(( فتح باب الحوار ))
|
افتتح الحوار بسؤال من الدكتور غازي زين عوض الله هو: |
- كيف يستطيع المفكر السياسي - الدكتور: مصطفى البارودي - أن يوفق بين حريته الفكرية السياسية الإبداعية، وبين الالتزامات التي تفرضها البيئة العربية على المفكر أو المبدع العربي؟ |
وأجاب الدكتور البارودي قائلاً: |
- سامح الله صاحب السؤال، ليتني أنا سألته فأجاب، ليته وضع نفسه في مكاني؛ لكني أجيب: إن الغريب يجب أن يكون أديباً، هكذا يقولون في المغرب، وحتى عندكم: على الغريب أن يكون أديباً، والله في وطني لم أكن أتحفظ أبداً، يشهد الله، ولكن يا أخي عندما أكون ضيفاً في وطن وإن كنت أعتز بأن هذا وطني - قلتها سابقاً وأعيدها - ولكن - أيضاً - أدب الغريب يقتضي أن أبقى عند حدودي؛ أعود إلى وطني حيث أستطيع أن أتكلم، فلا يتعرض أحد من أهلي للأذى، لما كنت في آخر اعتقال والله (سبحانه) هو الَّذي فرج عليَّ على يد فلان، جاء تسعة أشخاص - معاً - بعد الظهر إلى بيتي، دخلوا البيت ليأخذوا هذا الإنسان، تسعة أشخاص، قرعوا الباب، دخلوا، قالت لهم زوجتي: ماذا تريدون؟ قالوا: أين الباوردي؟ قالت لهم (هل يمكن أن تنتظروا ساعة سأطلب لكم خروفاً؛ قالوا: لا.. لا.. نحن نريد البارودي، ذهبت وقالت لهم هو في الصلاة فجلسوا.. أعطتهم قهوة، شاياً؛ أطلت عن عمد.. قالت لهم: أطال، ثم أردفت وقالت لهم: انظروا هذه المكتبة فيها تفسير سيد قطب الطبعة الأولى والثانية والثالثة، وفيها تفسير المراغي، وفيها تفسير علامة الشام جمال الدين القاسمي في سبعة عشر جزءاً، وبقدر ما هنا من تفاسير في القرآن الكريم سيجلس على سجادة الصلاة حتى ينتهي، وبطريقة أدبية بعد نصف ساعة من الأتعاب نزلت. |
- التسعة يريدون أن يلقوا بي إلى سيارة، العالم كلهم تجمعوا وأرادوا أن يلقوا بي، فآتاني الله (تعالى) البارودية، فدفعتهم عني، وقلت لهم: لا أجلس وسطكم ولا أجلس إلاَّ بجانب الباب، أتحسبون أني سأفتح الباب وأنزل؟ ولم أخش الموت بعد أن سال دم أخي على كتفي، وكنت قريباً منه في ساعة الاستشهاد. |
- يا أخي السائل حتى أستطيع أن أكتب كما تحب أعدني إلى وطن متحرر، أما هنا - أو في نيس - فإني ألتزم - ما استطعت - حدوداً أفرضها على نفسي وتأباها الكرامة؛ وحق لك أن تقول: كان يجب أن أكون.. إذا عزوت نفسي للفكر السياسي، أن أكتب بصراحة أكثر وبحرية أكثر، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. |
|
وسأل الأستاذ عدنان محمد حسن فقي قائلا: |
- ماذا يعني الشعر للمفكر السياسي الدكتور: مصطفى البارودي، أيكون محطة استراحة لهموم الحياة، أم هو هروب من معاناة الفكر السياسي، أو موقف من ذكرى حبيب؟ |
وردّ المحتفى به قائلاً: |
- والله السائل شاعر فيما أعتقد أو ابن شاعر..، يا أخي الكريم: كنت في بغداد عام 1945م، فشهدت منظراً أبكاني فقلت: - كان لي من العمر - عندئذٍ - إحدى وعشرون سنة - قلت: |
أيبكي امرؤ هب النسيم يداعبه |
ويشجى فؤاد والنعيم يواكبه |
أبغداد يا دار العروبة إنني |
بكى قلبي المتبول والحزن غالبه |
بكت مهجتي حتى إذا ما زجرتها |
عن الدمع سال الدمـع تجـري سواكبـه |
|
|
- شعر ليس بالجديد. |
- لما رأيتني أستعير ما قاله الناس قبلي، انكفأت على نفسي حتى جاء عصر الغزل فمحاه عصر الزواج.. فما أستطيع أن أنبس ببنت شفة، إلاَّ بيني وبين من بايعته على الشعر أخي أبا زياد أحمد عثمان التويجري؛ وهناك شعر سياسي مدهون كما قال أخي السائل قبل قليل الحرية السياسية؛ فما بين الغزل والسياسة مات الشعر شيئاً فشيئاً، إلاَّ أنَّ هناك بيتين لم أستعر فيهما معنى من المعاني، ولم أتطفل على شعر سابق: |
هل تذكرين الورد قد جففته |
قبلته فعساي ألثم فاك |
لما صحا من مدمعي في رعشة |
أيقنت أن مرت به شفتاك |
|
- هذا يمكن أن يقال لكن أشياء أخرى لا تقال.. أستغفر الله من قول بلا عمل، هذه ورقة الورد ليست غشاء البكارة يا سيدي.. فالشعر مدفون وهناك وزارة المستعمرات، حارسة عليه؛ قال في إحدى جلسات التحكيم الدولي تونسي يتحدث الفرنسية أحسن من العربية، قال بعد انتهاء الجلسة: أنا أدعوكم بصفتي رئيس الجلسة، ولا أريد أن أتحيز لأحد دون آخر، فقلت له: فاجأتنا، أنا لا أستطيع لأن وزارة الداخلية ما أذنت، قال: ومن وزارة الداخلية؟ قلت له: الأهل، قال: لا نحن في تونس بعد أن جاوزت المرأة كل حد سميناها وزارة الاستعمار.. فوزارة الاستعمار تفرض الرقابة التي نشكو منها جميعاً، ثم السياسة من يخوض فيها يدفع الثمن غالياً من كرامته؛ ومع اقتراب الأجل نرفع شيئاً من العبء ما أمكن عن أولادنا وأحفادنا في البلد الَّذي غادرناه. |
|
ثم سأل الأستاذ عبد الله ترجمان قائلاً: |
- أين موقعنا نحن العرب من خارطة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، في رأي مفكرنا الدكتور مصطفى البارودي؟ مع الشكر. |
فردّ عليه الدكتور البارودي قائلا: |
ما مقامي بأرض نخلة إلاَّ |
كمقام المسيح بين اليهود |
|
|
- فالمسلمون الآن كمقام المسيح بين اليهود.. هذا مقامنا وهذا موضعنا، ولكن لا نيأس من روح الله، إن في هذه الأمة رجالاً إذا أرادوا.. فالله أراد أنْ ينتظر منهم أن يتماسكوا، وأن يتعاونوا، وأن يتعاضدوا، وأن يتآخوا، وأن يكونوا أبراراً.. خياراً.. أطهاراً، وأن يكونوا أصفياء.. أنقياء، وأن يأخذوا باليمين مهمة وضعها الله في أعناقهم، وهي أن يرفعوا راية فيها شرف الإِسلام والإيمان فيها الكلمات التي تحيي في القلوب النخوة دون تجاوز، دون تطرف، ودون تراجع بأي وجه من الوجوه. |
|
- إنني أقول: لا نيأس من روح الله، سيأتـي اليوم وإن غداً لناظره قريـب، أليس الصبح بقريب؟ مهما طالت الليالي مهما كانت فيها أوجاع فإن الدواء يأتي، والله ما أنزل داء إلاَّ وأنزل له دواء؛ أنزل داء الانقلابات لأننا نحن أسأنا: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا جاء التدمير في أخلاقنا، في كياننا، في أجيالنا، في عائلاتنا، الطفل الصغير يرى أفلاماً لا يجوز أن ترى؛ وقف خطيب على المنبر في دمشق في جامع بدر، فتحدث عن الأفلام الخليعة وكيف تجري في البيوت، وروى قصة.. لما نزل قلت له: سامحك الله ما كان لك أن ترويها على المنبر، لأنَّ في المسجد فتياناً سمعوها فقد يطبقونها عن براءة، ومن هنا تأتي الكارثة. |
|
- وآليت ألاَّ أدخل المسجد طالما هو خطيب.. هذه آفتنا يا أخي، لكن الدرع الواقي هو الإِسلام الحقيقي، لا إفراط ولا تفريط، لا اندفاع كاندفاع البارودي بلا معنى، ولا تراجع كتراجعه، حين يضيع كرامة المفكر، ولا نيأس من روح الله، وإن شاء الله إن الصبح قريب، وهذا موعد من عند الله ووعد غير مكذوب - إن شاء الله -. |
وقُرئت رسالة صغيرة بعث بها الدكتور محمود حسن زيني قال فيها: |
- ضيفنا الكريم الدكتور البارودي: ونحن إذ نحتفل بكم الليلة ونعتز بريادتكم، في عالم الدراسات القانونية والسياسية، ولقد تركتم بصمات كثيرة في أرجاء العالم العربي والإِسلامي، بما تميزت به مؤلفاتكم الجمة في القانون.. والأدب.. والحقوق؛ فإننا نذكر جهادكم واغترابكم في سبيل الدفاع عن حقوق الشعب العربي والإِسلامي، ونعرف أن الغربة، وكثرة الرزايا، وصروف الزمان لا تزيدكم إلا ثباتاً وصلابة في شيمتكم وكأننا بكم تمثلون أمامنا ما كان يعبر به عن نفسه القاضي الأسواني أحد فقهاء وأدباء القرن السادس الهجري: |
جلت لـدي الرزايا بـل جَلَـتْ هِمَمـي |
وهل يضر جلاء الصارم الذكر |
غيري يغيره عن حسن شيمته |
صرف الزمان وما يأتي من الغير |
لو كانت النار للياقوت محرقة |
لكان يشتبه الياقوت بالحجر |
فلا تظن خفاء النجم من صغر |
فالذنب في ذاك محمول على البصر |
|
|
- وفي نهاية كلمته يقول الدكتور زيني: نطلب من معالي الدكتور البارودي ونناشده العودة إلينا من غربته في فرنسا، فإننا نحبكم في الله؛ من محبكم محمود حسن زيني. |
|
وردّ الدكتور البارودي على كلمة الدكتور محمود زيني بقوله: |
- أشكر لأخي الكريم هذه الدعوة؛ أنا أتساءل هل يمكن للنحل أن يعاف الزهر؟ هل يمكن للأطيار ألا تغرد؟ حيث الأطيار مقبولة لا مقصوصة الجناح، هيض جناحي في غربتي، وأتمنى أن يكون قريباً من الحرمين؛ لأن الأجل قريب.. ولكن ما حيلتي؟ يشهد الله أنني في مقام هناك، فيه من إنعام الله عليَّ ما يشهد به بحر عن يميني وبحر عن شمالي، وأنا في هضبة تشبه روابي لبنان فوق بيروت، أو حي الهدار فوق حيفا.. وقد رأيتها، ولي من العمر عشرون عاماً، المقام جميل لكن لا تقع العين إلاَّ على محرم، وأخاف من ربي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ وإني أتمنى أن أعود - يا أخي - ولكن هذا يقتضي كرامتي وأن تحفظ، فأنا أفضل أن أموت عزيزاً على أن أذل شعرة واحدة، ويشهد على ذلك ربي وكثيرون، ولعل أبا زياد أحمد عثمان التويجري يشهد أيضاً. |
|
وسأل الأستاذ عبد المجيد الزهراء قائلاً: |
- سعادة الأستاذ: كنا نسمع من بعض أهالينا - الأكبر منا سناً - بأن هناك من ترافع عنكم مرافعة عاطفية جياشة من أقربائكم، فنرجو أن نسمع عن هذه المرافعة شيئاً قليلاً، والتي تحدث عنها أهل دمشق حينئذٍ؟ |
وأجاب الضيف على سؤال السائل بقوله: |
- مرافعة؟ من ترافع عني؟ أنا - والحمد لله - حين قضي عليَّ بالعزل المدني قضي عليَّ بقرار إداري، بقرار اعتباطي، بقرار انقلابي، بقرار عسكري، فلم أحاكم؛ أما إذا قلت: ترافعوا عني - أي توسطوا لدى كبار القادة - فأذكر - مثلاً - أن الشيشكلي أراد أن يعتقلني؛ رحم الله إنساناً طيباً اسمه سعيد تلاوي؛ وكان من الكُتَّاب الصحفيين الطيبين؛ لكن الفارق بينه وبين غيره أنه استطاع أن يعيش، بينما غيره فضلوا الفقر والفاقة؛ كان الشيشكلي يقدمه فقال له: اسمع حديث مصطفى قبل أن تعتقله، فترافعت عن نفسي، وقد سمع الحديث الَّذي دار بيني وبينه ملازم كان يشغل مدير مكتب الشيشكلي، وقد هاجمني الشيشكلي وهاجمته وبينت له أخطاءه؛ وبعد أخذ ورد قال للتلاوي: والله اشتهيت أن أسجنه لكن سامحه الله؛ كان كريماً معي فلأشهد له بذلك.. فلم يسجنِّي؛ لكنهم دبروا لي إيفاداً - عاماً كاملاً حرمت فيه من التدريس - إلى إسبانيا عام 1954م، وهناك تعلمت الإسبانية؛ اللغة الإسبانية فيها كلمات عربية كثيرة، لكن النطق يعود للأصالة العربية؛ وأسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يوفقنا - جميعاً - إلى ما يحب ويرضى؛ وأعتذر عن الإطالة. |
|
وسأل الأستاذ نبيل خياط - مدير العلاقات العامة بنادي مكة الثقافي الأدبي - فقال: |
- كيف يمكننا تلمس واقع الثقافة العربية - الآن - إيجاباً وسلباً؟ |
|
وأجاب الدكتور البارودي قائلاً: |
- أليس هذا المجلس يدل على أن الثقافة العربية بخير؟ أليست المجلات الكثيرة - التي تصدر في هذه المملكة وبحرية - مليئة بما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وليست زبداً يذهب جفاء، وإنما هي ذهب.. كلما مضى عليه الزمان ازداد ثمنه؟.. |
|
- المجلات كثيرة والصفحة الأدبية.. أطلعني أخي من جريدة الندوة، وأخي من جريدة المدينة المنوَّرة، واطلعت على صفحات أخرى على زاد كثير.. إن في المملكة أعلاماً وأدباء لو تعدهم إنهم كنعمة الله التي لا تحصى؛ نحتاج فقط إلى مجلس يتكرر، لو أن كل كرام الناس فعلوا فعل الشيخ عبد المقصود خوجه لازداد الأمر وضوحاً، وبياناً، واعتزازاً، - إن شاء الله -. |
|
وسأل الأستاذ محمود السعيد الأهدل قائلاً: |
- ذكر صاحب الاثنينية - في تقديمه لكم -: إن من سخرية القدر أن تعودوا إلى فرنسا الدولة التي كانت مستعمرة؛ والسؤال ما هي سياسة الغرب في احتضان أعلام العرب وسياسييهم في ذلك؟ |
ورد الضيف على السؤال بقوله: |
- فرنسا تعتز بأنها البلد الَّذي يستطيع أن يفد إليه كل مظلوم؛ ولكن أريد هنا - بمناسبة وجودي في فرنسا - أن أعرج على عام 1946م، كان هناك في سورية شخص اسمه ساطع الحصري، يقولون عنه إنه أبو القومية العربية، شهد الله أنه لا ينطق العربية؛ عام 45/ 46 استدعاني ورطن معي بما يشبه الفلبينية.. قلت له: أريد أن أذهب إلى فرنسا؛ وقال: خائن.. أستغفر الله أنا خائن ودم أخي الشهيد على كتفي؟ قال: أخوك مسلم صديقي في العراك؛ وأنت خائن مرتين.. تخون أخاك وتخون الوطن؛ قلت له: الثقافة لا حدود لها، والرسول صلى الله عليه وسلم ينصحنا أن نطلب العلم في أي مكان، ثم من تعلم لغة قوم أمن مكرهم، وأريد أن أتعلم اللغة الفرنسية في عقر دار الفرنسيين؛ وهنالك أستطيع أن أقول: إني انتقمت لدم أخي، وكتبت في أطروحتي ما يؤكد أني انتقمت لدم أخي، وأهديتها لأخي، واقتبست فيها من أطروحة معالي الدكتور العجلاني، قلت في الجلسة الماضية: إنني تتلمذت عليه حتى في أطروحتي، مثلما أنا تلميذ حسان المحاسني وتلميذ محمود النفوري، تلميذ الأجلاء منكم جميعاً. |
- فيا أخي الكريم: لسنا هنا في معرض الإجابة عن كل سؤال، ولكن حسبي أن أقول القليل.. لعل فيما قل ما يدل. |
|
وسأل الأستاذ عبد الحميد محمد راضي قائلاً: |
- هالني حماسك وأنت الآن في سن السبعين - ما شاء الله - فكيف بك أنت في ريعان الشباب؟ وما هي المدارس المعاصرة التي أثرت فيكم فكراً حماساً؟ |
فأجاب المحتفى به الدكتور البارودي على سؤال السائل بقوله: |
- الحمد لله أن المدرسة الوجودية لم تستطع أن تؤثر بي، الحمد لله أني لم أتأثر بالمدرسة الشيوعية، الماركسية اللينينية؛ مدرستي ظلت وستبقى أبد الدهر القرآن الكريم؛ رحم الله أبي وأمي إذ جعلاني أدرس في الكاملية للقرآن الكريم، التي تحدث عنها الطنطاوي في ذكرياته؛ وأساتذتي في الكاملية للقرآن الكريم كانوا جهابذة، إني أتحدى بهم أساتذة الجامعات في كل البلاد العربية؛ أستاذي في اللغة العربية الشيخ عبد الله الحمصي (رحمه الله) والشيخ صالح فرفور (رحمه الله). |
|
|