شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وقفة مع ((الأربعون)) (1)
بقلم أ.د. محمد بن سعد بن حسين
جميل أن يتجّه رجل الأعمال إلى الإسهام في نشر الثقافة وتشجيع الأدب والأدباء، أقول هذا لأنهم في ذلك ينطلقون لا من قوة مادية تهيّئهم بأن يكونوا أكثر تأثيراً وأمكن عملاً وأقدر على إعطاء الحركة الفكرية دفعة إلى الأمام.
ومناسبة هذا القول أن الديوان الذي بين أيدينا من منشورات الأستاذ عبد المقصود خوجه ومعلوم ما قدّمه هذا الرجل من خدمة للفكر تتمثل في جهود كثيرة منها نشر جملة من الكتب التي منها ديوان (الأربعون) للأستاذ عبد السلام هاشم حافظ وقد نشره الأستاذ عبد القصود خوجه سنة 1412 هـ في 168 صفحة من القطع المتوسط.
افتتح الشاعر ديوانه هذا بمقدمة قال فيها أنه كان ينوي أن يكون هذا الديوان مشتملاً على ما نظم من الشعر بعد بلوغه سن الأربعين لكن حال دون ذلك نشر بعض قصائد ذاك الزمن في دواوين أخرى.
ثم انتقل إلى الحديث عن شعر الغزل وبخاصة ما اشتمل عليه هذا الديوان مما جاء في حديثه هذا قوله:
((وأرى لزاماً عليَّ أن أطرح شيئاً من الإيضاح عن قضية شعر الغزل.. والحب الذي يغلب على معظم شعر هذا ديوان.. أو حتى غيره من الشعر العاطفي.. فالواقع أن الشعر هذا لم يكن مجرّد تحبير وصياغة.. بل هو نفثات مصدور وبوح أحاسيس في مختلف معاناتها.. وهو كذلك أحلام شاعر يتضوّر بآلامه ويشعر بعذاب الآخرين.. فلا يملك إلا أن يجأر بشكواه.. في همس وفي لوعة.. وفي صراخ الصامت، لهذا لم يكن التشبيب بالجمال الحسي والتغني به إلا رمزاً لما هو أبعد وأعمق.. بل الأصح أن الإلهام كان مصدره الجمال المعنوي والروحي.. إن كان ذلك الرمز إنما هو توهم لخيال بعيد المنال.. لأنه.. لا توجد قط تلك التي يظلّ الغزل محرابها فنوناً تتنوع أو أوصافاً لا حدود لها.. كما لم تكن هناك أية رغبة في إنسانة بالذات.. كنوع من محاولة الامتلاك لكنه ـ كما ذكرت ـ خيال شاعر حالم يفتّش عن المثاليات وعن شعلة إلهام.. وما كانت تلك اللهفات والأماني إلا صور لتعابير حالمة.. ووجدانيات روح تشفّ عن أحلامها وتريد أن تسبر أغوار الحقيقة حلوة كانت أو مرة.. وتدفق الشعر كأمواج بحيرة.. تجدد فيها الانفعالات والترانيم.. مع خطرات الرياح وهبَّات النسيم.. فإذا المشاعر تصوغ عوالم وصوراً من الواقع المعاش بالحس وبالكيان وبالنظرة الواعية والهمسة الحانية.. وبكل هذا تبدع الخاطرة ألواناً من الغزل، وكأنها لونٌ من التجربة)).. غير أنه قد ورد في هذه المقدّمة ما يفيد أن هذا الغزل جار على مذهب المتغزلين من المتصوفة. وكذلك في قوله ((وهو يتجه بكل شعوره وحريق إحساساته إلى صدر الجمال والحب.. ويتطلّع في لهفة الظامئ إلى النبع الأصيل لهما في ملكوت الله الأعلى.. القلب اللهف يتعبّد في محراب جلاله.. والروح الحائرة تبحث وترتجي الوصول إلى صفاء وإلى قداساته.. وقبل كل شيء ـ هو من صور الوجد الدفين في لحظات التجلِّي الشفافة وارتقاء النفس في تطلُّعاتها الدائمة إلى مصادر الحسن الخالد..
فلا يرى هذا الحب إلا الرقي بالعواطف إلى أرفع عوالم الحياة النقية.. ولا يعالج إلا الشوق إلى أعلى فأعلى.. إلى مبدع كل جمال.. إلى القرب من جلال الله الخلاق المبدع لكل تكوين.. وإلى الرجاء في رضوانه.. وهذي هي غاية الغايات من الحب.. ومن التغنّي بالمحاسن.. بالجمال الذي لا ينفد).. المعلوم أن مثل هذا الغزل، أو المقصد في هذا الغزل غير جائز شرعاً إذ لا يجوز التغزّل في الذات الإلهية ولا فيما تختص به.
ولكن هل الشاعر صادق في هذا القول، أم أنه يبحث عن مسوغ لغزله كما فعل ابن عربي في بداية طريقه حينما أحب (نظام) بنت أستاذه حباً فنظم فيها من قصائد الغزل لايلام عليه أمثاله من العلماء فادعى أنه إنما يناجي بهذا الغزل الذات الإلهية.
ذلك ما لا يملك كلمة فصل الخطاب فيه سوى الشاعر نفسه.
على أن الحديث عن الحب يختلف فإذا كان في صورة الغزل المألوف بين البشر فنسبته إلى الذات الإلهية أمر لا يجوز مطلقاً أما إذا كان تصويراً لحب الله منزّهاً عما يخاطب به البشر فلا أرى حرجاً في قبوله والله أعلم، والذي يحكم بهذا أو ذاك هي النصوص الشرعية التي نطرق بابها بما نستقبله من هذا الحديث، وأولى هذه النصوص (إلى بهائك يا رب) فإذا كان حبه الذي وصفه في المقدمة على نحو من هذه القصيدة فهو مما لا بأس به إلا ما كان من قوله : ( وأريد أن أسمو لاعتنق الجلالة يا جليل) وهو من أبيات الروي:
((وادِّد الطرف الحيي مع الخيال إلى السماء
نجواي والآهات يا رباه ترفعها الدموع!
حيران في تيه المحبة ارتجي سبل السناء
فإلى متى يمتد بي سيري بأشواك الضلوع؟
* * *
ظمأ.. ويشعلني إلى نبع الحقيقة.. للجدال
ظمأ يسير في بيداء الحياة بلا انتهاء
ظمأ بروحي.. بالمشاعر.. بالخواطر.. بالخيال
ظمأ إليك.. إلى علاك.. إلى بهاك.. إلى الرجاء
* * *
أواه يا ربي لقد عانيت من طول الطريق
من فكريَ المحموم في دنيا التخايل والرحيل
من عالم متناقض الأشياء يسخر بالرحيق
وأريد أن أسمو لأعتنق الجلالة يا جليل
* * *
يا مصدر الإلهام والحب المقدس والنغم
ومصوِّر الحسن البهي ومبدع الأفق الظليل
خذ للمحبة في رحابك مهجتي ومدى الهمم
ليذوب قلبي في سناك.. ولا يرى إلا الجميل))
وإذا كنا قد استطعنا حمل بعض ما في قصيدته السالفة على وجه قد يكون مقبولاً فمن أين لنا المحمل الذي يسبح قوله (قالت: من أنتَ) وهي التي منها قوله:
((من أنت؟ بالإيماء قُلت هنا بنظرتك الحنون لمبسمي
أنا صانع الكلمات في عينيك أزرعها وأسقيها دمي
رفات قلبي بارتعاشي في محاسنك الوديعة ترتمي
أنا مبدع الألحان في نظراتك السكرى تجول وتحتمي
وحديثك المنغوم أفرشه لخطوك في الربيع المهلم
* * *
من أنت؟.. أشكو الأمر سيدتي لحسنك يحضن الشوق الجديد
أنا حالم.. في كونك العطري أسبح بالخيال وبالنشيد
أعرفت شاعرك الوحيد يطير في آفاقه أبداً شريد؟))
ومثل ذلك قصيدته (ملائكية) التي منها قوله:
((والحسن أهوى فيه إلهاماً يجيء ملائكياً صافيا
حسناً طفولياً بريئاً لم تلونه الأنوثة ثانيا
وجمالها لا يعرف التغرير بالشادي وفيه تعاليا))
ويكفينا تمثيلاً على أن الرجل لم يكن صادقاً في تصوفه أن نقرأ قوله:
((نشرتِ عبيرك عبر الدروب
وأنت تسيرين سير القطا
تجيئين طيفاً جميل الوثوب
وفي مقلتيك حنين الرُّبا
* * *
ويبسم ثغرك زاهي الشروق
وكفَّاك تحنو على الياسمين
تهادينه للأليف المشوق
وتروينه من شذى الياسمين
* * *
ألا مرحباً بالهدية تأتي
من الحسن في عطره الآسر
وأهلاً بهديتي الزهر.. هاتي
يداً.. تلتقي لثمة الشاكر
* * *
تعال اضمك زهر الحبيبة
وارشف من خدك الرطب نهلة
ففيك هواها ونجوى طروبة
وفيك حكاية قلب وظله
* * *
وفيك نعومتها وارتعاشي
ورفَّاتها بالجمال الزكيّ
وفيك نضارتها وانتعاشي
بمرأى صباها البريء البهيِّ
* * *
ألا ليتها تمنح النفس قبلة
وتحضنها للمدى ذات مرة
أعانقها كالعطور بليلة
ويحملنا النور للفجر زهرة))
* * *
ونمر بقصيدته (انطلاقة إلى الحياة) التي صدرها بقوله ((إلى إخوة الدم والكفاح لاستعادة القدس السليب)) فنجده فيها يتحدّث عن القضية الفلسطينية التي بدأت بواكير حلها مجزأة، وهذا من الغبن إذ كيف تأخذ الأرض دفعة واحدة ثم يتخلّى عنها مجزأة ظاهراً وباطناً؟
أما القصيدة التي وسم الديوان بعنوانها فقد ضمنها خلاصة مختصرة لسيرته الذاتية لذا جاءت متتابعة الأحداث ومتلاحمة وإن لم يكن هذا التلاحم عصي الانفعال على أنها أقرب إلى النظم منها إلى الشعر.
والأندلس حديث لم يتوقف ولحن لم ينقطع صداه، يندر أن تجد شاعراً لم يتحدّث عنه متمنياً عودة (الفردوس المفقود) كما يقولون وهيهات وهيهات والأمة على ما هي عليه من تفرق وتطاحن لكنها الأماني التي هي سلاح العاجز القاعد عن أهدافه.
وشاعرنا عبد السلام هاشم ككل أولئك الشعراء الذين نظموا في الأندلس لكنه نظم قصيدة طويلة مكوّنة من أجزاء بعنوانات مستقلة إلى كونه فيها لم يتلزم وحدة القافية كما هو شأن جل شعره وفي مطلعها يقول:
((هذا الصباح نشيد قافلة الحياة
فوق الذرى الشماء كان تبسماً
ومعالم التاريخ تسبح في ضياه
وتعيد عهد الحب حين ترنما
مع بسمة الفجر البهي صحا الشعور
وتفتح الإحساس يلتهم الشذا
يتفقد الأحلام في نفح الزهور
ويناغم الزهراء ألحان الهوى))
* * *
أما ختامها فيقول:
((حوَّاء إن لبست مجد الحياة لنا
قد صاحبت نولها بالعزم والرُّحم
غدت حضارة أجيال نجددها
والرب يكلؤنا في السعي للحرم
من الجزيرة مهد العرب منطلقي
نبني عروبتنا في وحدة العلم
إليك أندلساً نزجي تحيتنا
يضمنا فيك تاريخ من القيم
هيا نعيد تراث الفخر ثانية
نحقق الأمل المرجو من قدم
يا بنت أندلس أدعوك للقمم))
وشاعرنا عبد السلام هاشم لا يمل الحديث عن حياته. ولعلّ طول معاناته هو الذي حمله على مثل هذا الاستصحاب لتلك الأحوال التي مرّ بها في حياته وانتهت حدثاً لكنها ظلت تعيش في خلده آثاراً وأصداء وذكريات لا يملك نبذها والتخلّص منها أو لبست جزءاً من حياته بل هي حياته حقيقة لذا نجده يعاود الحديث عن تلك الحياة بعدما صاغها في قصيدته الأربعون نجده يعود إليها في قصيدته (رحيق الأيام) فيقول في مطلعها:
((أحلى لياليَّ أن أخلو مع الفِكَرِ
مع الكتاب يغذّيني مدى عمري
أحيا لفني شعوراً لا يمزقه
هول الحياة ولا يشقيه في سفري
دنيا الملا لا يُعنِّيني تطلبها
حسبي التأمل والإغراق في فكري
أمضيت شرخ الصبا في معزلي ولها
بالكتب والنور في أحضانها نظري
طوراً تحادثني الأفكار ناعمة
وأقبس العلم ميسوراً بمختصري
والروح تصفو.. وحينا ارتقي قمما
ويجهد الفكر والإحساس بالسهر
ولا أملُّ مدى الساعات أقتلها
بحثاً وأبعثها فيضاً من العبر
نشَّأت نفسي على حب الكتاب وهل
أبقى وأجمل من رفَّاتِه الزُّهر
لكن قلبي وقد أصغى لطفلته
محرابها الحسن بين الطهر والزهر
ألقى بروضتها أوهامه زمنا
غنى بها راهباً في تيهه الخفر
عاش الصبابة مسحوراً بعالمه
شعراً ولحناً.. وإلهاماً من السحر))
والشيء نفسه تجده في قصيدته (الإنسان أكبر من الألم) وفي الديوان أغراض متنوعة منها الإخوانيات ومنها المدح والرثاء والوصف وهكذا، وكلها ذات طابع واحد سمته الغالبة التكلف إلى ما أشرنا إليه من التخلّص من وحدة القافية.
ومما قد يعد من الإخوانيات وإن كان من باب شعر المدح قصيدته (يا أخا الود) التي خاطب فيها (الأستاذ محمد الشاوي) يقول في صدرها:
((أخي.. يا أخا الود.. هاك العبير
يحييك فني بنبض الشعور
لك الله من صاحب فيه أشدو
خصال الرجال.. وعزم النصير
أعدت الرضا للنفوس الحياري
وساقيت حقل الشذا والزهور
سكنت القلوب ومن ظل فيها
حوته الجوانح عش الطيور))
والاستعطاف غرض من أغراض الشعر يمتزج بالمدح كشأن شعر الإخوانيات ولشاعرنا سهم منه قصيدته ((يا نايف العز)) التي يستعطف فيها الأمير نايف بن عبد العزيز وفي صدرها يقول:
((سمو الأمير الجليل المفدى
يناجيك قلب محبٍ سليم
وأنت وديع نبيل الصفات
لطيف الشمائل.. عف كريم
لئن ضاق بي عالمي نهزةً
وقيدني الحظ بين الغيوم
فلا ترتضي سقم نفس طهور
يظللها حكم أهل الحلوم
ولن يصرع الداء قلبي المعنى
وأنتم حماه بصدر حميم
سمو الأمير وأنت ترجى
لتصحيح وضع مضى في سهوم
فمثلك والأخوة الأوفياء
من العاهل الفذ ذاك الحليم
إلى الأمراء كرام النفوس
مواليد عبد العزيز الحكيم
وقد أسس الملك عالي الجبين
ووحد موطننا للنعيم
شأونا بكم في مجالاته
إلى نهضة ترتقي بالعلوم
غدونا بها أمة للبناء
تعيد التضامن.. تحيي الرميم))
وإذا كان الرثاء من الأغراض التي تذاب فيها المهج وتعصر الأفئدة وتضرم العواطف فإنه عند شاعرنا ذلك فلقد توفيت أخته من الرضاعة فرثاها بما يدل على حبه إياها لكن رثاؤه كان دون الحدث أي أنه لا يصور تفاعلاً معه ولا يقوى على النهوض بما يستوجبه.
ولما كانت مطالع القصائد ـ عادة ـ تكون أقوى فإن تمثل من تلك القصيدة بمطلعها وهو قاله:
((أواه يا قلبي لمنقلبي
روعت في أهليك بالنوب
قالوا مضت أختاه وارتفعت
بالروح تنشد عالم الحبب
فعييت بالأفكار تسحقني
كيف الشباب يهيم بالنوب
ميعاده يبقى لجنته
في الأرض للأبناء بالسبب
لكنه أودى بروعته
أودى مع التيار للشهب))
وفي الديوان قصائد أخرى ذات موضوعات متعددة منها ما هو من شعر المناسبات الأسرية مثل موالد أبنائه وبناته عز الدين وحسين وملكة وانتصار وكزواج ابنته وهكذا تجد هذا الديوان منوع الأغراض وإن كان رتيب الأسلوب فاتر العواطف والمشاعر حيناً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :862  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 142
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.