من الذاكرة
|
صدى الذكريات..!!
(1)
|
|
تواصلاً مع ذكريات الأستاذ (سراج طه خياط) عن مكّة المكرّمة وما أورده وفاضت به خواطره عن الخطّاط الكبير الشيخ (سليمان الغزاوي) قد يحسن بل يجدر بنا الرجوع إلى كتاب ((أعلام الحجاز)) الجزء الثاني للأستاذ محمد علي المغربي لنتلمس فيه ما أورده عن (الخطاطين).. |
وأختصرُ منه ما يجزئ المعرفة من أن الناس في الحجاز في النصف الأول من القرن الهجري الرابع عشر كانوا يهتمون بالخط وإتقانه وذلك قبل ظهور الآلات الكاتبة العربية. |
ومن أساتذته في جدة الشيخ حمزة عجاج والأستاذ إبراهيم توفيق حيث كانوا يُعلِّمونه في مدرسة الفلاح بجدة، وكان أهل مكّة المكرّمة يُرسلون أولادهم إلى (الخطاط) لتعلم الخط إلى جانب تعليمهم القرآن الكريم ومبادئ العلوم، وكانت مكاتب الخطاطين في (باب السلام) الذي كان مركزاً للكتابة وباعة الكتب وبعض الخطاطين. |
وفي كتاب ((أعلام الحجاز)) يضيف الشيخ المغربي بأن الشيخ (سليمان الغزاوي) كان أشهر خطاط في الحجاز، وكان باب النبط في جدة وباب مكة قد حليا بآيات قرآنية بخطه وتحت توقيعه، منها الآية الكريمة (ادخلوها بسلام آمنين).. واشتغل بتعليم الخط في مدرسة الفلاح بمكة ثم بفلاح جدة، وكذلك كان أخوه الشيخ (تاج غزاوي).. |
يواصل الشيخ المغربي بأن الشيخ عبد الله متبولي كان من خطّاطي جدة وأن قلم التحرير في الدوائر الحكومية كان يُسند إلى كُتّاب اشتهروا بجودة الخط وجماله، أمثال الشيخ علي طه رضوان والشيخ محمود آبار والشيخ حسن أبو العز.. |
ثم يعرج على أدوات الكتابة المستعملة في ذلك العهد مثل الأقلام البوص والدوايات والحبر الأسود المسحوق ويُحَلّ بالماء، وتُوضع فيه قطعة قماش خفيف تسمى (الزية) لمنع تلوّث الورق أو يد الكاتب، ولا يعتبر وقوع الحبر على ثياب الكاتب عيباً و(الحبر نيشان الكاتب) وفقاً للمثل، أما النشاف فقد كان من التراب يوضع في عليه صغيرة بها ثقوب صغيرة.. |
وأفرد الشيخ المغربي في كتابه حيّزاً عن كتاب (الخط العربي وآدابه) تأليف الشيخ محمد طاهر كردي، وهو موسوعة عن الخط العربي وفنه تناول فيه المؤلّف الأستاذ الكردي نشأة الخط وتطوّره منذ بدايته حتى الآن (الخط المصري ـ الفينيقي ـ الآرامي ـ المُسند ـ الصفري ـ الثمودي ـ اللحياني ـ الحميري ـ الكندي ـ النبطي ـ الحيري ـ الأنباري ـ الحجازي).. وعدد لغات كُتبت بالخط العربي (التركية ـ الهندية ـ الفارسية ـ الإفريقية) وكذلك شرح أنواع الخطوط (النسخ ـ الرقعة ـ الثلث ـ الكوفي ـ الديواني) وما إلى ذلك، وتحدّث عن كتابة الرسائل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده والعهود الإسلامية المتعاقبة، وعن الكتابة على الحبوب والبيض، وكان المؤلّف نفسه يتقن الكتابة على الحبوب، وألمحَ عن النساء اللواتي اشتهرن بجودة الخط وأن حفصة بنت عمر بن الخطاب تعلّمت الكتابة من الشفاء بنت عبد الله العدوية التي تعلّمت الكتابة من معاوية ويزيد، ابني أبي سفيان، وفي الكتاب أسماء وتراجم الخطاطين القدماء والمحدثين ونماذج من لوحات خطوطهم.. |
وعن الأستاذ طاهر كردي كخطاط فنان، يذكر الأستاذ المغربي في كتابه آنف الذكر، أن الشيخ طاهر كان ممَّن تلقوا تعليمهم في الأزهر الشريف ثم التحق بمدرسة تحسين الخطوط العربية الملكية حتى أتقن الخط بأنواعه ودرّس الخط في مدارس المملكة وله كراريس مطبوعة لتعليم التلاميذ، وكان يتقن كتابة بعض قصار السور على حبات من الأرز، وله لوحات فنية مصوّرة في كتابه (التاريخ القويم لمكّة وبيت الله الكريم) الذي يعتبر في حدِّ ذاته لوحة فنية كما أن له المؤلّفات والأعمال التالية كخطاط فنان كما هي مُثبتة في كتاب الشيخ المغربي: |
ـ ((تاريخ الخط العربي وآدابه)). |
ـ ((الهندسة المدرسية)). |
ـ ((رسالة في الدفاع عن الكتابة العربية في الحروف والحركات)). |
ـ ((كراسة الحرمين في تعليم خط الرقعة))، سبعة أجزاء. |
ـ ((حسن الدعابة فيما ورد في الخط وأدوات الكتابة)). |
ـ ((مجموعة الحرمين في تعليم خط النسخ))، جزء واحد. |
ـ لوحة فنية فيها صورة الكعبة المشرفة لأشهر بناياتها. |
ـ لوحات في الخطوط العربية. |
ـ ((نفحة الحرمين في تعليم خطي النسخ والثلث)). |
لعلّ الحديث يتسع مع نهايته عن الخطاطين إن أرصد اسم الأستاذ (عبد اللطيف عبد القاهر أبو سمح) خطاطاً بارعاً وذا رسالة وصاحب لوحات خطية جميلة، لقد أعاده الأستاذ عبد الرزاق حمزة إلى ذاكرتي.. |
ونواصل الآن المشوار مع الأستاذ (سراج طه خياط) وهو يلاحق طرفاً من ذكرياته بأن الخطاط (سليمان الغزاوي) كان يقطن حارة الباب.. وتقفز به الذاكرة إلى هذه الحارة وشمائل أهلها ومنهم (آل الكتبي).. من أعمدتها وكانت لهم (دكّة) مُرتفعة وواسعة وفسيحة يتجمّعون فيها مع نخبة من أهل الحارة كل مساء، حيث كان الحديث الطيب يطيب والسمر الفائق الرائق يتألّق، ثم يتناول الجميع طعام العشاء البيتي الزكي النضج والشهي المذاق. |
وآل الكتبي على مختلف فروعهم هم من أفضل القوم، برز منهم العلماء الأجلاء ورجال القضاء والأدباء والكتاب، ومنهم من تسنّم مناصب عامة مرموقة مثل معالي السيد حسن كتبي وزير الحج والأوقاف السابق والكاتب والأديب المعروف، ويضم الجزء الرابع من كتاب ((رجال من مكّة المكرّمة)) نبذة عن بعض رجالهم، وأنهم من أشهر العوائل القرشية الهاشمية ومنهم السيد محمد مكي محمد مرزوقي كتبي والسيد عدنان طاهر كتبي والسيد سامي أمين كتبي، والسيد فؤاد زيني كتبي وعبد الهادي حسني كتبي، والسيد أمجد كتبي والسيد عزت كتبي. |
ما كنت أرغب في أن أقفز إلى (حارة الباب)، حيث كنتُ توقفت لدى شعب علي وسوق الليل بآثاره ومآثره في انتظار مُواصلة المشوار مع الحارات التي كانت هي سبيلي والطريق الذي يقودني إلى مدرسة الرحمانية أثناء دراستي الابتدائية ثم في سنين لاحقة إلى مدرسة تحضير البعثات للدراسة الثانوية والحصول على شهادتها التي كانت وثيقة عُبور لجامعات مصر. |
نعم ما كنتُ أرغب في هذا القفز غير المبرمج له إلا أن الشيخ سراج دفعني بجزالة أسلوبه وحسن عرضه إلى أن اقتحم معه وأطرق باب حارة الباب. فقد أرجعني إلى عهد شهدت فيه هذه الحارة صداقاتي مع (آل الحداوي) عبر زميلي ورفيق دراستي صالح حداوي، وفي دارهم تعرّفتُ على والدهم الفاضل الجليل الشيخ (عبد الله حداوي)، وعلى بقية إخوان صالح، وهم أحمد الذي كان يُدرس لنا الابتدائية في المدرسة الرحمانية وكان شجاعاً يفخر أنه يُقاوم الحياة بكلية واحدة، والأخ الآخر أيوب، كذلك الأخ عباس الذي مارس الرياضة هواية وعملاً وكان لاعب كرة قدم بارعاً في مركز الظهير الأيسر فقد كان سر مجده الكروي في قدمه اليسرى، وإن كانت اليُمنى لا تقل قوة.. |
وإن أنْسَ لا أنسى طباخاً مررتُ به، هو (الشيخ عبد الله حداوي) فقد كان طباخاً هاوياً يطبخ بمهارة وبيديه مختوم البامية لأبنائه وزملائهم، وكان حظنا قائماً بتلك الزمالة وتنجلي الطبخة عن وجبة زكية شهية المذاق بها طيب من طيب عرف العود.. |
لولا اشتعال النار فيما جاورت |
ما كان يعرف طيب عرف العود |
|
أورد الأستاذ (عمر عبد الجبار) في كتابه (سير وتراجم) عن الشيخ عبد الله حداوي ما يلي: (تخرّج من المدرسة الصولتية فدرَّس فيها وبالمسجد الحرام، وتقلّب في مناصب القضاء وكان يُدرّس القواعد، وقام برحلة إلى الهند والباكستان عام 1346هـ، فزار مكتباتهما وعكف على مطالعة كنوز الكتب السلفية ودراسة المذهب الحنبلي في العبادات والمعاملات، ثم عاد إلى مكّة فَعُيِّن في القضاء وتقلّب في مناصبه في مكّة المكرّمة والطائف، وكان مُدرِّساً فصيحاً مخلصاً لطلابه وقاضياً تكسوه هيبة العلم ووقاره، لطيفاً في مجالسة الخاصة يُراعي حقوق أصدقائه وأقربائه مُواسياً لهم في الأزمات والشدائد).. |
كما تضمّن كتاب (أهل الحجاز بعبقهم التاريخي) للأستاذ حسن عبد الحي قزاز نبذة مختصرة عن هذا الشيخ الفاضل. |
وفي حارة الباب كان يسكن الصديق القريب إلى أحاسيس الناس حياً كان أم ميتاً، صاحب النفس المُطمئنة واللسان العفّ العفيف، طيّب الذكر زكي الروح ربيب الأدب الذي يترقرق نبعه وينساب كجدول نهر، الشاعر شعراً وشعوراً، مؤسس (المكتبة الصغيرة) ومفجّر ينابيع أعمالها الخالدة الأستاذ عبد العزيز الرفاعي الذي انطلق من تلك الحارة وسار في دروب الحياة، فلم يخرق الأرض، ولكنه سَبَرَ غَورها وحنّ إلى ترابها ولم يتطاول على الجبال جائراً بل تسلّقها عاشقاً ورفرفت روحه وحمت سجاياه وحلّقت على قممها.. خرج من هذه الدنيا وهو يحيط عنقه بباقات من صداقات حميمة من مختلف الأعمار والأذواق والمشارب، كان هناك إجماع على محبّته.. لقد انتشر في الحياة العامة إدارياً مؤهلاً، وكان آخر مناصبه مستشاراً بالديوان الملكي ثم عضواً بمجلس الشورى حتى وفاته، وكان كاتباً مؤثراً،وأديباً أريباً يتسامى شعراً ونثراً وبحثاً. وكان صديقاً وعاشقاً للكتب والمكتبات، أما حياته الخاصة فقد كانت تأسر كل من يدنو منه إنه (السهل الممتنع). ولعلّ في الجزأين اللذين صدرا عن الناشر (عبد المقصود محمد سعيد خوجه) من كتاب (عبد العزيز الرفاعي ـ صور وموقف) الأول منهما (من المهد إلى اللحد) والثاني (أديباً وشاعراً وناثراً) تأليف الشاعر (أحمد سالم باعطب).. لعلّ فيهما ما يُريح ويُرضي ويُطفئ ظمأ محبِّي عبد العزيز الرفاعي ـ رحمه الله ـ. |
|