على كرسي الاعتراف
|
الفقي بين هامات القوافي وصواري الفكر!
(1)
|
|
يعد أدب الاعتراف من أشق أنواع الكتابة وأصعبها على الأديب، خاصة الأديب العربي، فالطريق مملوء بعشرات المحاذير ومحفوف بتلال وأكوام لا حصر لها من الشوك والحجارة.. فلم يعرف الأدب العربي الحديث هذا النوع من أدب التراجم الصريح صراحة الأدب الغربي. |
وما زال المجتمع ينظر إلى الأديب أو الشاعر نظرة تقدير مثالية لأنه يعد قلمه مشعلاً من مشاعل النور وفكره (بوصلة) نحو التفوّق. |
لذلك لا يقدم الأديب العربي كثيراً على كتابة هذا النوع من الاعتراف، وإن فعل فهو يصول ويجول في سرد كل شيء بعيداً عن أمور بعينها.. ومن أشهر أدباء العرب الذين ارتادوا هذا النوع من الأدب هو الدكتور طه حسين في رائعته (الأيام) حيث كان بحق أديباً ومؤرّخاً وعالم اجتماع وخبيراً سيكولوجياً في آنٍ واحد. |
نسوق هذه المقدمة الطويلة نوعاً ما، لأننا اليوم أمام شاعر عربي كبير يتربّع بكبرياء فوق هامات القوافي وصواري الإبداع والفكر، كرمز من رموز العرب الأدبية الجليلة في عالمنا المعاصر، ألا وهو الشاعر الكبير الأستاذ السيد محمد حسن فقي. |
والمناسبة صدور كتاب تحت عنوان (السنوات الأولى ـ ترجمة حياة ـ محمد حسن فقي). |
ويقول الأستاذ عبد المقصود محمد سعيد خوجه ناشر الكتاب في مقدمته (إنني إذ أقدم لقراء العربية هذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في مضمونه، فإنني أقدّم الحرف الهادف والكلمة المؤمنة لأنني أردت أن أؤكد أن قلم أستاذنا الفقي سواء كتب شعراً أو نثراً فهو الجدير بتطويق عنق الأدب بقلائد يبقى بريقها المتألّق عبر الدهور.. قلائد أحسبها تأتلق في وادي عبقر ثم تنثال عبر الأثير حاملة أشذاء أستاذنا الكبير.. تخرج من حناياه لتدخل حنايانا فتشيع فينا المتعة والانبهار وهي تنسكب من الوجدان بصفاء النساك وعذوبة المرتلين.. ودفء المحبين وعبير المؤمنين). |
شاعر عملاق |
وفي كلمة ثرةٍ بالمعاني الرقيقة يتهيّب الدكتور عبد الله مناع من القول إنه بصدد تقديم هذا الشاعر العملاق ويرى أن كلمته هي عن الكتاب وليست عن الكاتب لذلك جاءت تحت عنوان (عن الكتاب لا عن الكاتب) ويتحدّث المناع بعشق ووله عن شاعرنا العملاق، فجاءت كلمته بديعة رائعة، وجاء المقال مناسباً للمقام والحديث للحادث. |
وأنهى المناع كلمته بالفقرة التالية (وهكذا كانت المراحل التي تلت من حياته.. من عمره.. من أيامه.. فما زال دمعه ينهمر وما زال قلبه يخفق.. وما زال عقله يسأل، وما يزال قلمه بين يديه.. وما يزال عطاؤه يتدفّق.. إن الذي بين أيدينا.. ليس كتاباً يقدم حياة شاب في زمن مضى وحسب ولكنه كتاب يقدّم درساً حافلاً جليلاً.. شجياً.. لكل شاب في زماننا وفي كل زمن آت..). |
ترجمة وليست قصة |
قبل الشروع في فصول الكتاب يقول الأستاذ السيد الفقي ما معناه إنها ليست قصة حياته هو بل سيرة وترجمة لحياة صديق له، فيقول (وفي حياة بطلها مشابه جمة من حياتي قد تلقى في روع من يعرفونني أنني شخصه وأسرد تاريخ حياتي ـ مبرقعاً، فلئن ظنوا ذلك فقد وهموا وسدروا في ضلال.. وإنما هو صديق حميم كشف لي عن نفسه الغطاء وشعرت بصدق اللهجة والإحساس فيما سرد لي من تاريخها، هذا إلى طرافة هذا التاريخ واستحقاقه للحبك والرواية.. لقد كتبت هذه الترجمة وليس لي فيها إلا فضل الصياغة وسَلْسَلَة الحوادث). |
ويؤكد الأستاذ السيد أنها ليست قصة حياته فيقول.. (فإن أصرّ بعضهم بعد هذا البيان على أن الترجمة ترجمتي أنا لا سواي فإن لهم رأيهم الذي لا أستطيع مصادرته بحال.. وإن كنت أكرر لهم ـ مرة أخرى ـ أنه رأي تجانبه الحقيقة ويغضب له التاريخ). |
وما على القارئ إلاّ أن يقر بتلك الحقيقة التي أكّدها الأستاذ السيد في بداية كتابه. |
ميلاد حزين |
لا بد من البدء بالميلاد، وهكذا فعل الأستاذ السيد فرسم بإبداع وجزالة صورة الميلاد الحزين، ومرض الأم بسبب الولادة ثم موتها بعد الميلاد بسبعة أشهر فقط. فذات مساء انطرحت على الفراش وهي هكيل عظمي يتردد فيه النفس الخافت بصعوبة.. فتكأكأ حولها الأهل والصواحب حزينات ناشجات، وبعد إغفاءة متقطعة استجمعت (المحتضرة) كل قواها إلى الأبد فاستراحت ولكنها خلفت لوليدها وبناتها وذويها التيتم واللوعة والكمد. |
ومن هنا بدأت الرحلة مع اليتم والألم والطفولة الحزينة لهذا الوليد، الذي باع والده الكثير من ممتلكاته من أجل أجور المرضعات والمربيات، وبعد سوء الأحوال المادية للعائلة في مكة عزمت الأسرة على الإقامة في جدة حيث عمل الوالد الجديد بإحدى المدارس الأهلية. |
ويمضي الكتاب في وصف شوق الصبي لرؤية مربياته في مكة وكيف كان يركب (الحمار) وراء والده لتحقيق هذه الأمنية الغالية على نفسه. |
ويضطر الوالد للعمل في أندونيسيا لمدة عامين ثم يعود ليجد فتاه دون الفتوة وفوق الصبا، وقررت الأسرة العودة إلى مكة مرة أخرى، وفرح الفتى كثيراً لعودته إلى مسقط رأسه ولرؤية مربياته.. وبعد ذلك يتحدث الكتاب عن فجيعة موت الأب التي كانت بمثابة مصيبة مصائب الفتى الذي قال لصديق له بعد سنوات ـ لقد سرت وراء نعش أبي وأنا لا أحس بمن حولي وما كنت أدري متى وصلت.. وبعد أن يرسم صورة الحزن الذي عمّ الدار بوفاة الأب يأتي لموقفه من أخواته البنات حيث تنازل عن جميع ميراثه لهنّ مما أشاع في جو العائلة روح الفرح بهذا الأخ الأب وعانقنه وهنّ يعاهدن الله ويشهدن الحاضرين على رعايته والانضواء تحت جناحه حتى يغدو رجلاً مرموقاً. |
يتحدّث الكتاب بعد ذلك عن الحياة ومعتركها وكيفية عمله بإحدى مدارس مكّة وبداية كتابته للشعر والأدب وانكبابه الدائم على القراءة والاطلاع ويؤكّد أن التخلّف عن موكب الحضارة الإنسانية سبة لا يرضى بها جيل يخدم نفسه. |
وتأتي الرحلة مع الصحافة عبر رئاسة تحرير جريدة صوت الحجاز.. ويتحدث عن آماله العريضة فيقول: (كان يتوهّم أنه بطل سيكتسح بقلمه التقاليد البالية والخرافات الموروثة والأساطير المضلّلة والأوضاع المقلوبة فاستبان له أخيراً أنه كان يرفل في خيال..) فقدم استقالته من رئاسة تحرير الجريدة متعلِّلاً بصحته المتهدمة ونفسيته المتأزمة، وانتهت صلة الشاب بالصحيفة لتتصل بوظيفة حكومية لأول مرة ويمضي الكتاب في عرض شيق وأخاذ لمسيرة حياة الشاب في الوظيفة والعمل والصداقة ممثلة في الصديق الصدوق (ص) ثم مع الزواج والأبناء وتحمل مشاق المسؤولية اليومية ورحلة تعليم الأولاد وابتعاثهم إلى مصر والرأي في تعليم البنات وفي النهاية يحادث الكاتب نفسه نجحت كطالب كأستاذ كصحفي كموظف ثم وهذا هو الأهم نجحت كأديب وها أنت نابه الذكر بعيد الصيت عارم الفكر متوقّد الخيال وما عدوت طور الشباب فماذا تريد؟. |
ويقف الراوي عند سن الأربعين حيث كان ضياء الفجر الوليد يتعثّر في أكفان الدجى العليل ويفعم صدره بنفحة العطر فانطلق إلى فراشه وهو يتمتم بالآية الكريمة: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (الأحقاف: 15). |
|