ديوان قلبي على وطني
(1)
|
|
الناشر: عبد المقصود محمد سعيد خوجه ـ جدة
|
أما شاعرية هذا الفحل الجريح، هذا البحر الطامي بدرره، وبوحشة ليله، وعواتي أمواجه، هذا الإنسان الشاعر ـ شاعريته أضعها ـ وكلى يقين ـ موضع التحدي والمباهلة مع أرباب الشعر وصناع القريض ممن سبقوه.. من وادي عبقر، ومن كل واد ارتاده الشعراء الأولون، ونهلوا منه، مستلهمين ـ بزعمهم ـ شياطينه قريضاً، أو مستوحين أملاكه معنى ونظماً. |
شاعر هو ـ يحيى ـ تعجب بروحه، وتؤخذ بنظمه، السامق اللفظ والدلالة، المحلق في أفلاك تموج بالإبداع، السابح في مجرات الحكمة يطوع الكلمة ويجعل من العبارة المأساوية وتراً منغماً يخلدها مدوية رنانة في كل أفق.. وجدته شاعراً صادقاً مبدعاً في استهلالاته ومطالع قصيده بالتشبيب الرصين، المفضي إلى الغاية المبتغاة، والمعنى المقصود، في سلاسة وطلاوة وعذوبة وجرس مطرب، موح بكل معنى رفيع، تسمعه ولا تكاد.. فتحسه يتجاوب في قلبك، ويتردد في وجدانك ويجلجل، فتؤخذ به نظماً أخاذاً كالجمان، وقريضاً مطربا. تعجب بقائله وتزهو، تكبره وتجله.. وتمضي معه صاعداً بحسك وفكرك، كلما تجاوزت بيتا رقى بك يحيى السماوي سموات وسموات من الروعة، ورقيت به إعجاباً، فلا تكاد تفارقه، حتى تضعه بين تلك الطبقة التي فرسانها حسان وابن أبي سلمى. |
في شعره المتانة عصبا، وفي الوفاء منتهاه، وفيه الصبر والأسى المتناهي، يشكر. ويصبر ينعي حكماً سام بلده خسفاً، وأياماً جرّعته غصة وضيما فلم يشرق بالغصة، ولم يقم على الضيم أو يذل له، وفي الأرض مراغم كثيرة وسعة، فهاجر إلى أطهر بقعة، وحل بأعز وطن، فإذا هو بين ذويه وأهله.. ولكن.. مهما كان من أمر فهي الغربة.. والبعد عن مراتع الطفولة والصبا، يبكيها كل حر صادق الحس.. صافي السريرة.. نقي الضمير.. فبكى ـ ويحق له ـ بكاء الرجال.. إيجاباً.. بكى أياماً كان فيها الشمل مجتمعاً، والشعب ملتئماً، قد ائتلقت الحياة، وأقبل زمان الناس بالوصل.. أياماً بكاها ونعاها قد علت فيها الوجوه النضرة والبهجة والبسامة والوضاءة ثم إذا فتنة يوقدها صدام تغتال كل هذا البهاء، ذلك يوم جثم على صدر الخير وخنقه، ثم أخذته العزّة بإثمه فسطا على جاره، وطمع في غير مطمع، وأثار فتنة أتت على نضار الحياة في العراق، فانتقضت بسببها الأحوال، واضطربت الأمور، تشتتت الأسر، تيتم الولد، وتأيمت النساء، وتفرّق الخيرون في البلاد أيدي سبأ، واختل كل ميزان، واضمحلّت الحياة، وماتت البسمة على الشفاه، وذبلت الفرحة في القلوب. |
ولم يبق إلا الجلد إهاباً يتلفعه وفي إيمان يستحلب ظئر الصبر كما صبر أولو العزم.. الرسل ومن اتبعهم بإحسان يوم تآلبت عليهم قوى الشر والبغي.. سمية.. وبلال.. وعمار.. وآله.. |
أسمعه يتجلد ويدعو للجَلَد، ويتصبّر ويدعو للصبر: |
يا آل ياسر في العراق تصبّروا |
إن الجهاد ـ إلى الجنائن ـ معبر |
سنعيد للصبح الشحيح شموسه |
مهما طغى وتعسف المتجبر |
يا آل ياسر والعذاب ثوابه |
ـ إن كان من أجل العقيدة ـ أكبر |
يا آل ياسر والصمود على القذى |
طبع لمن عرفوا الصراط وكبروا |
يا آل ياسر والحديث تعلة |
عما أصاب الرافدين وأكبر |
ما مات (عمار بن ياسر).. إنما |
مات الذي بدم ابن ياسر يأمر |
|
يا للعراق وعزها ومجدها ورجالها.. يا لأرض الرافدين يلغ فيها نذل فاسق: |
كان العراق أميرة عربية |
فتك الطغاة بها فمال المئزر |
صهل الأسى في رافديه، وحمحمت |
خيل البغاة، وفاسق متنمر |
ما ارذل الأعمار حين يقودنا |
نذل بناموس العقيدة يكفر!! |
((بعثوا)) الخطيئة فاستوت في أرضنا |
((حزباً))، عليه الملحدون تأمَّروا |
زعموا بأن المجد طوع بنانهم |
وهم الذين حضيضهم متجذر |
ظنت كلاب الليل حين استأسدت |
تغدو ليوث الصبح حين تزمجر |
إن القرود ـ وإن تسلقت الذرى ـ |
تبقى قروداً ما تطول الأدهر |
يا آل ياسر والشهادة حلمنا |
ما دام ((أبرهة)) بدجلة يمخر |
|
والسماوى المؤمن الذي يرجع كل أمره لله يحمده ويذكره في السراء والضراء لم تلهه المأساة أو تشغله فجيعة وطنه في حكمها، ومعاناة أمته الجريجة فيغفل حق الشكر والعرفان، لمن وجد عندهم السلوى والمؤاساة والتعضيد. |
من أكرموا وفادته، وأنزلوه منزله الذي يليق به وتزيَّدو.. هنا نجده ـ والفضل يعرفه ذووه ـ يهدي بعض درره للشيخ عبد المقصود خوجه، وقد صوره مطراً في كل الفصول.. وجعل هذا التشبيه عنوناً لقصيدته إليه في مطلعها يقول عنه |
تتسابقان: يداه والديم |
إن جفّ حقل واستجار فم |
يغفو على عينيه مبتهلاً: |
(عبد) و(بالمقصود) يعتصم |
فرد ـ ولكن في جوانحه |
مدن تنام، وتحتفي أمم |
|
ويمضي في نسق التعريف بأفضال هذا الفاضل لينشئ خمسة عشر بيتاً من الشعر يختتمها بقوله: |
إني سأعلن ملء حنجرتي |
من بعض مائك أينع الكلم!! |
|
وقد ضمّن هذا المعنى الأخير ما صاغه من إهداء هذا الديوان نثراً، ففي الفقرة الأخيرة من الإهداء جاء: |
(إلى الشيخ الكريم عبد المقصود خوجه أهدي مجموعتي الشعرية هذه، والتي ما كان لها أن تعشب لولا مياه أمطاره ورعايته). |
ويفيض به ما لقي من كرم الرجل فينشئ قصيدة عرفان أخرى يضمنها صدر هذا الديوان أيضاً ينادي فيها مضيفه: يا غابة الفضل. |
يصدرها بقوله: ((إلى أديب الكرم، وكريم الأدب)). |
كفى بفضلك نوراً عند ذي كمد |
أن أشمس الليل رغم الهم والنكد |
|
أما ولهه بوطنه، أما حنينه إليه، أما بكاؤه ملتاثاً لفراق الأحبة، أما تغنيه بأرض الرافدين.. أما إحساسه بالضيم، فكل هذا فلا أدّعي أني بمستطيع نقله أو تصويره.. وما أُداني إن دانيتُ.. غير أني اقتطف وانقل.. ومن نيف وعشرين قصيدة تضمنها هذا الديوان ومن ما يدانى الألفَي بيت.. أسوق من شعر يحيى.. وهو من أطلقوا عليه اسم ابن العراق: |
يدعونني بابن العراق ـ وزوجتي |
مثلي مشردة، وطفل يرضعُ |
يدعونني بابن العراق وموطني |
منفايَ والغد يا عراق مضيع |
يدعونني بابن العراق وليس لي |
من رافديه سوى الضنى بي يفرع |
|
ويعود للظئر يناجي معشوقته أرضه ووطنه: |
أدمنت حبك يا عراق فهاجني |
شوقي ولكن السنين خوابي |
|
ويقول: |
عشقي خرافي، بحجـ |
ـم الرافدين تعشقي |
كيف احتمال الجمر |
دون فراته المتدفق |
|
ويعود بعد الصبابة بالوطن يتأسى ويأسى على رغبته فيقول في (بحيرة العشق): |
قالت وفي دمها من لوعةٍ لهبُ: |
علام عيناك يرسو فيهما التعب؟ |
ولِمْ قناديلك الخضراء مطفأة |
كأنما نسيتها تلكم الشهب؟ |
ولِمْ جوادك جرح رحت تركبه |
فما يضمك بيت حيث تغترب؟ |
فبئْست الشمس إن لم تسقنا ألقاً |
وبئست الأرض لا ماء ولا خصب |
وبئس عمرك في التشريد تنفقه |
نديمك الخوف والحرمان والسغب |
فقلت: عفوك، بي من كل ناحية |
جرح يؤرق أحلامي ويغتصب |
أنا الذبيح الذي عُلّقت أزمنة |
على الدروب، ظلومي: أهلي العرب |
|
نسأل الله أن يرد غربة هذا النسر الجريح، والبلبل النائح،وأن يقيض لبلاد الرافدين من أبنائها من يقيل ـ بعون الله ـ عثرتها.. فهي أم ودود، ولود للأبطال ما عقرت ولا عقمت.. ولا استكانت يوماً لظالم فإن طال ليلها فذلك أمر الله نافذ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (الشرح: 6) و.. سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (الطلاق: 7).. |
|