنوب من حضرموت إلى كندة الفاو، عندنا ثلاث مراحل، كندة حضرموت، كندة الفاو، كندة امرىء القيس؛ وكل هؤلاء كانت لهم مؤسسات تحكم معروفة، وكانوا يخزنوا السلاح والمال؛ امرؤ القيس كان يريد أن يسترجع سلاحه، والأسطورة معروفة أنه ذهب إلى بيزنطة حتى يستعيد عرش أبيه؛ كندة بالنسبة لي هي نحن جميعاً، وكندة التي قامت في الجزيرة لها أخوات، تدمر، بعلبك، البتراء، وهي كلها حطمتها السلطة الرومانية بشخص الأباطرة. |
- التاريخ يعيد نفسه اليوم طبعاً.. فكتبت هذه القصيدة، وسميتها: "طائر الفاو" وكأن العنقاء تخرج من رمال الجزيرة العربية الذهبية حية من جديد، تخرج من رماد القرون خليقة أخرى، تمثل شوق العربي وطموحه وحلمه بأن يكون، وهذا هو الحلم الَّذي نتعذب في مراراته جميعاً.. نريده أن يكون ولكنه لا يكون إلاَّ أن يشاء الله. |
طائر الفاو |
د. نذير العظمة |
حُيّيتِ يا فاوّ الدواسر هل جئتِ من زمن مغاير؟ |
حُلُماً لـ ريشُ اللهيبِ يرفُّ من أفقِ الضمائر |
دهراً تحدتك المَنونُ وأنتِ في بطنِ الحفائر |
نار تخمرها القرونُ فتخصب اللحن الحناجر |
هَلاَّ هتفت قصيدة عصماءَ عن زمنِ العساكر |
وبعثتِ في نفسي شجونَ الأمسِ والركبِ المهاجر |
هلْ للزمانِ نهايةٌ أم أنَّه أبداً مسافر؟ |
والقادرُ الإنسانُ في زمنِ الحضارةِ غير قادر |
يبني الصروحَ ونبضها في القلب في مهج السرائر |
ماذا أقول لجمرةٍ بقيت على شفتي تحاذر؟ |
أنا شاعرٌ علِق اللهيبُ بقلبه فمتى يغادر؟ |
هل أستطيلُ مع الزمانِ وأسْتَديرُ مع الدوائر؟ |
في بعلبكَ نسيتُ أمسِ عباءتي فوقَ المعاصر |
وتركتُ قلبي في محافل تدمرٍ تحت القناطر |
وبَتَرْتُ في البتراءِ أغنيتي من الصخرِ المكابر |
أعقرتُ ناقةَ صالحٍ فتقسمتْ جسمي الخناجر |
وتجرَّعتْ بُري السمومُ وعطلت روحي الكبائر |
قل كيف يأتي بالولادةِ ميِّتُ الأرحامِ عاقر |
يردُ المدائنَ والقُرى ويعودُ خلوَ الكفِّ خاسر |
يقتاتُ من وهمِ الظنونِ ويتَّقي غضبَ العناصر |
يبني السجونَ ويزدهي وهو المصادَر والمصادِر |
لو كنت أرهفتُ الضميرَ لصيحةِ الطير المبادر |
لخرجتُ من كفنِ الرمادِ مجنحَ الكتفين ظافر |
ورفعتُ من فوق الزمانِ منائراً فوق المنائر |
أدعُ القياصرَ للأكاسر والأكاسر للقياصر |
يا طائرَ اللهبِ ابتكرْ لي جوهراً فوق الجواهر |
ماذا تقول لجمرةٍ في القلبِ تسطَعُ والمحابر؟ |
أأنا معاويةٌ المليكُ أقوم من موت الحواضر؟ |
وأردُّ قافلةَ الزمانِ إلى المخازنِ والعنابر |
وأصيحُ كندةُ كيفَ لا نلجُ العصور ولا نغامر؟ |
هذي العلاماتُ الأخيرة اسمعي وقع الحوافر |
جاءت إليكِ من القرونِ لتنهضي في حلم شاعر |
جاءت كأن النجمَ لم يغرُبْ وربعُ الحيِّ سامر |
يا قريةَ الفاوِ اسمعي مثلي الشوارع والمتاجر |
ماذا نقدمُ يا زمانَ الفاوِ في زمن المباخر؟ |
هجنت مثلك بالحروف وزورت عيني المحاضر |
فنزلت أدراج الحياة إلى الخرائب والمغاور |
هل تسترد ظلال ذاكرتي شموس لا تناور؟ |
وكتائبٌ مرسومةٌ بالظل في وهج المخاطر |
تلج الحياةُ الموتَ والموتُ الحياةَ فمن يكابر؟ |
إني أنا الإنسانُ أبدعها وتبدعني البشائر |
هل أستجيب لغير من ملك السرائر والمصائر؟ |
يا كندة ابتكري العواصمَ والعوالمَ والمحاور |
إني عرفت تفوق الإنسان في عقد الخناصر |
يا كندة اختصري الزمان ووسعي فج المعابر |
قومي معي نلج القرون ونسترد دم البيادر |
قومي معي في البذرة الأولى وفي لهب الشعائر |
يا عاثر الدهر انتبه إني بدأتك غير عاثر |
وخرجت من ذهب الدمالج والخواتم والأساور |
ورفعت فاو حضارة أيّان فاوُ الموت فاغر |
إني نفذت من الخروم حضارة في شكل طائر |
وعرفت أني لا محالة حيث صار الطير صائر |
يا كندة استمعي إلى خفق الجوانح في المحاجر |
طير يرود الشمس بالريش المجمر والمناقر |
يستوعب النار الخفية كي يضيء لنا المعابر |
|
|
|