(( كلمة المحتفى به الأستاذ عبد الكريم نيازي ))
|
ثم أعطيت الكلمة لسعادة المحتفى به الأستاذ عبد الكريم نيازي، فقال: |
- بسم الله، الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأصلي وأسلم على نبينا ورسولنا وحبيبنا وسيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
- أيها الإخوة الكرام الأفاضل: |
- يغالبني الحياء، والحياء من الإيمان، أن أقف في مثل هذا الموقف وأن أسمع كل هذه الكلمات، التي لم تعد هناك مكاناً لتلك المقولة التي تقول: ونحن بينهم في شر منزلة، فلما رحلنا أقاموا على أرماسنا القببا. |
- هذا التكريم يعكس شخصية الرجل الأديب الوجيه عبد المقصود خوجه، ومحبته لإخوانه الأدباء والمفكرين والعلماء وطلبة العلم؛ كنت أحضر الاثنينية عندما كنت صحيح الجسم قبل الحادث، وكنت أتناقش مع الكثير وكان البعض لا يعجبهم كلامي، ولكن كان يقابلني سعادة الأستاذ الوجيه الشيخ عبد المقصود خوجه بابتسامته المعهودة؛ لذلك قلت: إنَّ هذه الاثنينية تحتفظ بحرية الرأي لكل إنسان بما لا يخالف عقيدتنا الإسلامية ومثلنا وقيمنا الإسلامية، حتى أني كان لي موقف مع شيخ الفلاسفة الدكتور زكي نجيب محمود، ولقد سعدت جداً في العام الماضي عندما حصلت على خمس مجلدات من الاثنينية في شهر رمضان قرأتها وأعجبت بها كثيراً. |
- لقد خلد الأستاذ الأديب عبد المقصود خوجه في عمله بالاثنينية بين ثلاثة أمجاد، أمجاد تكريم الأدباء والعلماء والاحتفاء بهم وإعطائهم حقهم، وإصدار مثل هذه الكتب التي تعتبر مرجعاً تاريخياً، وعلمياً، وحضارياً، وفلسفياً لأدباء المملكة وعلمائها وعلماء العالم العربي والإسلامي؛ والمجد الثالث أنه استطاع أن يحنو بقلبه على كل هؤلاء الأدباء كبارهم وصغارهم، كم ودعنا من الأدباء في الاثنينية وذهب الَّذين ودعناهم إلى دار الآخرة، ونحن نذكر الآن سيرهم وأمجادهم وواقعهم في الدفاع عن ديننا، ومثلنا، وتراثنا، وفكرنا الأصيل..، إنني أشكر سعادة أخي الكريم الأستاذ الوجيه الأديب عبد المقصود خوجه على إتاحته لي مثل هذه الفرصة، لألتقي بهذه الوجوه المشرقة في هذه الليلة المباركة، وأردد ما قاله الشاعر: |
نام الجميع وصار الشوق يحترق |
والساهرون أنا والليل والطرق |
تمشي القناديل من خلفي تراقبني |
لا تغمض الطرف إلاَّ وهي تسترق |
يزورني يلتقي عندي يسامرني |
مـن أطعـم الحـس مـن يحلون إذ أرقوا |
سألته واعتلى شكي أأنت أنا |
ياعمر قل لي ألا قد طال بي الأرق |
غداً تسافر مني لا تودعني |
ولا تقول لماذا نحن نفترق |
وهبك قلت فمن يصغي ومن يثق فأنت مشكلتي ما دام لي ورق |
وعنك أكتب حتى يسقط الورق |
|
|
- لقد استمعت إلى كلمة معالي أخي وزميلي الصديق الوفي، العالم الجليل، الرجل الصالح الدكتور محمد عبده يماني، وهذه لمسة وفاء منه، وتربطني به زمالة دراسة وعلاقة أخوية كبيرة منذ دراستنا في مدرسة الفلاح، وفي حياتنا العامة، وفي المسامرات الأدبية؛ أيضاً كان من زملائنا سعادة الأستاذ الأديب عبد المقصود خوجه في مدرسة الفلاح، وكان من صغره يحتاط الجميع بابتسامته المعهودة، وحنان قلبه، ورأفته ورفقه بإخوانه وتفقد أحوالهم، وكان أنيقاً في كل شيء.. في فكره وملبسه، وفي كلامه وحديثه..؛ وكنا نسعد به دائماً وزملائي الأستاذ أمين عطاس، والأستاذ عبد الله عطاس، والأستاذ فايز بدر، والكثيرون ممن لا أذكر أسماءهم؛ فإنني أشكر معالي أخي الدكتور محمد عبده يماني على كلمته المؤثرة التي تحدث فيها عني في هذه الليلة المباركة وأنا لا أستحق كل هذا. |
- ثم آتي إلى كلمة أستاذي الأديب والمؤرخ والعالم المربي الجليل الأستاذ عبد الله بغدادي، صاحب الحس المرهف، والمشاعر الرقيقة..، وهو أستاذي، وهو علمني كثيراً..، تعلمت من أخلاقه، من علمه، من أدبه، من أسلوبه، من عمقه، من صمته الَّذي يوحي بكثير من المعاني التي لا يدركها إلاَّ العالمون والعارفون، ولا يستوي الَّذين يعلمون والَّذين لا يعلمون. |
- في الحقيقة: لقد قلَّدني قلادة لا أستحقها في هذه الأمسية السعيدة، فهو رائد من رواد الحركة التعليمية، جمع بين مجدين مجد الأدب والثقافة، ومجد بناء الأجيال في وزارة المعارف؛ وعندما نقلت وزارة المعارف للرياض عرض عليه منصب وكيل الوزارة، ولكنه دائم الحنين إلى مكة المكرمة مما جعله يبقى في مدينة مكة مديراً للتعليم؛ فجزاه الله عنا خير الجزاء، وأمد في عمره، وكتبه الأخيرة عن مسيرة التعليم وأسلوبه الرشيق خير شاهد على ما أقول. |
- أما أخي الكبير الأستاذ مصطفى عطار، فإنني أشكره شكراً جزيلاً على كلمته التي تحدث فيها عني وعن صاحب الاثنينية، فقد صاحبته وهو مديرٍ للتعليم، حيث أمسك بالراية بعد الأستاذ عبد الله بغدادي عندما عين مستشاراً في جامعة الملك عبد العزيز، وكنت سكرتيراً لمكتب الأستاذ عبد الله بغدادي؛ فقد طلبت هذا العمل لأستفيد من عبد الله بغدادي العالم والأديب والشاعر والمفكر..؛ ثم جاء الأستاذ مصطفى عطار وأكمل المسيرة ووضعني رئيساً لإدارة التخطيط والمتابعة؛ لقد أنشأ هذه الإدارة لكي تقيم المدارس النشاط الثقافي والفكري والحركة الفكرية والعلمية في هذه المدارس، وبذل جهداً بارزاً وموفقاً في إدارة التعليم. |
- أما أخي الدكتور محمود حسن زيني فتربطني به زمالة دراسة من أيام القاهرة، وفي مدينة مكة المكرمة، وفي نادي مكة الثقافي؛ وهو رجل صالح وصاحب فكر نير، وله الكثير من المؤلفات والبحوث، ولكنه - دائماً - يحب أن يعيش في الظل، لا يريد أن تتسلط عليه الأضواء، ولا يريد أن يرى مكانه في المجتمع إلاَّ وهو يعمل في صمت وهدوء، فجزاه الله عنا خير الجزاء. |
- أما أخي ورفيق دربي الأستاذ حمزة إبراهيم فودة، فإنني أشكره شكراً جزيلاً، فقد كان - دائماً - معنا في حركتنا الفكرية والثقافية عندما كنا في مطلع حياتنا الأدبية، كنا نعيش في منزله وفي مكتبة والده الشيخ إبراهيم فودة (يرحمه الله) الَّذي مر على وفاته بهذه الليلة أربعون يوماً، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته؛ إنني وجدت في خلقه الكثير من المعاني الخيرة التي يتمثل بها ذلك الرجل. |
- رجلان لم أجد في حياتي معهما، وزمالتي بهما، وصداقتي لهما أي ثغرة من ثغرات النقص، هما معالي الشيخ محمد سرور الصبان (رحمة الله عليه) والشيخ إبراهيم فودة الَّذي توفي قبل أربعين يوماً؛ كما أنني أشكر الأستاذ الأديب والصديق والزميل، الأستاذ عبد الله رجب، إنه كما قال وكررت ذلك دائماً في أمسية من أمسيات نادي الوحدة الثقافية، قبل إنشاء النوادي الأدبية، حاضر الأستاذ ضياء الدين رجب (رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته) فقام وقال الأستاذ ضياء الدين رجب أنا أستاذ محمد حسين زيدان (رحمه الله) أستاذه، فقام الزيدان وقال نعم لقد علمته أنا ألف باء وعلمني (ألم)، الأخ عبد الله رجب متواضع، ولكنه كان زميل كفاح ونضال. |
- إنني - دائماً - أنادي وما زلت أنادي بتسليم الراية إلى يد الشباب، فالرعيل الأول قد رحل، والثاني قد رحل، والثالث في طريقه إلى الرحيل، ولدينا من الشباب والكفاءات الشابة ما يمكن أن نعتز بها، ونعطيها الثقة في أن تستمر في العطاء، وأن تخرج من أعماقها الكنوز الفكرية والعلمية والأدبية، ونتيح لها الفرص لا أن نضع في طريقها العراقيل ونثبط من عزائمها؛ فشبابنا - ولله الحمد - بخير وهم من خِيرة شباب هذا البلد مدافعين عن التراث وقيمهم الإسلامية، وعقيدتهم وفكرهم الأصيل. |
- وقد دهشت جداً - في الفترة الأخيرة - عندما سمعت أن الشاعر فلان يتفوق على الشاعر محمود عارف!! فلان يتفوق على العواد!! العواد ليس شاعراً!!.وجدت هذا الجحود من بعض الناس مما أقرأ في الصحف، لكن حينما تعرف الأمة رجالها تقي بهم آثار الطريق، ومن ليس له ماضٍ لا حاضر له، فيجب أن نعتز برعيلنا الأول وأدبائنا ومفكرينا، فإذا كنا الآن نعيش في عهد الكهرباء فإنَّ الفانوس في الماضي كان له الأثر الكبير في تخريج هؤلاء الرعيل، الَّذين أمسكوا بالراية وحملوها على قدر جهدهم والإمكانات المتوفرة، وأعطوا ذوب قلوبهم لأمتهم ومجتمعهم ووطنهم العربي والإسلامي؛ كانوا يحفرون بأظافرهم في الصخر، كانوا يقولون ويسمعون الكثير ويتحدون، ولا أرى جريئاً مثل جرأتهم كما في أدبائنا في الرعيل الأول: أحمد السباعي، محمد حسن عواد، عبد الوهاب آشي، ضياء الدين رجب، وإبراهيم فودة والكثير الكثير من الأدباء الَّذين لا ينساهم التاريخ أبداً. |
- فعلينا - أولاً - أن نضعهم في مكانهم الصحيح، وهذه (الاثنينية) قد كرمت الكثير ممن قد رحلوا.. لقد رجعت إلى كتب سعادة أخي الوجيه الأستاذ عبد المقصود خوجه التي طبعها عن (الاثنينية) فقد رأيت فيها تاريخ حياتهم، ومراحل فكرهم، وشيئاً من إنتاجهم الأدبي، وفكرهم الأصيل..، وأذكر هنا منة كبيرة لسعادة أخي الأستاذ عبد المقصود خوجه، وهو تركه لحرية الرأي والتعبير، فلدي دراسة مقارنة عن المحاضرات التي كانت تتم في جمعية الإسعاف في عهد الملك عبد العزيز، ثم بعد ذلك المحاضرات في المؤسسات الثقافية، ثم في النوادي الثقافية، ثم في (اثنينية) الخوجه.. وبالدليل والبرهان والأدلة، وما توفر لي من مطبوعات طبعها سعادة الأستاذ عبد المقصود، سوف أقدم هذه الدراسة المقارنة، وأذكر بالحقائق كيف كان يترك لنا الفرصة، رغم أن الكثيرين ينزعجون من حرية الرأي. |
- إن الرأي والإبداع والفكر لا يمكن أن يتطور ولا يمكن أن ينهض إلاَّ في ظل حرية كاملة للرأي، من قفل باب الاجتهاد؟ باب الاجتهاد في كل فنون العلوم لا يزال مفتوحاً، ولكنا أغلقنا أنفسنا وعشنا في قوقعة صغيرة، وتقدم العالم وتركنا خلفه ناسياً أنَّ هذه الأمة العربية والإسلامية كان لها تاريخ مجيد وتأثير كبير على أوروبا وأمريكا، وعلى مختلف دول العالم؛ أخذوا منا علومنا، وأخذوا مِنَّا أفكارنا، وروجوا لنا الأفكار الهدامة التي تهدف إلى النيل من قيمنا، وتراثنا، وفكرنا، وعقيدتنا.. لذلك أناشدكم أن تفسحوا المجال للشباب حتى في تكريمهم، حتى في تشجيعهم، حتى في اعتلائهم المنابر. |
- والله ما تعلمت الخطابة والارتجال إلاَّ من رجل (رحمه الله) هو السيد إسحاق عزوز (رحمة الله عليه) كنت طفلاً في مدرسة الفلاح، وكان هناك احتفال كبير لعميد آل زينل مؤسس مدارس الفلاح، طلبني كعادته وهو لا يلبس الكوفية ولا الإحرام؛ فيلسوف مفكر، رجل فاضل؛ قال: يا عبد الكريم: قلت: نعم، بصوته الهامس: أنت تلقي كلمة المدرسة أمام الحفل، قلت: أنا ألقيها؟ قال: نعم. تهيبت الموقف في البداية، وكتبت الكلمة، كتبت ما أستطيع أن أكتب وعدلها بخطه، ثم جاء في المسرح والستار مقفول وهو خلفي وراء السِّتار حتى لا أتهيب الموقف وقال لي: تخيل أنك في بركة ماجد
(1)
وأمامك رؤوس فجل، لا تخف تشجع وانطلق.. وتحدثت وهو يهمس من خلف الستار.. ويشجعني ويدفعني..؛ ومن بعدها فتح الفتاح وصرت أرتجل وأخطب وأتحدث، ثم سافرت إلى الكثير من دول العالم وشاركت في الجامعات العربية والإسلامية، وألقيت العديد من المحاضرات، وحصلت على الكثير من الأوسمة ومن التقديرات من هذه الدول. |
- ولكن أكبر وسام آخذه في هذه الليلة، من هذه الوجوه المشرقة، وتكريم سعادة أخي الأستاذ عبد المقصود خوجه، فهذا وسام أعتز به ولا أنساه ما حييت، ولعلي أغمض جفني وأنا راضٍ كل الرضى عن كل ما قدمت وعن كل ما وثقت؛ إننى لا أخشى الموت حتى وإن جاء اللحظة لأنني أطمع في عفو رب كريم، وقد تعودت على أن أتحمل مسؤولياتي منذ الصغر. |
- أقول كلامي هذا، وأشكركم ولا أريد أن أطيل عليكم، وأشكر سعادة أخي الوجيه الأستاذ الشيخ عبد المقصود خوجه، سائلاً المولى (عز وجل) أن يحفظه ويمد في عمره، ويحفظه للأدباء والمفكرين والعلماء والمشايخ عزاً وموئلاً، وأن يرحم والده العظيم الَّذي يسير الآن على دربه، وعلى مسيرته، وأن يزيد في هذه الاحتفالات الكريمة وفيه هذه المناقشات، فإنه - والله - دليل على الجهود الحضارية التي تعيشها بلادنا في هذه الأيام المباركة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
|
|