ليالي الهلال
|
نعمة الحج
(1)
|
|
ـ 1 ـ |
في الحج تسمع اللغات والألسنة كلها، ولو أتيح لك الاطلاع على كتاب ((عبد الله بلخير يتذكر)) لرأيت حرص الحاج الإسكندنافي على الحج والحاج السنغالي على الفريضة نفسها، ولربما زعم بعض الرحالة المعاصرين أنه أوّل من سافر من طنجة إلى القاهرة وينسى أن الرحالة المسلمين قد سبقوه ومنهم ابن بطوطة، واجتازوا أفريقيا من غربها إلى شرقها. وفي مجلة الدارة الأخيرة تحقيق للدكتور محمد محمود السرياني بعنوان رحلة الحج البرية من أقطار غربي أفريقيا ووسطها إلى مكّة المكرّمة وقد قصّ علينا عجيبة من العجائب وهي أن متوسّط الرحلة في الغالب هو ((8 سنوات يقضي الفرد فيها حوالي خمس سنوات في رحلة الذهاب، و 3 ـ 4 سنوات في العودة، حيث يعمل خلالها وغالباً في السودان، ليحصل على المال اللازم قبل عبوره البحر الأحمر إلى الديار المقدّسة ثم بعد عودته من مكة لتأمين رحلة العودة إلى غربي أفريقيا. الدارة ـ العددان 1/2 السنة السادسة والعشرون 1421هـ (وهي حسب علمي بدون تاريخ محدد) ثم ذكر د. السرياني وهو أستاذ الجغرافيا بجامعة أم القرى أنه بالرغم من تدخل سلطات الاستعمار لتقليل حركة الحج في مطلع القرن العشرين كان هناك ما يزيد عن (10) آلاف نسمة يرحلون سنوياً لأداء فريضة الحج بين عام (1905 ـ 1909م) وقال إن هؤلاء يقطعون رحلة برية شاقة وخطيرة ومضنية يزيد طولها عن 3200 كيلو متر. |
هل رأيت أعظم من هذا الشوق؟ هل من شيء يفسّر رحلة عظام المحبين هؤلاء وعمالقة المشتاقين في العالم؟ التفسير الوحيد أنها دعوة نبينا إبراهيم عليه السلام عندما قال مخاطباً ربه فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (إبراهيم: 37). |
ـ 2 ـ |
أما الأستاذ عبد الله بلخير عافاه الله فيذكر قصة زميله الحاج محمود باه عمر باه.. قال: |
وأذكر أنه جاء من بلاده موريتانيا مشياً على قدميه إلى مكة المكرمة طلباً للعلم. |
لعلّ صحيفة عكاظ تبحث عن هذا العالم الشيخ محمد عمر باه ليحكي لنا قصة هذه الرحلة من شواطئ المحيط الأطلسي إلى مكة المكرّمة زادها الله تشريفاً وجلالاً. |
قال الأستاذ بلخير أن عمر باه حفظ القرآن الكريم على شيخه عمر داود جاه في السنغال. ثم قضى عامين في طريقه إلى مكة حيث احتضنه الشيخ علوي بن عباس المالكي وألحقه بالمدرسة الصولتية ثم مدرسة الفلاح وأسكنه الخلوة التي كانت للعلامة عباس المالكي في رباط باب الدريبة بجوار الحرم. |
وفي عام 1941م ـ 1361هـ حصل على شهادة التخرّج من الفلاح وسافر على قدميه عائداً إلى موريتانيا وهي بلاده حيث استقبل من أهالي قريته جاوول.. |
وهناك أنشأ أول مدرسة فلاح في غرب أفريقيا ثم واصل إنشاء مدارس فلاح أخر في المناطق والدول الإفريقية. |
وقد قام الأستاذ عبد المقصود خوجه مشكوراً بطباعة كتاب بلخير هذا، هذا العام. |
ـ 3 ـ |
استمعنا يوم الأحد ثاني أيام ذي الحجة إلى السيد جمل الليل وقد جاء من شرق أفريقيا.. |
قال لي صديق أن جمل الليل هذا جاء ليستفيد علماً علاوة على شعيرة الحج.. وإذا بنا نحن نتعلّم منه. فلقد خاطب أحد العلماء بكلام فخيم عظيم.. |
قال جمل الله ((يا شيخ عمر لقد جئنا من أفريقيا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين)).. هل رأيتم أجمل من هذا السؤال القرآني لطلب العلم الشريف. لا لطلب الدنيا؟.. |
يقول جمل الليل في تلك الليلة التي أضاءت بمجلسه إذا عظمت النعمة قل الشكر.. فأنت مثلاً تعيش في نعمة الهواء.. ولكنك لم تشكر على هذه النعمة التي لولاها لكنت في الأموات.. وسبب قلة الشكر عظمة الهبة التي حصلت عليها مجاناً أو كما قال. |
والحج نعمة عظيمة فأنت تسمع وتتعلم وتستنير وتستضيء بهؤلاء الذين جاءوا من كل صقع أسود وأبيض وأحمر واصفر من المعمورة. |
ـ 4 ـ |
نستمر مع الحج الأفريقي.. |
ها نحن نجري مقابلة في صحيفة عكاظ في 22 محرم 1421هـ الموافق 27/4/2000م مع رجل الأعمال السعودي عبد الرحمن بن عبد العزيز الراجحي.. قال: ((الأمر الذي لا أنساه طوال حياتي أن العمل أيام الحج كان ممتعاً جداً ومربحاً في الوقت ذاته. فالحجاج يقدّمون إلى جدة فيحركون السوق ثم إلى مكّة فيحرّكون سوقها والمدينة وأخيراً جدة مرة أخرى، وكنا نفرح بمقدم الحجاج وخاصة النيجيريين الذين كان لديهم المال وليس كمثل هؤلاء اليوم الذين أصبح بعضهم سمعتهم ليست بجيدة لأنهم مروا بظروف أجبرتهم على سلوك هذا الدرب)). |
الأفئدة تهوي إلى الديار المقدّسة مهما كانت الظروف.. إنها تقضي سنوات تجمع ((الإمدادات)) بالمصطلح العسكري لكي تشاهد أعظم المشاهد على الأرض. |
وقد وجدت في مفكرتي قصة شاب جزائري اسمه شخار. لقد قدم شخار من الجزائر لأداء فريضة الحج مستخدماً دراجته.. وكانت انطلاقته من المعسكر الدولي للكشافة الإسلامية الجزائرية مروراً بتونس وليبيا ومصر والأردن ثم إلى المملكة. |
واجه شخار خلال هذه المسافة الطويلة طرقاً صعبة وأجواء قاسية تتمثل في أمطار ورياح وسيول وحرارة شمس ملتهبة. |
يرى شخار أن استخدام الدراجة سلوك حضاري للحفاظ على البيئة والحد من التلوّث. |
ـ 5 ـ |
وفي الحجّ يعمل الأمير والوزير والخفير والفقير.. يذكر صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سعود بن عبد العزيز أمير منطقة الباحة في 27/1/1421هـ ـ الموافق 2/5/2000 في صحيفة عكاظ أنه: ((اشتغلت في المناقصات الحكومية ولكن للأسف لم أوفق في أي واحدة من تلك. آخر تلك المناقصات كانت لخيام الحج فتقدّمت بعرض لخيام إنجليزية تصنع في الهند ولكن كان منافسي الكعكي فكسبها)). |
الموضوع هذا العام كان موضوع الخيام وفي هذا العام أكملت المملكة عشرات الألوف من الخيام المقاومة للحريق في مشعر منى. |
لقد وفرت المملكة خلال الأعوام الثلاثة الماضية للحجاج ما لم يتوفر لهم من قبل.. فقد نزعت ملكية العقارات في منى ووسعت للملايين المكان في مدينة الخيام ليقضوا مناسكهم في راحة فجزاها الله خيراً. |
وقد أكّد الدكتور ناصر السلوم وزير المواصلات في تصريح نشرته عكاظ بتاريخ 14/2/1421هـ أن الدراسات والتصاميم الخاصة بمشروع المخطط الشامل أخذت في اعتبارها خدمة حجاج بيت الله الحرام.. بحيث تستوعب المشاعر خمسة ملايين حاج.. |
قال محمد بن ياسين سألني شيخ في الطواف من أين أنت؟ فقلت من خراسان قال كم بينكم وبين البيت؟ قلت مسيرة شهرين قال فأنت من جيران البيت قلت: وأنت من أين جئت؟ قال من مسيرة خمس سنوات إذ خرجت وأنا شاب فاكتهلت. قلت: هذه والله الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة فردّ علي بهذين البيتين: |
زر من هويت وإن شطت بك الدار |
وحال من دونه حجب وأستار |
لا يمنعنك بعد عن زيارته |
إن المحب لمن يهواه زوار |
|
هل رأيت أعظم من هذا الشوق؟ هل من شيء يفسّر رحلة عظماء المحبين هؤلاء وعمالقة المشتاقين؟. |
|